2 سبتمبر 2021

السّلطة في مواجهة النَّاس: موجزُ سيرة القمع

السّلطة في مواجهة النَّاس: موجزُ سيرة القمع

عقب اغتيال الناشط نزار بنات (24 يونيو/حزيران 2021)، قمعت الأجهزة الأمنيّة للسلطة الفلسطينية كافة أشكال الاحتجاج والتظاهر على اغتياله، آخرها ما وقع يوم السبت 21 أغسطس/ آب الماضي. في غالبية المظاهرات، ضُرب المتظاهرون ونُكّل بهم واعتُقل عددٌ منهم، ثمّ اعتُقِل من طالب بالإفراج عنهم، وكُسِّرت كاميرات من وثق كلّ ذلك، حتى المارّون في الطريق. 

هذا القمع الذي جاء ليوصل رسالةً للمتظاهرين مفادها أنّ ما جرى مع بنات ليس قراراً عشوائيّاً تعتذر السلطة عنه بل توجّهاً جادّاً لكيفية التعامل مع الأصوات المحتجة مهما كانت خافتة أو "مؤدبة"، ترك بعض المتظاهرين في حالة صدمة ووصفوه بـ"غير المسبوق"، رغم أنّه لم تكن قد مضت سوى أسابيع قليلة على آخر قمعٍ نفّذته الأجهزة الأمنية بحق مظاهرات عفويّة خرجت في جنين ورام الله نصرةً للقدس وغزّة.

اقرؤوا المزيد: "اغتيال نزار بنات: السّلطة في أوضح صورها". 

لعلّ كثافة القمع وبعض أساليبه كانت غير مسبوقة، لكنّ فعل القمع بحد ذاته أسلوبٌ وظّفته السلطة الفلسطينية منذ أيّامها الأولى، واستهدفت به شرائح مختلفة بذرائع وأدواتٍ متفاوتة، وبنظرةٍ بانوراميّة على حوادث القمع عبر أكثر من 25 عاماً من عمر السلطة الفلسطينيّة، يمكن فهم الكثير حول "الخطوط الحمراء" للسلطة، وكيف تزداد هشاشة بنيتها مع الوقت وتتسع شريحة الفئات المُستهدفة بقمعها.

في الـ1994 البداية

في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1994، أي بعد أقلّ من 6 أشهرٍ من انتشار عناصرها وفق ما نصّت عليه اتفاقية أوسلو، كانت أوّلُ حادثةٍ بارزةٍ يُسجّل فيها قمعُ الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة للفلسطينيين. وقعت الحادثة في مسجد فلسطين في غزّة، وعُرفت بعدها بـ"مجزرة مسجد فلسطين"، إذ قُتِل فيها 11 فلسطينيّاً، وأُصيب أكثر من 120.

كان المسجد في ذلك اليوم يتحضّر لخروج مظاهرةٍ دعت لها حركة "حماس" بعد صلاة الجمعة، وذلك احتجاجاً على منع السّلطة تشييع استشهاديّ من "الجهاد الإسلاميّ" فجّر نفسه في جنود الاحتلال قرب مستوطنة "نتساريم". أحرجت عمليةُ "الجهاد" وتضامن "حماس" معها جهود السّلام التي كان يقودها عرفات آنذاك، فحاصر مئتا عنصرٍ مسلّح تقريباً نحو 6 آلاف مصلٍّ في المسجد، ووقعت مشاداتٌ بينهم انتهت بإطلاق الأجهزة الأمنيّة الرصاصَ الحيَّ على المصلين.

لم تُعلّق السُّلطة رسميّاً على ما حدث، لكنها استخدمت حركة "فتح"، كما استخدمتها في قمع مظاهرات الاحتجاج على اغتيال نزار بنات مؤخراً، فخرجت في بيانٍ اتهم "حماس والجهاد الإسلاميّ بالتورط في مخططات تآمريّة نيابةً عن أطرافٍ أجنبيّة". وفي تقاطع مثير للسخرية مع ما يُقال اليوم، قال البيان في حينه إنّه لا يُمكن لحركة فتح "تقديم تنازلات أو التساهل مع إصرارهم على الإضرار بالوحدة الوطنيّة".

كما أنّها لم تتراجع عن هذا القمع المُفرط الذي أدّى إلى القتل، بل استخدمته مُجَدداً في حوادث لاحقة. عام 1996، اقتحمت الأجهزة الأمنيّة حرم جامعة النجاح الوطنيّة في نابلس، وذلك بغرض فضّ مؤتمرٍ صحافيّ لـ"الكتلة الإسلاميّة"، واشتبكت مع طلبة الجامعة ومُدرّسيها، فأُصيب العشرات منهم، واعتقل أكثر من 150 طالباً. 

وفي السنوات اللاحقة تنوّعت أشكال القمع ومستوياته، واستُخدم في مناسبات عدة؛ لقمع أي تظاهراتٍ ذات طابع سياسيّ تُهدّد مشروعها ودورها الذي تنصّ عليه اتفاقية أوسلو كقمع المظاهرات المتجهة نحو نقاط التماس مع الاحتلال، وأيضاً لقمع تظاهرات وحراكات تحمل مطالب اجتماعيّة نقابيّة وحقوقيّة، أو تنتقد تردي الأداء الحكومي، خاصّةً بعد انتهاء انتفاضة الأقصى، وثالثاً: تستهدف السلطة خصومها السياسيين وقدرتهم على التجييش والتحرك في الشارع (حركة "حماس" مثلاً)، وأيّ أحزاب أخرى تحاول تحريك قواعدها الشعبيّة في الميدان (مثل حزب التحرير).

اقرؤوا المزيد: "ما الذي أغضب ساكن المقاطعة؟".

وعلى سبيل التدليل لا الحصر، نذكر هنا بعض حوادث القمع. في العام 1998، وتحضيراً لجلسة المجلس الوطنيّ التي عُقدِت في غزّة بمشاركة بيل كلينتون، وعُدّل فيها الميثاق الوطنيّ، أصدرت السّلطة قراراً بالمنع العام للتظاهر. في العام نفسه، اعتدت عناصر من الأمن الوقائيّ بالضرب على نواب في المجلس التشريعيّ خلال وقفة نُظمت أمام منزل الشهيدين عادل وعماد عوض الله في البيرة. 

ولم يسلم من هذا القمع حتى أبناء حركة "فتح"، ففي عام 1998 أيضاً، أُطلقت النيران من مبنى المقاطعة في رام الله على مظاهرةٍ نظّمتها حركة "فتح" احتجاجاً على اقتحام الاستخبارات العسكريّة لمكتبها. أُصيب بتلك النيران في رأسه الطفل وسيم الطريفي (15 عاماً) ليُعلن عن وفاته في وقت لاحق من نفس اليوم. 

وفي خضم الانتفاضة الثانية، وتحديداً في أكتوبر/تشرين الأول 2001 قُتِل طفلٌ وشاب (14 و19 عاماً) برصاص الشرطة الفلسطينيّة بعد قمعها مسيرةً طلابيّة خرجت من الجامعة الإسلاميّة في غزّة احتجاجاً على الغزو الأميركيّ لأفغانستان.

وعلى الصعيد الاجتماعيّ، فرّقت الشرطة الخاصّة مطلع عام 2000 اعتصاماً نظّمه عدد من المعلمين والطلاب في الخليل احتجاجاً على حملة التنقلات في صفوف المعلمين وقد أدّى ذلك إلى نقل نحو 20 شخصاً للمشافي لتلقي العلاج. 

"دماء جديدة" بعد الانتفاضة

بُعِثت في سياسة القمع السلطويّة روحٌ جديدة بعد انتهاء الانتفاضة الثانيّة. أُعيدت هندسة الأجهزة الأمنيّة وعقيدتها بما يضمن حماية أمن "إسرائيل"، فيما حرصت نخبة السّلطة وتحديداً بعد تولي محمود عبّاس رئاسة السّلطة، على تعزيز موقعها وحماية مصالحها، وقمع من تراه عائقاً أمام ذلك.

كما استغلت السّلطة ما جرى بعد فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006، وما تلاه من محاولة للانقلاب على هذه النتائج وسيطرة الحركة على قطاع غزّة، لتبدأ سلسلةً جديدةً من القمع، وتوسع دوائره، وتوّظف لأجله مختلف الأدوات.

وابتداءً من 2011 تكرّرت مظاهر القمع، خاصّةً مع حالةٍ من الانتعاش سادت الشارع الفلسطينيّ بالتزامن مع ثورات الربيع العربيّ. عام 2011، قُمع حراك "فلسطينيون من أجل الكرامة" الذي رفعت خلاله شعارات تطالب بإسقاط اتفاقية أوسلو ومحمود عباس وإنهاء الانقسام. 

كما ضُرِب وسُحِل متظاهرون خرجوا ضدَّ زيارة كانت مرتقبة لنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، شاؤول موفاز، للمقاطعة عام 2012، وكذلك في مظاهرة أخرى ضدّ المفاوضات عام 2013. كما فضّت الأجهزة الأمنيّة بوحشية اعتصاماً أمام مجمع المحاكم في البيرة عام 2017 أثناء محاكمة 6 شبان بينهم الشهيد باسل الأعرج، وفي 2018 اعتدت الأجهزة الأمنية على مظاهرات "أوقفوا العقوبات على غزة".

اشتباكات بين الشرطة الفلسطينية وشبان يحتجون على وحشية الشرطة وما يسمونه "الحكم العسكري" في مدينة رام الله بالضفة الغربية في 1 يوليو 2012 ، بعد يوم من مهاجمة الشرطة الفلسطينية للمتظاهرين الذين كانوا يحتجون على زيارة مقررة لنائب رئيس وزراء الاحتلال شاؤول موفاز للقاء محمود عباس. تصوير: AFP / ABBAS MOMANI

وكما وُظّف القمع لمحاصرة من ينتقد السّلطة أو يواجهها سياسيّاً، وُظّف كذلك لمحاصرة من يرفع صوته ضدّ سياسات الاحتلال الإسرائيليّ. في العام 2008 مثلاً قُمِعت مظاهراتٌ طلابيّة ضدّ العدوان الإسرائيليّ على غزّة، وفي 2012، نُكّل بمتظاهراتٍ خَرَجنَّ للتضامن مع الأسير رائد الشرباتي الذي كان مُضرِباً عن الطعام آنذاك، وفي 2013 قمعت مظاهراتٌ خرجت للمطالبة بفتح شارع الشُّهداء في الخليل.

أما على صعيد الحراكات الحقوقيّة، ففي عام 2016 وخلال اعتصامات المعلمين للمطالبة بتحسين ظروفهم، عرقلت الشرطة الفلسطينية مظاهراتهم واعتقلت بعضهم. وفي العام 2020، لم تتوانَ عن قمع اعتصامٍ لذوي الاحتياجات الخاصّة نظموه للمطالبة بضمان حقوقهم في العلاج والرعاية. وهو نفس القمع الذي واجهت به السّلطة حراك "طفح الكيل"، وتظاهرات خرجت ضد اتفاقية "سيداو"، وقانون حماية الأُسرة، وغيرها الكثير من حوادث القمع التي زخر بها العقد الماضي.

كيس الأدوات لا يفرغ

بالنظر إلى حوادث القمع، نجد نمطاً متكرراً ومتصاعداً في آنٍ واحد من الأدوات والأساليب استخدمته السلطة منذ البداية. 

يُنفذ القمعُ عادةً على أيدي عناصر وضباط مختلف الأجهزة الأمنيّة (الشرطة، الأمن الوقائي، الاستخبارات، الاستخبارات العسكريّة، إلخ). ويظهر العناصر بزيّهم الرسميّ أو يندسّون بين المتظاهرين بزيٍّ مدنيّ. كما تم توثيق تورط عناصر من خارج الأجهزة الأمنيّة في قمع المتظاهرين في حوادث متفرقة، منها فضّ اعتصام "أوقفوا العقوبات على غزّة" عام 2018، وآخرها ظهور أفراد من الشبيبة الفتحاويّة يوم 27 يونيو/حزيران 2021 خلال قمع الاحتجاج في رام الله على اغتيال نزار بنات. 

فلسطينيون يقفون مقابل قوات الأمن والشرطة للتظاهر في ساحة المنارة في مدينة رام الله، للمطالبة بإلغاء العقوبات المفروضة على غزة في 21 يوليو 2018. تصوير: عصام الريماوي / وكالة الأناضول

أمّا عن الأدوات فقد ضرب المتظاهرون بالأيدي والأرجل والدروع وأعقاب البنادق والهراوات وألواح الخشب والحديد، وحتى الأجهزة اللاسلكية. واستُهدف المتظاهرون على رؤوسهم وعلى أماكنهم الحساسة، إذ تتم إحاطة المتظاهر عادة من مجموعة من العناصر يضربونه في الآن ذاته. كما أطلقت على المتظاهرين أيضاً قنابل الصوت والغاز والرصاص الحيّ (وقد طلبت السّلطة مؤخراً من "إسرائيل" دفعة جديدة من وسائل فض الاعتصامات)، ورُشّوا برذاذ الفلفل من مسافة صفر، وسُحِلوا في الشوارع، واختُطِفوا من وسط المظاهرات ليُضرَبوا من جديدٍ في مراكز الاعتقال.

عدا عن الضرب المباشر، تستخدم الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية أدوات ترهيب وتهديد متطابقة مع تلك التي تستخدمها الأنظمةُ العربيّة الاستبدادية. يشمل ذلك تخويف المتظاهرين المُعتقلين من محاكماتٍ عسكريّةٍ، ومِن تُهمة "التخطيط لانقلاب"، وبالادعاء أنّهم "عملاء لأجندات أجنبية"، وبتهديداتٍ من نوع: "مش رح يشوفوا الضو". 

كذلك استخدمت أساليب مستوحاة من قمع الاحتلال، كملاحقة المتظاهرين المُصابين إلى المشافي واختطافهم قبل إتمام علاجهم، وإقامة حواجز على الطرق المؤدية لأماكن التظاهر، وتدقيق الهويات بحثاً عن متظاهرين محتملين. 

اقرؤوا المزيد: "غاز حفظ النظام.. دموع من ذهب".

إضافةً لما سبق، وخلال العقد الماضي، تصاعد استهداف المُتظاهرات بالذات، وذلك بمستوى إضافيّ من القمع يستند على أساليب وفهم أبويّ ذكوريّ لدور المرأة السياسيّ والمجتمعيّ. نُعِتت المُتظاهرات بشتائم جنسيّة وتم التحرّش بهنّ باللمس، أو بإطلاق الإيحاءات الجنسيّة، وضُرِبن على مناطق حساسة، وتم الاستقواء عليهنّ بآبائهنّ وأزواجهنّ، وطُلِب منهنّ التزام منازلهنّ وشُهّر بهنّ وأسيء لسمعتهنّ. وفي المظاهرات الاحتجاجيّة على اغتيال بنات ظهر مستوى جديد صُودِرَت فيه هواتفُ المتظاهرين والمتظاهرات، وتم تسريب صورٍ ومحادثاتٍ من هواتفهم كوسيلة للضغط واغتيال السمعة.

وفي محاولة لتحويل المظاهرة إلى مشاجرة، تُرسل الأجهزةُ الأمنيّة أحياناً بعضَ عناصرِها أو عناصر محسوبة على حركة "فتح"، يلبسون زيّاً مدنيّاً، يخترقون المظاهرة الأصلية ومن قلبها يهتفون للسلطة الفلسطينيّة ورموزها. وأحياناً يُخرجون مظاهرات مضادّة "لمبايعة الرئيس"، كما حصل عام 1999 عندما  حشدت السلطة أتباعها في مظاهرةٍ ضدّ بيانٍ للتشريعيّ أدان الفسادَ، وعندما هتف عناصرٌ بزيّ مدني لمحمود عباس وسط مظاهرة نادت برحيله عام 2011.

القامع يربح!

لم تقمع السلطة خصومها السياسيين فقط بل قمعت جميع أنواع مظاهر الاحتجاج ضدها أو ضد الاحتلال، ورأت في أبسط الاحتجاجات المعيشية والمطلبيّة مصدر تهديدٍ لها يتوجب وأده. ولم تكن هراواتها موجهة للمتظاهرين فقط، بل شملت الحقوقيين والصحفيين المتواجدين للتوثيق، فكسرت كاميراتهم وصودرت هواتفهم وضربوا ضرباً مبرحاً، واعتقلوا وهددوا بالمنع من السفر وبالطرد من وظائفهم إذا قاموا بتغطية الاحتجاجات. أمّا المواقع الإلكترونيّة التي تغطّي المظاهرات التي يتعامى عنها الإعلام الرسميّ، فإنّ مزودي الإنترنت في فلسطين تولّوا حجبها بناء على أوامر مباشرة من السلطة. 

ورغم حالاتٍ قليلةٍ نادرة تم فيها الإعلان عن تشكيل لجان تحقيقٍ مستقلّة في وقائع القمع، لم تنشر نتائج شاملة لأيّ من هذه التحقيقات، ولم تسجّل محاسبة المسؤولين بل تمت ترقية بعضهم ومكافئتهم، مثل المقدم عبد اللطيف القدومي الذي شارك في يونيو/حزيران 2012 في قمع المتظاهرين المحتجين على زيارة مرتقبة لموفاز وضربهم، إذ منحته محافظ رام الله والبيرة ليلى غنام، بعد حوالي شهرين، "درع الأصالة" لـ"تميّزه وعطائه اللامحدود في خدمة الوطن والمواطن".

والواقع أنّ المدرك لدور السلطة لن ينتظر منها أن تعاقب أو تحاسب القامعين، وإن تم فإن ذلك لن يعني سوى إجراءٍ شكليٍّ تتستر به على قمعٍ جوهريّ في بنيتها، فالمسار الذي أدّى لتأسيس السلطة لا يقوم إلّا بإلغاء أيّ مسارٍ يعارضه، لذلك فإنّ القمع أساسٌ لبقاء نخبتها في سدّة الحكم الذي لا يمكّن أركانه سوى قبولٌ إسرئيليّ ورضا أميركيّ وغربيّ عن أدائها.