10 أبريل 2022

لمصلحة من يُحَدَّد الاعتكافُ في المسجد الأقصى؟

لمصلحة من يُحَدَّد الاعتكافُ في المسجد الأقصى؟

بعد صلاة وتر ليلة التاسع من رمضان (09.04)، ومن على سماعات المسجد الأقصى طَالَب الشيخ عمر الكسواني، مدير المسجد، المصلين المعتكفين بالخروج منه لإتاحة الفرصة للسدنة لتنظيفه تمهيداً لإغلاقه. أشار الكسواني في كلامه إلى أنّ الاعتكاف في الأقصى يبدأ فقط من العشر الأواخر من رمضان، وليس قبل ذلك، ومُوّجهاً من يرغب في الاعتكاف بالذهاب إلى مساجد البلدة القديمة. بالتزامن مع ذلك، كانت شرطة الاحتلال تُشدّد من قيودها للداخلين على الأقصى.

وهكذا، بينما تتجهّز "جماعات المعبد" الاستيطانيّة وتُعد العدّة لاقتحاماتٍ مكثفّة وأداء صلواتٍ علنيّة في المسجد الأقصى الأسبوع القادم (بالتزامن مع عيد الفصح اليهودي)، تُضيّق دائرة الأوقاف الإسلاميّة على عشرات المعتكفين في المسجد وتدعوهم لمغادرتِهِ مع انتهاء صلاة التراويح. 

منذ سنواتٍ طويلة، تفرض شرطة الاحتلال الإسرائيليّ إغلاق المسجد الأقصى بعد صلاة العشاء مباشرةً، وتمنع الدخولَ إليه بتاتاً إلا قبل أذان الفجر بقليل. يُطبق هذا التضييق على مدار العام، ما عدا العشر الأواخر من رمضان، الليالي التي لا تُغلق فيها أبواب المسجد الرئيسة ويبقى عامراً بأهله طوال الليل، مما يُشعر النّاس أنّهم استردوا بعضاً مما سُلب منهم في هذا المسجد المستهدف.

معتكفون يقفون على الثغر

لكنّ هذا التضييق الإسرائيليّ في توقيت وشكل التواجد في المسجد الأقصى وجد من يُشاغلُه ويتحداه. وفي السنوات الأخيرة، يعود ذلك إلى ما يقارب 15 عاماً من اليوم، فُرِض الاعتكافُ في خارج العشر الأواخر من رمضان، وذلك بهمّة ومبادرة بعض الشباب الذين يرغبون في الاعتكاف كل الليالي في رمضان، لا الليالي العشر فقط، والذين يرون أنّ لا حقّ لأحدٍ في تقييد أداء عبادتهم فيه متى شاءوا.

اقرؤوا المزيد: "الفصح اليهوديّ مع رمضان.. هل الأقصى على أعتاب مواجهة؟".

ولكن ذلك لم يُطبق على كلّ أيام الأسبوع، إنّما فقط في ليلتي الجمعة والسبت من الليالي العشرين الأوائل من رمضان. شيئاً فشيئاً بادر المعتكفون إلى الدفاع عن حقّهم في التواجد في مسجدهم حتى النهاية، فسَعوا إلى تمديد فترة الاعتكاف في الليالي العشرين الأوائل من رمضان، لتكون كلّ ليلة، لا ليلتي الجمعة والسبت فقط، خاصّةً أنَّ الاعتكاف عبادةٌ مرتبطةٌ بكل ليالي رمضان، لا بليالٍ مُحدّدة فيه. 

وفي كلّ عام، تواجه هذه المحاولات بنفس الطريقة؛ الأوقاف عن طريق بعض موظفيها تدفع بالمعتكفين نحو المغادرة وترك الاعتكاف، أو تُقيّد حركتهم داخل المسجد فيما لو أصروا على الاعتكاف وتُضيّق عليهم (كأنّ تقطع الكهرباء عن أباريز المصلى القبلي مثلاً)،  بينما تعمل شرطة الاحتلال على التضييق عليهم بما يتناسب مع أعدادهم وشكل حضورهم. وفي كثير من الأحيان كان المعتكفون ينجحون في انتزاع حقّهم والحفاظ عليه، تماماً كما حصل ليلة أمس، فرغم نداء الكسواني وإصراره على أن الاعتكاف لم يبدأ، ودعوته للمعتكفين للخروج، أصر العشرات من الرجال والنساء على البقاء في المسجد.

قوات الاحتلال تؤمّن اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى فيما يُعرف بـ"يوم القدس الإسرائيلي"، 2 يونيو/حزيران 2019، بينما تُجبر مجموعة من المصلين على الابتعاد عنهم بضعة أمتار. (عدسة: أحمد غرابلي/AFP).

الاعتكاف في مواجهة الاقتحام

في مقابل دائرة الأوقاف الإسلاميّة المُصرة على قصر الاعتكاف في العشر الأواخر، واستخفافها بمحاولات الشبان أن يفتحوا ثغرةً في جدار التضييق الإسرائيليّ على المسجد، فإنّ كبار حاخامات المستوطنين أعلنوا ومن قلب المسجد الأقصى مطلع الأسبوع الماضي عن أنّ "الوقت قد حان لتقديم قربان عيد الفصح"، وأين؟ داخل المسجد الأقصى نفسه! بالقرب من قبّة السلسلة (المجاورة لمصلى قُبّة الصخرة).

اقرؤوا المزيد: "ماذا تعرف عن اقتحامات المستوطنين للأقصى؟"

ومن المتوقع أن ينفّذ المستوطنون في عيد الفصح اليهوديّ القريب سلسلة اقتحاماتٍ "نوعيّة" بدءاً من السابع عشر من أبريل/ نيسان الجاري، وذلك على مدار أسبوع (وهذا التاريخ يصادف 15 رمضان، أي في وقت لا تبدأ فيه الاعتكافات بحسب ما تريده الأوقاف). ومن المعروف أنّ الأداة الفعّالة التي يملكها الفلسطينيّون في إحباط اقتحامات المستوطنين للأقصى هي أداة الحضور البشريّ المكثّف،  فكلّما زاد عدد الفلسطينيين في المسجد الأقصى، تعثّر مشروع الاستيطان فيه.

على سبيل المثال، فإنّ نجاح الفلسطينيين في صدّ اقتحام المسجد الأقصى من قبل المستوطنين في الـ28 من رمضان العام الماضي (ما يُعرف بيوم القدس الإسرائيلي)، تأثر بطبيعة الحال بأنّ يوم الاقتحام وقع في قلب الليالي العشر الأواخر، وهو ما أتاح الفرصة للشبان للرباط في المسجد طوال الليل وأن يكونوا بأعدادٍ كبيرة فيه في مقابل جماعات المستوطنين. 

جانب من المواجهات التي اندلعت في المسجد الأقصى فيما يعرف بـ"يوم القدس الإسرائيلي"، 2 يونيو/ حزيران 2019، وقمعت فيها قوات الاحتلال المصلين الذين حاولوا التصدي لاقتحام المستوطنين ذلك اليوم. (عدسة: أحمد غرابلي/AFP).

ويُمكن النظر في أثر فعل الاعتكاف في صدّ العدوان على المسجد الأقصى في هبّة مصلى باب الرحمة عام 2019. لقد وقعت أحداث هذه الهبّة في فبراير/شباط 2019. ولكن الفعل الشعبي في غالبه يأتي في ظروف من المراكمة، ويمكن الرجوع ببعض هذه المراكمة إلى رمضان من العام 2018. 

اقرؤوا المزيد: "باب الرحمة… مواجهة متجددة في الأقصى".

في ذلك العام، استغل الفلسطينيون العشر الأواخر وبقاءهم في المسجد الأقصى ليلاً ونهاراً، والأعداد الهائلة من الزوار من الضفّة والداخل، بأنّ ساهموا في تعزيز الوعي بالمخاطر التي تتعرض لها منطقة مصلى باب الرحمة، أو ما يُعرف بالمنطقة الشرقيّة. زرعوا الأشجار، أعادوا ترتيب بعض الأحجار هناك، وأقاموا الإفطارات الجماعية، ولفتوا الأنظار إلى مخاطر تلك المنطقة المهملة. ومن ثم بعد ذلك بأشهر جاءت هبّة مصلى باب الرحمة التي استُعيد فيها المصلى، وفُرِضت فيه الإرادة الشعبيّة فرضاً.

ما الدور الذي تريده الأوقاف لنفسها؟

وبالرجوع إلى سياق اليوم، فها نحن في شهرٍ يكثر فيه المصلون في الأقصى تلقائياً، بلا حاجةٍ إلى حشدٍ أو تنظيم، وها هي الأداة - أي الحضور البشريّ المكثف- متوفرة دون جهدٍ كبير، إذ السياق الزمنيّ يسمح بها، ودعوة الاعتكاف تُعزِّزها. وبفضل هذا الحضور البشريّ العفويّ خلال رمضان، أصبح الشهر الكريم هو الشهر المنتظر لدى أهل الأقصى لتعزيز جهودهم في صدّ الاعتداءات الاستيطانيّة وصدّ أي مكتسبات يكون المستوطنون قد حقّقوها خلال العام. كما أنّه بات الشهر الذي يستطيع فيه أهل الأقصى تحريك "المياه الراكدة" وبناء استحقاقاتٍ جديدة في مسجدهم تُمكن المراكمة عليها فيما بعد.

فلسطينيّات خلال أداء صلاة التراويح في المسجد الأقصى في رمضان، مايو 2021. (عدسة: أحمد غرابلي/AFP).

إنّ عدم استغلال هذه الفرصة الزمنيّة وكثافة المصلين، لا بل وتعطيل استغلالها من قبل الناس، بحجة الحفاظ على الهدوء في المسجد، لا يحمي المسجد، ولا يحافظ على الهدوء فيه أصلاً، بل يساهم في تحقيق مكتسبات "جماعات المعبد"، ففي حين نتراجع نحن، يتقدمون هم. وإنّ بيانات الأوقاف المتكررة التي تشكو فيها من الاعتداءات الإسرائيليّة على المسجد ونهش صلاحياتها فيه لن تُحرّك ساكناً إذا ما كان الموقف على الأرض موقفاً سلبياً مُستكيناً راضياً بما يُهندِسه الشرط الإسرائيليّ. 

وإنّ القبول بهذه الوضيعة يعني قبول دائرة الأوقاف بما تسعى "إسرائيل" لفرضه: أن تتحول الدائرة إلى مجرد جسمٍ يُدير حضور المسلمين في المسجد ويحافظ على "هدوئهم"، بلا أثرٍ فعليّ في التصديّ لسياسات الاحتلال أو الدفاع عن آخر ما تبقى للمقدسيين في مدينتهم المنهكة بسياسات القمع  والضبط. 

بل إنّ القبول بهذه الوضعيّة يعني فيما يعنيه أنّ دائرة الأوقاف تقف حاجزاً أمام محاولات الفلسطينيّين اجتراح أدوات عملٍ جديدة في المسجد تحميه وتُعزّز حضور أهله فيه. في المقابل، فإنّ إصرار الفلسطينيّين على تثبيت مكتسبات جديدة في الأقصى، رغم اعتراض دائرة الأوقاف، يؤدي بها إلى التراجع عن موقفها شيئاً فشيئاً أو على الأقل الرضى بالأمر الواقع (كما حصل ليلة أمس)، وهنا تتضح أكثر أهميّة الانتباه الشعبيّ لكلّ ما يجري في المسجد الأقصى.