20 مايو 2022

القدسُ بعد عامٍ على هبّتها: كيف يُصانُ الأمل؟

القدسُ بعد عامٍ على هبّتها: كيف يُصانُ الأمل؟

كانت مدينة القدس مركز انطلاقٍ للهبّة الشعبيّة في مايو/ أيّار 2021، وسبباً رئيسيّاً لدخول المقاومة في قطاع غزّة معركة "سيف القدس". في هذا المقال، نعود إلى المدينة لنُطلّ على أبرز التطوّرات خلال عام الهبّة فنُجملها ونحاول تحليلها. ينقسم المقال إلى ثلاثة أقسام، بحسب نقاط المواجهة الرئيسة التي شهدتها المدينة خلال الهبّة: باب العامود، الشيخ جرّاح، المسجد الأقصى.

باب العامود

استبقت شرطة الاحتلال هذا العام أيَّ أحداثٍ محتملة، وأعلنت مُبكّراً أنّها لن تُغلق مُدرَج باب العامود، و"ستسمح" للشبان بالجلوس فيه خلال ليالي رمضان، وأنّها ستُنظّم هناك "فعالياتٍ ثقافيّة وبسطات للمأكولات" بمناسبة الشهر الفضيل. سحبت بذلك شرطةُ الاحتلال الفتيلَ الأول الذي أطلق المواجهةَ في القدس العام الماضي.

فَتَح الاحتلال المُدرج، لكنّه لم يتراجع عن سياساته الاستعماريّة بإعادة تشكيل الحضور الفلسطينيّ في باب العامود، بما يتناسب مع أجندته في فرض هيمنته، ومع محاولةٍ للترويج للقدس كمدينة صهيونيّة متعددة الأديان ترعى فيها "إسرائيل" حتى الاحتفالات بأعياد المسلمين. 

جرت إعادةُ التشكيل هذه من خلال سماح بلدية الاحتلال لعددٍ من تُجّار البسطات بعرض بضائعهم على المدرّج، لتلعب بسطاتهم دوراً مُعطِّلاً لإمكانيات التحرّك الحرّ والسهل في حال اندلاع أي مواجهة ضدّ الاحتلال.1احتلت إحدى تلك البسطات الدرجات الأربع الأخيرة من الجهة الشرقيّة للمدرج، وسُيّجت بسواتر حديديّة شبيهة بتلك التي استخدمتها الشرطة سابقاً لإغلاق المُدرج. بثت بعض هذه البسطات أغانٍ دينيّة وشعبيّة في محاولة لخلق "جوٍّ احتفاليّ". يُذكر أنّه عادةً ما تنُنظّم بلدية الاحتلال حفلات رمضانية عند باب العامود، لكن رمضان 2022 مرّ دون تنظيم أي حفلات كبيرة تذكر. ليست هذه المرة الأولى التي توظّف سلطاتُ الاحتلال البسطات لتحقيق مرادها، وذاكرة مايو/ أيّار 2021 ما زالت حيّة بالدور الذي قامت به في حينه. لكن ذلك لم يؤدِ إلى تطور موقفٍ واسع يطرح سؤال التعامل معها بما يضمن تجاوز دورها.

اقرؤوا المزيد: حفلات رمضانيّة في باب العامود.. نوعٌ آخر من السواتر.

بعد تشكيلها لمشهد المُدرّج، عمدت شُرطة الاحتلال إلى استهداف من تعتبرهم "مثيرين للشغب" بشكلٍ حصريّ، دون أن تذهب إلى استخدام أدواتٍ تفضّ التجمّعات الكبيرة كما جرت العادة. فمثلاً لم تستخدم سيّارة المياه العادمة، ولم يتجاوز استعمالها لقنابل الصوت أصابع اليد الواحدة، وهما الوسيلتان اللتان حضرتا بكثافة في شوارع القدس العام الماضي. 

فتية وشبان فلسطينيون يقفون بالقرب من باب العامود في إحدى ليالي رمضان، 4 أبريل/نيسان 2022، بينما يمرّ من أمامهم جندي من جنود الاحتلال. (عدسة: مصطفى الخاروف/ الأناضول).

انعكس ذلك أيضاً على "التدخّل الأمنيّ" وطريقة الاعتقالات. ففي حين كان يعلو من المدرج ضجيجُ الشباب والأغاني المبثّة من البسطات، كانت شرطة الاحتلال تندسُّ بـ"هدوء" بين الناس المُتجمعين على طول شارع السلطان سليمان (أعلى المدرج)، وصولاً إلى شارع نابلس، وإلى باب الساهرة شرقاً، في طريقها للوصول إلى شابٍ بعينه، تعتقله، ثمّ تنسحب بـ"هدوء". 

وفي أحيانٍ أخرى، كان تدخّلها لا يتطلب أكثر من شرطيٍّ بلباسٍ أزرق ينطق بالعربيّة، يتوجّه لمجموعة من الشبان "ناصحاً"، بأن يهتفوا كما شاءوا، ولكن لا يهتفوا لمحمد الضيف، ولا "خيبر خيبر يا يهود".2كان من النصائح الأمنية التي وجّهها بعض الإسرائيليين للتعامل مع الفلسطينيّين خلال ندوةٍ نظمّتها مؤسسة إسرائيلية باسم "عير عاميم"، هي أن يكون التعامل من خلال عناصر الشرطة "العاديين"، من يلبسون القمصان الزرقاء، لا من عناصر حرس الحدود أو القوات الخاصّة. خاصةً أنَّ عناصر الشرطة "العاديين" لا يُغطون وجوههم أو رؤوسهم ولا يحملون عتاداً مكثّفاً من الأسلحة، وهو ما يعني حمولةً عسكريّةً أقلّ قد تساهم في "التفاهم" مع الشبان. رغم ذلك، لم تخلو بعض الاعتقالات من التنكيل والاعتداء العنيف جداً، وبتدخلٍ من عناصر المستعربين لبثّ الرعب بين الناس، أو باستخدامٍ إجراميّ للهراوات، دون أن يتطوّر ذلك لعملية تفريقٍ واسعة وشاملة. 

استعان الاحتلال في تنفيذ سياسته هذه بوسائل المراقبة التقنيّة المتطوّرة المنتشرة في المنطقة، وربّما هذا ما يُفسّر تركيب كشّافات الإنارة فوق الأبراج العسكريّة مطلع أبريل/ نيسان الماضي، أي أنّها جاءت لضمان تسجيلٍ مرئيّ أوضح لتحرّكات الشبان. وهذا أيضاً ما ساعد فيه مقرُّ العمليات المُتنقل، الذي نصبه الاحتلال للإشراف على عملياته وقيادة وتوجيه تحركات جنوده في الميدان. 

اقرؤوا المزيد: الاحتلال يُجدّد حربه في باب العامود.

بناءً على ذلك، يُمكن القول إنّ توجه شرطة الاحتلال في باب العامود لهذا العام، كان يعتمد على منطق "التهدئة" قدر الإمكان عن طريق الامتناع عن نصب السواتر، ومن ثمّ "تحييد العناصر الإشكاليّة" بالنسبة لها، دون الاضطرار إلى استخدام ترسانة أسلحتها لتفريق المجموع البشريّ. 

في ضوء ذلك لم يرقَ ما سُجّل من اعتداءات، خاصّةً في الأسبوعين الأوليين من رمضان، إلى مستوى "مواجهات". ومن الضروريّ هنا التنبيه إلى دور الإعلام في توصيف ما يحدث بدقة وحساسية منعاً لتضخيم الأمور، ومن ثم إحباط الناس دون الإجابة عن تساؤلاتهم.

يُذكر أنّ بعض سياسات التدخل الإسرائيليّ بدأت قبل رمضان، وانعكست على شكل تحفيزٍ لبعض النقاشات. يمكن هنا الإشارة إلى فيديوهات مموّلة نشرتها صفحاتٌ مرتبطة بالمخابرات الإسرائيليّة، مثل صفحة "بدنا نعيش"، ظهر من فيها وهم يدعون إلى "تجنيب النساء والأطفال المشاكل" في باب العامود، ويطلقون الأوصاف السلبيّة على الشبان ويُشكّكون في نواياهم وتوجهاتهم.3وقد تكثف نشر هذه الفيديوهات وتداولها وتمويلها بعد احتفال الإسراء والمعراج في 28 فبراير/ شباط 2022، والذي تعمدت خلاله شرطة الاحتلال الهجوم على العائلات المُحتفلة في باب العامود بدرجاتٍ متقدمةٍ من العنف، وباعتقال عشرات الأطفال. وكانت إحدى الفيديوهات تُنوه إلى أنّ "أهالي القدس لا يريدون لذلك المشهد أن يتكرر في رمضان".

مشهد من مدرج باب العامود وساحته في إحدى ليالي رمضان، 21 أبريل/نيسان 2022. (عدسة: معمر عوض/ وكالة شينخوا الصينية).

الشيخ جرّاح

في قضية الشيخ جرّاح الكثير من الملاحظات التي يمكن رصدها على مدار العام، نتطرق هنا إلى ثلاث منها.

تتعلق الأولى بالقضاء الإسرائيليّ ودوره في إنفاذ سياسات الاحتلال، إذ وُظِّف من أجل الدفع نحو تهدئة الشارع. أبرز مثال على ذلك ما حدث في 9 مايو/ أيّار 2021، في خضّم الهبّة الشعبيّة، عندما أعلنت المحكمة العليا الإسرائيلية عن تأجيل جلسة الاستماع التي كان من المفترض أن تُعقد في اليوم التالي، وكان ذلك بعد تحذيراتٍ أمنيّة من أنَّ التداول في القضية في ظلّ غليان الشارع سيؤدي إلى تصعيدٍ في المواجهة.4عُقِدَت الجلسة لاحقاً في 3 أغسطس/ آب 2021، بعد أن ساد الشارع نوعٌ من الهدوء. 

اقرؤوا المزيد: تأجيل المحاكم ليس انتصاراً.

وفي 1 مارس/ آذار 2022، وفي ظل حديثٍ متزايد عن احتمال اندلاع مواجهة في رمضان، أعلنت المحكمة العليا عن قرارها النهائي فيما يخصّ تهجير عائلات الشيخ جرّاح (كرم الجاعوني)، والذي اعتُبر بنظر المحامين وبعض المهتمين إنجازاً مهماً. وهكذا سحبت "إسرائيل" فتيلاً آخر كان يُمكن أن يمد احتمالات التصعيد في رمضان الأخير بالمزيد من الحطب.

وِفق القرار ألغت المحكمة أوامر تهجير السكّان، لكنها لم تُصدر حكماً في موضوع "النزاع على ملكية الأرض" بين الفلسطينيّين والمستوطنين، وقالت إنّ ذلك ليس من اختصاصها. لذلك حوّلت البتّ فيه إلى مشروع "تسوية الأراضي"، الذي أطلقه الاحتلال في القدس عام 2018 ضمن خطّته الخمسيّة لإحكام تهويد المدينة وأسرلة أهلها، والذي يُهدّد بسيطرة الاحتلال على 60% من أراضي المقدسيين.5مشروع تسوية الأراضي هو مشروعٌ إسرائيلي انطلق عام 2018، بهدف تسجيل أراضي شرق القدس في السجل العقاري الإسرائيلي، وذلك بعد أن توقف تسجيلها بقرار من سلطات الاحتلال بعد حرب 1967. يستهدف المشروع بطبيعة الحال التهام أكبر عدد ممكن من أراضي المقدسيين، التي لم تُسجّل في السجل العقاري الأردنيّ قبل عام 1967، والتي يفقد أهلها الكثير من الأوراق الثبوتية اللازمة لإثبات ملكيتهم لها. وقد سبق أن حذرت طوال العام الماضي مؤسساتٌ حقوقيّةٌ فلسطينيّة من مخاطر هذا المشروع، وقالت إنّه يُهدد بسرقة ما يقارب 60% من الأراضي في شرق القدس. وهو مشروع تشترك فيه جهات إسرائيلية لطالما عملت على سلب الفلسطينيين أراضيهم، كدائرة حارس أملاك الغائبين. 

مشهد من مظاهرة نظّمها من يُسمّون نشطاء يسار إسرائيليين، وشارك فيها فلسطينيون، احتجاجاً على مخططات تهجير الشيخ جرّاح، 18 فبراير/شباط 2022. (عدسة: مصطفى الخاروف/ الأناضول).

بالنظر إلى "الوضع القانونيّ الضعيف" لادعاءات الأهالي أمام المحاكم، وإلى السقف المنخفض الذي يمكن توقعه من تلك المحاكم، فإنّه يمكن اعتبار قرار إلغاء أوامر التهجير (الإخلاء) إنجازاً مقبولاً، على الأقلّ لن يُهجّروا من بيوتهم في المستقبل القريب (وهو بالطبع إنجاز لم يكن ليتأتى لولا صمود الناس على مدار سنوات طويلة من الاستهداف وما وقع من هبّة ومعركة خلال العام الماضي). إلا أنّه يتوجب الحذر من أنّ تحويل "البتّ في الملكية" إلى "مشروع تسوية الأراضي" يعني ضمنيّاً أن يُبتَّ فيها لصالح المستوطنين، كما حصل تماماً في قضية الحيّ الغربيّ من الشيخ جرّاح، والذي صدر قرار بشأنه (في مايو/ أيار 2021) من ذات المشروع يحكمُ بملكية الأراضي لصالح المستوطنين. 

اقرؤوا المزيد: الخطّة الخمسيّة.. ماذا تفعل "إسرائيل" في القدس؟

يعني ذلك ممّا يعنيه: أنّ الاحتلال مستمرٌ في مشاريعه الاستعماريّة، ولكنه لا يمانع من تأجيلها بحثاً عن فرصة هدوءٍ مُناسبة لتنفيذها بأقلّ ثمنٍ ممكن، وهو ما يستدعي دوماً الانتباه لما يُمرَّر في الوقت الذي تفرغ فيه الشوارع من المواجهات والمظاهرات.6وإذا أردنا تقييم الأمر "قانونيّاً"، وبعيداً عن النظرة السياسيّة، فإنّ الأهالي لا يملكون حتى اللحظة ما يُقدّمونه من أوراقٍ رسميّةٍ وقوية تؤكد ملكيتهم للأراضي. وهذا ما دلّ عليه المؤتمر المقتضب الذي عقدوه في 28 مارس/ آذار بالتزامن مع زيارة الملك الأردني لرام الله، لمطالبة الأردن بتوفير ما يلزم من وثائق ومستندات.

ينقلنا الاستنتاجُ الأخير إلى الملاحظة الثانية، وهي قضية الالتفاف الشعبيّ حول الشيخ جرّاح، وهي واحدةٌ من أهمّ إنجازات الهبّة والمعركة. فما دام الأمر كذلك، وما دامت "معركتنا لتثبيت أرضنا وبيوتنا لم تنتهِ، بل ابتدأت الآن من جديد"، كما عبّر عن ذلك بيان العائلات الذي علّق على القرار النهائي، فإنّه من المهم أن يُستثمر في الالتفاف الشعبيّ حتى يكون التفافاً دائماً ثابتاً غير موسميّ، واعياً بالمخاطر المحدقة، ومستنداً إلى قاعدةٍ وطنيّة واضحة، لا تخترقها المصالح الفئويّة ولا دعوات التهدئة والقبول بالأمر الواقع أو الإيمان بسقف القضاء.

لقد اعتدنا في القدس على موسميّة الالتفاف الشعبيّ، وهذا يعني - فيما يتعلق بالشيخ جرّاح -  فتح الباب مرةً أخرى لما يُسمّى بـ"اليسار الإسرائيليّ" ليعود ويُمرّر أجندته وخطابه على العائلات، فإنّ غياب الإسناد الشعبيّ والوطنيّ يترك المجال أمام مثلَ هذه التدخلات. والأخطر أنّ تلك الموسميّة تعني حرمان العائلات من دعمٍ وإسنادٍ شعبيّ وطنيّ يُعزِّز من صمودهم ويمنع تراكم الضغوط عليهم (دون أن يُعفَوا من المسؤولية)، وهي الضغوط التي كادت أن تودي بهم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 إلى القبول بمضمون صفقةٍ عرضتها عليهم المحكمة العليا تجعلهم يعترفون بملكية المستوطنين لمنازلهم.7يُذكر أنّ هذا الالتفاف الشعبي جاء بعد سنواتٍ عجاف، تُرِك فيها أهالي الشيخ جرّاح أمام تهديدات التهجير وحيدين إلا من "تضامن" نشطاء ما يُسمّى "اليسار الإسرائيليّ". وذلك رغم أنَّ قضية "كرم الجاعوني" لم تبدأ عام 2021، بل يتجاوز عمرها الأربعة عقود ويمكن الإشارة إلى تطوراتها الأخيرة بدءاً من عام 2008.

اقرؤوا المزيد: التسوية.. مدخل "إسرائيل" لسرقة أراضي القدس.

في حينه، لولا النشر الإعلاميّ عبر شبكة القسطل الإخباريّة، لما عاد الناس والمهتمون -على اختلاف دوافعهم الحقيقيّة- للحديث مع العائلات ودعم صمودها وتنبيهها إلى خطورة القبول بتلك الصفقة، وبالتالي دفع المحامين للردّ على المحكمة برفضها كليّاً. وقد خرج الأهالي في نهار 2 نوفمبر/ تشرين الثاني ببيان صحافيّ يؤكد هذا الرفض.

وكان من ملامح موسمية هذا الالتفاف الشعبيّ ضعف الحضور المقدسيّ حول قضية عائلة سالم في الحيّ الغربيّ في فبراير/شباط الماضي. ينقلنا هذا الأمر إلى الملاحظة الثالثة، وتتعلق بالشكل الذي اتخذه حضورُ حركة "فتح" من خلال إقليمها ونشطائِها في القدس في حي الشيخ جرّاح، خلال تلك الفترة (فبراير 2022). بدلاً من أن تحضر حركة "فتح" كحركةٍ فلسطينيّةٍ لها تاريخها النضاليّ الطويل في مقارعة الاحتلال، فإنّ حضورها في الحي كان محكوماً ومنقاداً بأجندة السلطة الفلسطينيّة الساعية لضبط المواجهة وعدم رفع سقفها وتحقيق مكتسباتٍ شخصيّة منها.8ما زالت عائلة سالم في الحيّ الغربيّ تنتظر نظر المحاكم الإسرائيلية في أمر تهجيرها. وكان قرار سابق صدر في مطلع مارس/ آذار 2022 بإخلاء العائلة. أُجل هذا القرار لاحقاً حتى لا يحدث التهجير بالتزامن مع شهر رمضان.  

الشيخ عكرمة صبري يؤم المصلين لصلاة الجمعة في الحيّ الغربيّ في الشيخ جرّاح، 18 فبراير/ شباط 2022. (عدسة: مصطفى الخاروف/ الأناضول).

يمكن رصد ذلك من خلال الشكل الكرنفاليّ الذي ساد في بعض الأيام؛ كإقامة حفلة "عيد ميلاد" والغناء الشعبيّ، وهو الشكل الذي ترافق مع الحرص على عدم تطوّر الأمر إلى مواجهة مع الاحتلال. بعد نهاية إحدى صلوات الجمعة التي نظّمتها الحركة، بدأ أحد الشبان بالهتاف، لعل وعسى أن يتحول التجمع إلى مظاهرة احتجاجيّة، فأوعزت له إحدى الشخصيات الفتحاويّة بالهدوء. كان ذلك مصحوباً بحرصٍ على تصوير كلِّ نشاط أو تصريح لنقل تفاصيله لـ"سيادة الرئيس" في سعي واضحٍ لتحقيق نقاط استحقاق أمامه.

يُعيدنا ذلك مرةً أخرى إلى قضية الالتفاف الشعبيّ المستند إلى قاعدة وطنيّة نقية من الأجندات السلطويّة والمصالح الشخصيّة. ويُذكّرنا كذلك بما تركته سياسات "إسرائيل" المكثّفة في استهداف العمل السياسيّ التنظيميّ الفلسطينيّ في المدينة، وإغلاقٍ للمؤسسات الوطنيّة، من فراغٍ سياسيّ هائل، ومن غيابٍ لرؤى استراتيجيّة تُعين الفاعلين في هذه المدينة.

المسجد الأقصى

رغم أنّ عام 2021 شهد إنجازاً هامّاً في إفشال اقتحام "يوم القدس"، إلا أنّه لم تتم المراكمة عليه في صدّ اقتحاماتٍ خطيرة لاحقاً. فقد كان هذا العام من أشدّ الأعوام قسوةً على الأقصى من ناحية عدد المقتحمين (أكثر من 34 ألف مستوطن مقارنةً بـ29 ألف في العام 2019)9تجري المقارنة هنا مع عام 2019 لا مع عام 2020 لأن الأخير شهد إغلاقات واسعة للأقصى بسبب كورونا.. وكذلك من ناحية تقّدم جماعات الهيكل في أدائها للطقوس العباديّة التوراتية داخل المسجد، وبالذات في الأعياد اليهوديّة (خراب الهيكل، رأس السنة، العرش، الأنوار)، والذي وفّرت له شرطة الاحتلال كلّ الدعم والحماية.10هذه الأعياد التي تسعى "إسرائيل" لتثبيتها كمناسبة أساسية لتعزيز اقتحام الأقصى دون التراجع عنها، حتى لو تزامنت مع أعيادٍ أو مناسباتٍ إسلاميّة، وفي سبيل ذلك تغلق المسجد أمام المسلمين، وتدقق في هوياتهم، وتعتقل من يبادر منهم حتى للجلوس في مسار الاقتحام.

خلال الأعياد المذكورة، ترافق عدد المقتحمين المرتفع مع أداءٍ علنيٍّ وصارخ، فرديٍّ وجماعيٍّ، للصلوات اليهوديّة. وخلال عيد رأس السنة بالذات نُفخ في البوق مرتين في داخل الأقصى، ورُفع العلم الإسرائيلي، وأنشد النشيد الوطنيّ الإسرائيليّ، وقُدِّمت شروحاتٌ توراتيّة وأُدخلت عَدّة للصلاة لم يسبق أن دخلت الأقصى مثل "كتاب المزامير"، وكذلك اقتحم عددٌ من المستوطنين المسجد بزيّ عباديّ خاص يعرف "بملابس التوبة". 

أما هذا العام، فقد عوّل الكثيرون على تزامن عيد الفصح اليهوديّ مع الأسبوع الثالث من رمضان، واعتبروه فرصةً لتزايد أعداد المصلين في المسجد، وبالتالي ازدياد احتمالية إفشال الاقتحام، إلا أن ذلك لم يحصل. في تلك الفترة، وبنيّة إفشال ذبح القرابين خلال عيد الفصح (والتي نُشر عنها بكثافة بالغة، وبالذات ما قيل إنّه سيحصل يوم الجمعة 15 أبريل/ نيسان)، رابط المئات من الشبان ليلة الجمعة وخاضوا مواجهةً عنيفةً وشجاعةً ضدّ قوات الاحتلال نهاراً. 

اقتحمت تلك القوات المسجد بعنفٍ وإجرامٍ غير مسبوق وصل إلى داخل المصلّى القبلي، واعتقلت ما يقارب 470 شاباً فلسطينيّاً جملةً واحدة. أُفرج عن غالبية هؤلاء، ولكن بشرط الإبعاد لفتراتٍ زمنيّةٍ طويلة عن الأقصى والبلدة القديمة. وهكذا أُفرِغت قوات الاحتلال المسجد من كتلةٍ بشريّة كان من الممكن أن ترابط فيه ليلة الأحد (17 أبريل/نيسان)، ثم تُفشِل الاقتحامات في يومها الأول. 

اقرؤوا المزيد: "فدا الأقصى": بعض ما تعرّض له معتقلو المُصلّى القبلي.

أدّى الضخّ الواسع -سياسيّاً وإعلاميّاً- بخصوص تقديم القرابين إلى الاستعجال في الانخراط في مواجهة، فبدأ الشبان مواجهتهم يوم الجمعة، اليوم الذي يعرف أهالي القدس أنّ احتمالية اقتحام المستوطنين للأقصى فيه ضئيلة للغاية، فما بالك بتقديم القربان. كان من الممكن أن تبقى العيون مفتحة على ما قد يجري في الأقصى يومي الجمعة والسبت، مع الاستعداد للرباط والمواجهة نهار الأحد (17 أبريل)، وهو اليوم المعروف على وجه التأكيد أنّه يومٌ مخصص للاقتحام. 

لم يتوقف الأمر هنا، فقد ترددت بعض الخطابات الإعلاميّة والسياسيّة، أهمّها تلك المحسوبة على المقاومة في غزّة وإعلامها، التي عملت على تغيير الحقائق، بقصد أو بغير قصد، فبالغت في الاحتفاء بما جرى خلال أيام عيد الفصح اليهودي، وصوّرت ذلك على أنّه "إنجاز" وتصدٍّ واضح،مع إغفالٍ لسؤال بسيط: ما الذي أدّى إلى عدم إفشال الاقتحام من أصله؟(وصل عدد المقتحمين فيه إلى 3670 مستوطناً، أعلى بحوالي ألف من عددهم في عيد الفصح 2021). 

شبان فلسطينيون ملثمون خلال مواجهات ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيلي في ساحات المسجد الأقصى المبارك، 15 أبريل/ نيسان 2022. (عدسة: مصطفى الخاروف/الأناضول). 

 إنّ التحذير من المبالغة في الاحتفاء يعني التحذير من تصوير الأمر بأضخم من صورته، لأنّ المبالغة لن تساهم في فهم حقيقة الأمور وبالتالي لن تساهم في حماية الأقصى خاصّةً في الوقت الذي يتقدم فيه مخطط التقسيم الزمانيّ والمكانيّ، ولا يعني عدم تقدير الجهود الشعبيّة التي تجري في ظروف ملاحقة إسرائيليّة مكثّفة.

لذلك، فمن المنصف القول إنّ مجموعة من الشبان - قلّ عددهم - ممن نجحوا في البقاء في الأقصى (بعد اعتقال المئات يوم 15.04)، ابتكروا أدوات جديدة كالإرباك الصوتيّ، ووظّفوا أدوات مستخدمة سابقاً كإغلاق مسار المستوطنين في المنطقة الشرقية بالمتاريس والحجارة. عطّل ذلك المستوطنين نسبياً، فاضطروا إلى السير شمال سبيل الكأس لا جنوبه كالمعتاد، واضطروا لتغيير طفيف في المكان الذي يقفون فيه لأداء الصلوات. وفي هذا الشأن أيضاً، وبغرض البناء عليه، من المهم الالتفاف إلى مشهد رباط مجموعة من النساء والرجال الذي عاد إلى الأقصى خلال أسبوع عيد الفصح، (وإن كان متواضعاً)، بعد أن غُيّب لسنوات طويلة بفعل القمع الإسرائيلي. يمكن قول كل هذا بوضوح وبإعطائه حجمه المناسب، دون تضخيم أو إخفاءٍ للحقائق.

مستوطنون خلال أدائهم الصلوات اليهوديّة داخل المسجد الأقصى، وتحديداً أمام مصلى باب الرحمة، في آخر أيام عيد الفصح اليهودي، 20 أبريل/نيسان 2022. (عدسة: مناحم كهانا/AFP).

ورغم مرور اقتحامات عيد الفصح، لا ننسى أن نذكر أن رمضان 2022 شكّل فرصةً لمراكمة الإنجازات في المنطقة الشرقيّة من الأقصى؛ المنطقة الأكثر استهدافاً بصلوات المستوطنين واعتداءاتهم. خلال العشر الأواخر من رمضان، نجح الشبان في إنجاز خطوات متقدمة ضدّ سياسة الاحتلال، وهي: فرش سجاد نظيف وجديد في مصلى باب الرحمة، ورصف الطريق الترابيّة المؤديّة له، وتركيب أسبلة للمياه عند المصلّى، وإزالة نقطة المراقبة التابعة للشرطة في أعلى المصلى وقذفها خارج الأقصى.

أمام هذا الجهد الشعبيّ الذي يتحدى سياسات الاحتلال المكثفة، برز دور دائرة الأوقاف الإسلاميّة، التي ساهم بعض أفرادها في تعطيل المواجهة. ورغم كثرة الشواهد، إلا أنّ أهمها اثنان: الأوّل؛ محاولة تعطيل الاعتكاف في الأقصى وحصره فقط في العشر الأواخر، وهو ما تصدّى له الشبان وفرضوا الاعتكاف من الأسبوع الأول لرمضان. والثاني؛ السؤال المفتوح حول: من الذي أزال الحجارة الضخمة والمتاريس التي سدّ بها الشبان طريق المستوطنين في المنطقة الشرقيّة من الأقصى، وفتح الطريق أمام اقتحامات المستوطنين في يوم "الاستقلال" الإسرائيلي (5 مايو/ أيار)؟ وهو السؤال الذي تشير كثير من الشواهد والشهادات على أنّ إجابته هي: الأوقاف. 

ختاماً

بالمُحصّلة، وأمام تفاوت الفعل الشعبيّ في الأقصى بين نجاحٍ و"نجاحٍ" جُزئيّ في التصدي للاقتحامات أحياناً وفشلٍ في أحيانٍ أخرى، من المهم الإشارة إلى أحد العوامل التي تؤدي إلى هذا التفاوت. وهو عاملٌ يمكن في ضوئه قراءة المشهد لا في المسجد الأقصى فحسب، وإنما في عموم القدس، والضفة الغربيّة، وهو الظروف الموضوعيّة والتاريخيّة التي تجعل من وجود العمل المُنظّم أمراً صعباً نتيجة القبضة الأمنيّة. فقد جرّفت "إسرائيل" على مدار عقود العمل الوطني المنظّم ولاحقت شخوصه وحاصرت نشاطه، وكثّفت في أوقات المواجهة من سياسة الاعتقال الإداري (حوّل للاعتقال الإداريّ خلال عام 2021 ما يقارب 24 شاباً من القدس)، وحوّلت آخرين إلى الإبعاد عن القدس وعن الأقصى. هذا عدا عن مئات الأسرى الذين دفعوا ثمن رباطهم ودفاعهم عن الأقصى من سنوات عمرهم في سجون الاحتلال.

وعلى الرغم من أنّ هذا الاستهداف لم يمنع العمل بتاتاً، إذ تطوّر شكلٌ جديد من العمل الشعبيّ الأفقي، إلا أنّ أبرز ما ينقص هذا العمل هو وجود استراتيجية وطنيّة محددة تحافظ على استمراريتها وتُحدِّد الأهداف والأدوات، وتعي المخاطر، وتعمل في أوقات الهدوء كما في أوقات الهبّات، وتساهم في قيادتها شخصياتٌ شعبيّة وطنيّة يثق بها الناس، يمكنّها أن توّجه العمل لما فيه المصلحة الجمعيّة، مع إدراك تحديات الملاحقة الإسرائيليّة.

ختاماً، تراكم مدينة القدس منذ حوالي عقد حالة نضاليّة شعبيّة واسعة، وقد ساهمت الهبّة الشعبيّة في رمضان 2021 في رفد هذه الحالة وتعزيزها، ودفعت نحو بثّ الأمل والثقة بالإرادة الشعبيّة وقدرتها على تجاوز السياسات الإسرائيليّة المكثفة لكي الوعي، وتحدي سياسات التهويد والاستيطان. والواجب على كلّ من أبهرته هذه الإرادة - "ولاد القدس مش شايفين حدا"، أن يُساهم بما يقدر عليه من أجل صيانتها وتثبيتها وتعزيز تقدّمها على الدوام، لا أن يبقى حبيس أحلامٍ بانتظار هبّة أخرى دون العمل لأجل ذلك، أو أسير التغني ببطولاتٍ قُدِّمت دون التقدّم للوقوف مع أصحابها، وضمان استثمارها لصالح المدينة. 

ويتأكد هذا الواجب بالنظر إلى سياسات الاحتلال المكثّفة التي لا توفّر جهداً لتعميق الأسرلة وتغييب الهويّة الفلسطينيّة النضاليّة وتعزيز ربط الشبان بالمؤسسات الإسرائيليّة، وهي سياسات - وإن لم تُحقق فيها "إسرائيل" حسماً حتى اللحظة، فإنّها مستمرة ومتصاعدة وتتكثف عاماً بعد عام، وتستخلص لأجلها العبر بعد انتهاء كلّ موجة من المواجهة، استعداداً للمواجهة القادمة.