29 يناير 2024

Impact-se: حرّض على الأونروا اليوم وغداً يوقفون التمويل

Impact-se: حرّض على الأونروا اليوم وغداً يوقفون التمويل

يوماً بعد يوم تشتدُّ الحرب الإسرائيليّة المسعورة على قطاع غزّة ومقاومته وأهله. تُشغّل "إسرائيل" مختلف أدواتها للإمعان في تجويع الناس وإذلالهم والتنكيل بهم. في الأيام الأخيرة عادت إلى ادعاءاتها الممجوجة بتعابير "الإرهاب والتحريض" التي لطالما سوّقتها في السنوات الأخيرة ضمن حملتها ضدّ "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الأونروا"، سعياً لإنهاء عملها ومحاصرة أقلّ القليل مما يرتبط بقضية اللاجئين الفلسطينيّين، وصولاً إلى دفن أي اعتراف عالميّ بحقّ العودة. هذه المرة، لا تسعى لقتل اللجوء الفلسطينيّ رمزيّاً فحسب، بل أيضاً للقتل الفعليّ للاجئين والنازحين الجُدد ممن بالكاد يجدون ما يسدّون به رمقَهم في القطاع.

12 موظفاً ممن شاركوا في أول أيام معركة طوفان الأقصى (السابع من تشرين الأول/ أكتوبر) كانوا من موظّفي الوكالة، وجلّهم من المُعلّمين في مدارسها، هكذا زعموا. على إثر هذا الإعلان، أعلنت عشر دول غربيّة على رأسها الولايات المتحدة إيقاف الدعم الذي تقدّمه للوكالة، وهو ما يعني تقليص المساعدات - الشحيحة أصلاً - التي تقدّم للناس في غزّة. هذا عدا عن القصف الإسرائيليّ المباشر لمراكز الإيواء التابعة للأونروا والذي ارتقى إثره مئات الشهداء.

اقرؤوا المزيد: "النزوح من قصف الطيران إلى تصفية الأونروا".

وكما هي العادة في حملاتها الدعائية، تعمل إلى جانب المستوى الرسميّ (السياسيّ والمخابراتيّ) الإسرائيليّ مجموعة من المؤسسات المتنكرة بزيٍّ "بحثيٍّ مهنيّ"، تزعم أنّها تُقدّم الدليل، بـ"أدوات البحث العلميّ"، لما يتحوّل لاحقاً إلى مزاعم للبروبوغاندا الإسرائيليّة. وهذا ما تقوم به مؤسسة (Impact-se)، والتي نشرت بعد شهرٍ فقط من بدء الحرب على غزّة تقريراً تحريضيّاَ بعنوان "التعليم في الأونروا: الكتب المدرسيّة والإرهاب"، لتؤكد مرةً أخرى على هويّة هذه المؤسسة كمؤسسة صهيونيّة رغم تنكرها بالصفة العالميّة. 

26 كانون الثاني/يناير 2024، فلسطينيون نزحوا إلى رفح يحصلون على أكياس طحين في مركز توزيع تابع للأونروا في المدينة. (عدسة: أحمد زقوت/ وكالة الأناضول).
26 كانون الثاني/يناير 2024، فلسطينيون نزحوا إلى رفح يحصلون على أكياس طحين في مركز توزيع تابع للأونروا في المدينة. (عدسة: أحمد زقوت/ وكالة الأناضول).

كي يكون المنهاج على مقاسهم

تُعرّف مؤسسة Impact-se نفسها بأنها "منظمة دوليّة للأبحاث والسياسات تراقب وتُحلّل المناهج الدراسيّة في العالم، وفق المعايير الدوليّة للسلام والتسامح واللاعنف، على النحو المستمد من إعلانات وقرارات اليونسكو لتحديد مدى الالتزام بها والدعوة إلى التغيير عند الضرورة"، كما تزعم. 

تنعكس أهميّة هذه المؤسسة من خلال عدة عوامل: الأول؛ الإصدارات الكثيرة والمتجددة والتي تتابع كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في المناهج الدراسيّة العربيّة، والثاني؛ ارتباطها بالفعل السياسيّ أي أنّها ترصُدُ سعياً لإحداث تغييرٍ وفق الأجندات التي رُسِمَت لها، والثالث؛ المصداقية الدوليّة التي تحظى بها إذ تُستخدم تقاريرُها كأدلةٍ في الكونغرس الأميركيّ والاتحاد الأوروبيّ، وتُنشَر دراساتُها في الصحف العالميّة، والرابع؛ وهو الأخطر، مساهمتها في صياغة بعض المناهج وفق رؤيةٍ صهيونيّةٍ بحتة.1تشارك هذه المؤسسة في صياغة بعض المناهج بشكلٍ مباشرٍ كما حدث مع المنهج الدراسيّ الإماراتي إذ قدّمت المؤسسة ملاحظات عليه ومن ثم عُدّل وفقاً لتلك الملاحظات، أو بشكلٍ غير مباشر كما يجري في مناهج السلطة الفلسطينيّة، إذ تواظب المؤسسة على نشر دراسات تحليلية للمناهج وتقديمها للدول المانحة، وهو ما ينعكس دوماً على شكل تغييرات وتعديلات متكررة تجريها السلطة على المنهاج. 

19 كانون الأول 2023، طفل جريح في إحدى المدارس التابعة لوكالة الأونروا في دير البلح، وسط القطاع، وقد نزح إليها الآلاف نتيجة العدوان المستمر على القطاع. (عدسة: مجدي فتحي/ نور فوتو).

النبش في حسابات الموظفين

في تقريرها الأخير، تدّعي المؤسسة أنّ مدارس "الأونروا" تحوّلت الى مراكز لبثّ "الإرهاب" بدلاً عن محاربته. غطى التقرير ثلاث قضايا: أولها ردود أفعال عدد من موظّفي الأونروا على معركة "طوفان الأقصى" (ما سمّاه التقرير "احتفال الموظّفين بمذبحة حماس")، وثانيها تخرّج بعض من مقاتلي القسّام من مدارس الأونروا (ما سمّاه التقرير "خريجو الأونروا من الكتب المدرسيّة إلى الإرهاب")، وثالثها تحليل لبعض مضامين الكتب التي تُدرّس في مدارس الأونروا. 

في القسم الأول، تعقّب معدو التقرير الحسابات الشخصيّة على "فيسبوك" لعدد من المعلمين في المدارس التابعة للأونروا، ورصدوا ما صدر عنهم بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، سواء كان منشوراً أو إعادة نشر أو مجرد إعجاب، وقدّموه على أنّه دليل على تأييد "حماس".2راجع التقرير، صفحة 44. على سبيل المثال، كتبت إحدى المعلمات منشوراً في السابع من أكتوبر تقول فيه إنّها تريد العودة إلى يبنا ويافا وبئر السبع3وهي أسماء قرية ومدينتين هُجّر الآلاف من أهاليها عشية النكبة إلى قطاع غزّة.، وهو ما أطّره التقرير على اعتبار أنّه "تعامل إيجابيّ قبول للهجوم على آلاف الإسرائيليين" و"أمل باحتلال إسرائيل". وفي مثال آخر، ذكر التقرير أسماء موظفين نشروا الآية الكريمة: "إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب".

أما في قسمه الثاني، فقد عدّد التقريرُ أسماء 118 مقاوماً شهيداً درسوا في مدارس الوكالة مع أسماء تلك المدارس ومواقعها الجغرافيّة، ونبذة عن نشاطهم المقاوم، دون أن يذكر الصلةَ بين دراستهم في تلك المدارس ونشاطهم المقاوم. على سبيل المثال، أورد التقرير اسم فلسطينيّ يُدعى أمير ياسر نظمي سعدة، زعم أنّه كان من ضمن المقاومين الذين اقتحموا السياج صبيحة السابع من أكتوبر، وأنه درس في مؤسسات الأونروا، و"الدليل" شهادة دبلوما صدرت من كلية مجتمع غزّة التابعة للوكالة تحمل اسمه، وقد وُجِدت في إحدى المركبات التي اقتحمت مستوطنات الغلاف. بل ذهب التقرير بعيداً وعرض نبذة عن بعض شهداء "كتائب القسام" في "انتفاضة الأقصى" وآخرين من "كتائب الناصر صلاح الدين" شاركوا في عملية "الوهم المتبدد" عام 2006، وصولاً إلى الشهيد رائد العطار، وشدد أنّهم جميعاً من خريجي مدارس الأونروا.

مقطع من تقرير "إمبكت - سي" يظهر فيه الحديث عن المقاوم عامر سعدة وشهادة تخرجه من إحدى كليات الأونروا.
مقطع من تقرير "إمبكت - سي" يظهر فيه الحديث عن المقاوم عامر سعدة وشهادة تخرجه من إحدى كليات الأونروا.

أما القسم الثالث والأخير، فقد تناول محتوى المناهج المعتمدة في مدارس الأونروا من أربع زوايا: "معاداته للسامية"، وحضّه على الجهاد والاستشهاد و"العنف"، واحتواء كتب العلوم والرياضيات على "مواد عنيفة"، وشمولها على فكرة محو دولة "إسرائيل"، وتحت كل عنوان من هذه العناوين قدّم التقارير عدة أمثلة يزعم أنّها تُثبت ادعاءه. فمثلاً ذكر أنّ الكتب الدراسيّة عندما تشرح "غزوة بني قينقاع" في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، تذكر قصة المرأة المسلمة التي سحب يهودي حجابها، ويدّعي التقرير أن إيراد مثل هكذا قصة هي مثال لـ"معاداة السامية" في الكتب. وأمثلة غير ذلك كثيرة، كرّرتها تقارير المؤسسة مراراً، كقصة "معركة الكرامة" عام 1969 وقصة الفدائية دلال المغربي، والقائد خالد بن الوليد، وآيات وأحاديث نبوية تذكر فضل الجهاد والشهادة.

هل هذا إلا شكل من أشكال التحريض على القتل؟

بغض النظر عن ماهية المزاعم التي تطرحها المؤسسة في تقاريرها، ودون الانجرار للردّ عليها من موقف المدافع، فإنّ المنهجية التي تتبعها تتسم بالتعميم بشكلٍ جارف، ومن ثم تقديم الاستنتاج السخيف بناء على هذا التعميم. مثلاً، في القسم الأول منه حلّل التقرير مضامين حسابات شخصيّة لثلاثة عشر موظف تابع للأونروا، وفي القسم الثاني أورد أسماء 118 شهيداً تخرّجوا من مدارس الوكالة، ثمّ ادعى بناءً على كتابات أولئك الموظفين، وبناءً على سيرة أولئك الخريجين، أنه يمكن التعميم على آلاف الموظفين الآخرين وآلاف الطلبة والزعم بأنّهم يحملون آراءً شبيهة، والاستنتاج بأنّ مدارس الأونروا تحضّ على "الإرهاب".

اقرؤوا المزيد: "كيف تتواطأ المنظّمات الأمميّة على العدوان على غزّة؟"

وبشكلٍ مثير للسخرية، يقول التقرير بناءً على ما استعرضه من "معلومات" إنّه "من المرجح أنّ العديد من الذين تعلّموا في مدارس الأونروا أصبحوا إرهابيين من حماس". هكذا بشكل سطحيّ ومُضلّل، ومن خلال التجسس على حسابات الفيسبوك لـ13 موظفاً، وإرفاق نبذة شخصية عن 118 شهيداً، يدّعي التقرير الذي حشد الأمثلة على عجل أنّ العاملين في الأونروا الذين يفوق عددهم 30 ألفاً "يدعمون الإرهاب"، وهو ما يعني بالضرورة -بالنسبة لهم - ضرورة التحرك لإحداث تغيير في هذا الشأن، وهو تغيير مُلوّن بلون الدم.

أما فيما يتعلق بالمنهاج الفلسطينيّ وتصويره على أنّه مسؤول عن تحريض الفلسطينيّين ضدّ الاحتلال، فمن نافلة القول الإشارة إلى أن تقارير Impact-se تتحدث عن مدارس الأونروا وكأنّها مدارس دوليّة، وهي بذلك تسلخها عن ظروف نشأتها، فهذه المدارس بكل بساطة هي من إفرازات إجرام الاحتلال في النكبة، وهؤلاء الذين يدرسون فيها هم اللاجئون الذين هُجروا إثر النكبة، فتراها تستنكر عليها أن تعلّمهم خريطة فلسطين التاريخية. وهي عندما تُصوّر المنهاج على أنّه المحرّض على مقاومة الاحتلال لا تتغاضى عن التاريخ فقط، إنما تريد أن تمسخ الناس على هيئةٍ واحدة بلا طعم أو لون، بلا هويّات سياسيّة أو انتماءات حزبيّة.

ومن الملاحظ في تقرير المؤسسة عندما تشير إلى أن المناهج الفلسطينيّة والمدارس هي سبب في سلوك أولئك الشهداء والموظفين مسلكاً "عنيفاً"، أنّها تنسى أنّ كثيرين منهم إنما لم يتعلموا المنهاج الفلسطينيّ أصلاً، فمعظم الأسماء التي وردت هي لشهداء ارتقوا في الانتفاضة الثانية أو بعدها، وهم ممن تعلموا المنهاج الأردنيّ في الضفّة، أو المصريّ في غزّة.4بدأ تدريس المنهاج الفلسطيني عام 2006.

أخيراً، يمكن القول إنّ إصدار هذا التقرير في هذا التوقيت الذي تُقصف فيه المدارس وتدمَّر مختلف مرافق الحياة، ويُجوّع الناس، ليس من باب الصدفة، إنما هو مساهمة في الجهد الحربيّ والإجراميّ بصفة "البحث". لقد لُغّم التقرير بعبارات وعناوين مُحرضّة على الأونروا وكوادرها وطلابها وكأنّ المؤسسة توفّر من خلال "بحثها" مسوغاً لجرائم "إسرائيل" في استهداف المدارس وقتل الأطفال، فهم مستقبلاً "إرهابيون كمن سبقوهم". 

إنّ الهويّة العالمية وما يُسمى "نشر ثقافة السلام" التي لطالما حاولت المؤسسة الظهور بها، كُشفت عياناً في هذه الحرب، فهي ليست إلا بوقاً من أبواق الصهيونية هدفها ترسيخ قبول وجود كيان الاحتلال في العالم العربيّ على حساب محو الهويّة العربيّة والإسلاميّة، وها هي أصبحت محرضّاً مباشراً على قتل الأطفال والنازحين.