9 نوفمبر 2023

النزوح من قصف الطيران إلى تصفية الأونروا

النزوح من قصف الطيران إلى تصفية الأونروا

لم يتحول شمال قطاع غزة إلى منطقة أشباح خاوية تماماً من الناس، كما أراد الاحتلال للمنطقة أن تكون. إذ لا زال الاحتلال يقصف بشكلٍ كثيف ومتواصل مربعات سكنية شمال القطاع حتى مسحها بالكامل، سعياً لدب الفزع في قلوب الناس، حتّى ينزحوا إلى ما بعد وادي غزة. 

يعيش مئات آلاف الغزيّين في المباني السكنية ومراكز الإيواء رافضين الرضوخ لمحاولات دفعهم للنزوح جنوباً. وأعلنوا: لن تتكرر النكبة، لن يتكرر اللجوء. وأما من نزح اضطراراً تحت اشتداد القصف والحصار، فإنّهم لم ينتقلوا إلى أماكن أكثر أمناً، إذ إن الآلاف منهم استشهدوا بعد استهداف أماكن تواجدهم في جنوب القطاع داخل المدارس والمستشفيات، أو وهم في الطريق متجهين جنوباً كما حصل باستهداف قافلة النازحين في 14 تشرين الأوّل/ أكتوبر.

كيف يصمد الفلسطينيون في شمال القطاع؟ وما ظروف النازحين إلى الجنوب؟ وكيف تحولت "الأونروا" إلى مؤسسة تدير النزوح وتحدد وجهته؟ عن مثل هذه الأسئلة يحاول هذا المقال أن يجيب. 

في الشمال: صمود تحت القصف 

يضمّ شمال قطاع غزة محافظة الشمال، وفيها مدن بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا ومخيم جباليا، ومحافظة غزة، وفيها مدينة غزة والزهراء والمغراقة وقرية جحر الديك ومخيم الشاطئ، ومن أكبر أحيائها الشجاعية والزيتون والرمال الجنوبي.

اقرؤوا المزيد: غزّة.. كيف نقرأ جغرافيا المعركة؟

منذ بداية العدوان على قطاع غزّة في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، بدأ الاحتلال العمل على فصل شمال القطاع عن جنوبه ووسطه، من خلال قصف وتدمير بنيته التحتية والقضاء على مقوّمات العيش فيه، تمهيداً للاجتياح البريّ الذي بدأ به الاحتلال تدريجيّاً بعد 21 يوماً.

فلسطينيون يتفقدون منازلهم التي دمرها طيران الاحتلال في مخيم جباليا شمال قطاع غزة. (تصوير: أحمد حسب الله\ غيتي إيماجز)

بالرغم من ذلك، ما زال مئات الآلاف في الشمال تحت القصف، وفي مواجهة حرب تجويع تتمثل بقطع الكهرباء والماء وقصف المخابز ومنع إدخال المساعدات. وعبر منصّات التواصل الاجتماعي، بدأ بعض الأهالي والناشطين ببث رسائل تؤكد ثباتهم في منازلهم وأحيائهم. فمثلاً؛ آيات خضورة، وبينما يشتد القصف من حولها، قالت: "النزوح صار إثر شائعة من الاحتلال، هاي حرب نفسية هاي إشاعات مش لازم نتعاطى فيها.. لازم نضل في بيوتنا، ونهدي بعض". أما أكرم عجور، فقال: "أنا وأهلي قررنا أنه بكفي ذل، واحنا ضايلين في غزة، أنا في مكان، وأهلي في مكان، وننتظر قدرنا". 

مرحاض لكل 100

لا توجد أعداد دقيقة للنازحين من بيوتهم، بمن فيهم من نزح من الشمال إلى الجنوب، إلا أن معظمهم لجأ إلى مدارس ومنشآت الأونروا، التي أصبحت مكتظة بالناس، وتفتقر لأبسط مقوّمات الحياة، من مياه الشرب والمرافق الصحية وغيرها. فمثلاً؛ في تلك المدارس مرحاض واحد لكل 100 شخص.

تضمّ كل مدرسة للأونروا (يقدر عدد منشآتها بنحو 151) أكثر من أربعة آلاف نازح، وهو أعلى بكثير من قدرتها الاستيعابية، ولا مجال فيها للخصوصيّة. أم أحمد (52 عاماً)، نزحت إلى إحدى هذه المدارس، تقول لـ"متراس": "عائلتي مكونة من 35 فرداً، نزحنا جميعا من جباليا [شمال القطاع] إلى وسط القطاع [في مخيم النصيرات] بعد أن دمر الطيران الإسرائيلي أحياء واسعة من مخيم جباليا".

فلسطينيون في إحدى مدارس الأونروا في دير البلح جنوبي قطاع غزة. (تصوير: أشرف عمرة/ الأناضول)

منحت الأونروا عائلة أم أحمد صفاً دراسياً واحداً، وزودتهم بـ 10 بطانيات، وسلة صغيرة من مواد التنظيف، لكنها حاجيات لا ترقى للعيش الآدمي. تُعلّق: "لم تزودنا الأونروا بالاحتياجات الأخرى مثل الخبز ووجبات طعام وحليب وحفاضات للأطفال، مما يضطرنا لشرائها أو انتظار التبرعات". 

إنّ النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، لم يمنح الأهالي أيّ شعورٍ بالأمان والاستقرار، وسط القصف الذي يطال المناطق كلّها، وهو ما تعايشه عائلة أم أحمد تماماً كباقي العائلات. 

إلى أين توجه النازحون؟

اتجه قسمٌ من النازحين إلى منازل الأقارب والأصدقاء، سواء في الشمال أو الجنوب، إلا أن القصف طالهم أيضاً. وقسم نزح إلى المدارس التي فيها العدد الأكبر، ولكنها لم تعد كافية لاستيعاب أعداد إضافيّة. فيما نزح قسم آخر، يقدّرون بالآلاف، إلى المستشفيات، يظنّون أنها "آمنة".

في مجمع "الشفاء الطبي" لوحده، يقدر عدد النازحين فيه بنحو 50 ألف نازح. هكذا تحولت المستشفيات إلى مراكز إيواء يفترش النازحون فيها كل متر متاح، في أروقتها، وعلى الدرج، وفي الغرف، وفي عراء ساحاتها الخارجية. 

فلسطينيون يضطرون النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبها مشياً على الأقدام، بعد استهداف طيران الاحتلال لمركبات النازحين. (تصوير: محمد عابد\ الوكالة الفرنسية)

أما الاحتلال، فيهدد بقصف نحو 20 مستشفى تمتلئ بالنازحين، ما يُنذر بمجازر جديدة قد ترتكب بحقهم، بعد مجزرة مستشفى المعمداني التي كان معظم الشهداء فيها من النازحين. وفي 6 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، قصف طيران الاحتلال 6 مستشفيات، ونتيجة لذلك استشهد وأصيب العشرات من النازحين.

يعتبر النازحون الأماكن التي يتواجدون فيها محطة انتظار مؤقتة، سيعودون بعدها إلى منازلهم، أو أنقاض منازلهم. تقول خلود قديح، التي نزحت وعائلتها المكونة من 20 فرداً من عبسان إلى خان يونس: "بكرا أو بعده رح نرجع نقعد على هدم بيوتنا، مش رح نتركها.. حنفضل في بلدنا صامدين.. احنا طلعنا لما نهدمت الدور على روسنا عشان الصغار". 

الأونروا أول من أخلى 

في الأيام الأولى للعدوان، بدأت الأونروا بإخلاء مقارها في شمال القطاع بشكل كامل، ونقلت عملياتها وكافة طواقمها إلى جنوب القطاع، ووفّرت حافلات لنقل الناس، مستجيبة لدعوة جيش الاحتلال. حينها اتهمتها الحكومة الفلسطينية في غزة بالتخلي عن دورها الإنساني، وإخلاء مسؤوليتها الإنسانية كمؤسسة دولية من مئات آلاف الفلسطينيين المتواجدين في شمال القطاع، كما أنها فوق ذلك قلصت خدماتها المقدمة للناس في مختلف المناطق.

شاحنات للأونروا تنقل عائلات فلسطينية من شمالي القطاع إلى جنوبه في 13 أكتوبر، إثر تهديدات جيش الاحتلال. (تصوير: لؤي أيوب\ واشنطن بوست)

وحتى لا يستفيد الناس مما تركته وراءها، قصف الاحتلال مستودعات ومخازن الأونروا في شمال قطاع غزة، كما طال ذلك منشآت تابعة لها في جنوب القطاع حيث وجّهها. ومن أعنف المجازر التي ارتكبها الاحتلال في مدارس الأونروا كان في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، إذ قصف طيرانه مدرسة للأونروا في مخيم المغازي، ما أدى لاستشهاد 46 فلسطينياً وإصابة العشرات.   

اقرؤوا المزيد: كيف تتواطأ المنظّمات الأممية على العدوان على غزّة؟ 

كما اشترط الاحتلال من أجل دخول المساعدات أن توّزع على النازحين والمتواجدين في الجنوب فقط، وهو ما استجابت له الأونروا. يقول مصدر من الأونروا لـ "متراس": "قافلة المساعدات الإغاثية التي ضمت مواد غذائية ومعلبات دخلت القطاع في 21 تشرين الأول/ أكتوبر عبر معبر رفح، فرّغت حمولتها في المخيم الجديد ومخازن الأونروا في الجنوب". ذلك كله رغم ما يعانيه شمال القطاع من نقص حاد بالمواد الغذائية، خاصة الخبز، وقطع كامل للمياه من اليوم الأول للعدوان، وقطع للكهرباء وشبكة الاتصالات. 

كيف تُدير الأونروا النزوح؟ 

اتخذت الأونروا من منطقة "المواصي" غربي مدينتي خانيونس ورفح مقراً لها - وهي منطقة منطقة معزولة جغرافياً عن الأحياء السكنية المزدحمة - وهناك شيدت خياماً لإيواء النازحين. انتقال الأونروا إلى هذا المكان جاء بعد رسائل نشرها جيش الاحتلال دعا الناس في شمال غزة بالتوجه إلى منطقة المواصي باعتبارها "منطقة آمنة". 

جعلت الأونروا من المخيم مكاناً مؤهلاً على المستوى الخدماتي واللوجستي، ما دفع آلاف النازحين بالتوجه نحوه، إذ تقدم الأونروا للمقيمين في المخيم ثلاث وجبات طعام يومياً، ومياه، وكهرباء. كما وفرت عيادة طبية في المكان. وهي بذلك، تحاول تنفيذ مسعى الاحتلال بإطالة أمد النزوح لتأبيده وضمان ألا يعودوا إلى منازلهم في شمال القطاع.

مشهد المخيم بما فيه من خيام بيضاء مصطفة بجانب بعضها البعض، أعاد للذاكرة الفلسطينية مشهد نكبة عام 1948، وهو ما يرفضه الغزيون ويتخوفون منه كمستقبل قريب، تحديداً مع الحديث المتكرر عن خطط تهجير الغزيين إلى صحراء سيناء وتوطينهم فيها.

اقرؤوا المزيد: لن نبرح غزّة: محاولات التهجير إلى سيناء والعالم

إذاً، يعاني النازحون من ظروف إنسانية قاهرة أقل ما توصف بأنها مأساوية، فقد نزحوا من منازلهم وآلاف الأطنان من القذائف تنهال على رؤوسهم. غادروا بيوتهم دون أن يتمكنوا من نقل أمتعتهم الأساسية، ووصلوا إلى أماكن تفتقد لمقومات العيش الأساسية.

أما الأونروا فقد استقبلت الناس في صفوف مدرسية وخيام، وقد تمثل دورها في إدارة عملية النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، فيما لم تلعب الدور الذي يفترض أن تلعبه كمؤسسة إنسانية بتوفير الأمن لهم في مراكز إيوائها، أو حتى تزويدهم بالمساعدات الغذائية.