26 أكتوبر 2023

كيف تتواطأ المنظّمات الأممية على العدوان على غزّة؟ 

كيف تتواطأ المنظّمات الأممية على العدوان على غزّة؟ 

لم يكن مشهد قافلة سيارات "الأمم المتحدة"، وهي تسير بخط مستقيم على الطريق الساحلي لمدينة غزة باتجاه جنوب القطاع، سوى إعلان عن فصل جديد من العدوان، عنوانه هذه المرّة: تواطؤ المنظمات الأممية في مخطط تهجير السكّان وهندسة الحصار على قطاع غزّة وإدارته.

من المعلوم أنّ مدينة غزّة هي مركز القطاع، ففيها تتكثّف الوزارات والمؤسسات والمراكز والمنظّمات. ولكن، كيف جُعلت خانيونس اليوم مركزاً وعاصمة أممية لقطاع غزة؟

الانسحاب إلى الجنوب

فجر يوم الجمعة 13 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، سابع أيام معركة "طوفان الأقصى"، ضجّت الأنباء بتلقي موظفي الهيئات الدولية في قطاع غزة، وفي مقدمتهم "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)" و"برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)"، إخطارات رسمية من جيش الاحتلال تطالبهم بالتوجه إلى جنوب وادي غزة.

خريطة توضح جغرافيا قطاع غزة، ويظهر فيها وادي غزّة الذي يعتبر الاحتلال ما فوقه شمال القطاع وما تحته جنوبه.

تزامن ذلك مع دعوة مماثلة وجهها الناطق باسم جيش الاحتلال لسكان المنطقة الشمالية من قطاع غزة، والذي يتجاوز عددهم مليون فلسطيني، بضرورة مغادرة بيوتهم والتوجه إلى جنوب وادي غزة، وعدم العودة حتى إصدار بيان جديد. 

أثار الإعلان في حينه حالةً من الهلع في صفوف المدنيين شمال القطاع، ما دفع المكتب الإعلامي الحكومي للرد عليه فوراً، ووصفه بأنه "دعاية زائفة وحرب نفسية"، داعياً السكّان إلى تجاهله. وبالفعل، التزم السواد الأعظم من أهالي القطاع منازلهم، معلنين رفضهم لمخططات التهجير الإسرائيلية، وخرجت مظاهرات شعبية عفوية في مخيم الشاطئ وحي الشيخ رضوان تعلن الرباط في البيوت.

وفي اليوم ذاته، تحرّكت قافلة كبيرة من سيارات "الأمم المتحدة" و"الصليب الأحمر" وغيرها من الهيئات الدولية العاملة في القطاع، ضمت مئات الموظفين وعائلاتهم، وسارت على طول شارع الرشيد الساحلي غرب مدينة غزة باتجاه مدينة خانيونس.

مركبات اللجنة الدولية للصليب الأحمر خلال عملية إخلائها فلسطينيين من منازل في شمالي غزة إلى جنوبها في 13 تشرين أكتوبر. (تصوير: أشرف عمرة/ الأناضول)

تزامن ذلك مع تبريرات المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، الذي قال: "الإنذار الإسرائيلي يسري أيضاً على جميع موظفي الأمم المتحدة وأولئك الذين يقيمون في منشآت تابعة للمنظمة بما في ذلك المدارس والمراكز الصحية والعيادات". كذلك، صدر إعلان عن "الأونروا"، قالت فيه إنّها "نقلت مركز عملياتها وموظفيها الدوليين إلى موقع في جنوب قطاع غزة، لمواصلة عملياتها الإنسانية ودعمها للموظفين ولاجئي فلسطين في القطاع". 

فيما لم يكن لهذه الخطوة من معنى، سوى استجابة هذه المنظمات لمخطّط الاحتلال بتهجير سكّان شمال القطاع، بل وحثّ الناس الذين يحتاجون خدماتها على اللحاق بها. 

في الوقت ذاته، كان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والعديد من مسؤولي الهيئات الدولية، يوجهون انتقادات إعلامية خجولة لقرار الاحتلال بتهجير سكان القطاع. قال غوتيريش: "إن نقل أكثر من مليون شخص في غزة، وفق أوامر الجيش الإسرائيلي، عبر منطقة حرب مكتظة بالسكان إلى جنوب القطاع، حيث لا يوجد غذاء أو ماء أو أماكن إيواء -عندما تكون المنطقة بأسرها تحت الحصار- أمر خطير للغاية وقد لا يكون ممكناً في بعض الحالات". فيما قال المفوض العام لوكالة "الأونروا"، فيليب لازاريني: "إن دعوة القوات الإسرائيلية لنقل أكثر من مليون مدني يعيشون شمال غزة خلال 24 ساعة، أمر مروّع ولن يؤدي سوى إلى مستويات غير مسبوقة من البؤس، ويدفع الناس في غزة بشكل أكبر إلى حافة الهاوية".

أن تُخلي الشمال للقصف

كان مشهد انسحاب المنظمات الأممية إلى الجنوب، بجانب بيانات الاحتلال المتواصلة، قد أصاب بالفعل المئات من السكّان بالذعر، فقرروا اللحاق بهم مع ساعات الظهيرة من يوم الجمعة، فسلكوا شارع صلاح الدين شرق غزة باتجاه جنوب القطاع. وفي الطريق، باغتتهم طائرات الاحتلال بغارات غادرة دون سابق إنذار، قصفت مركباتهم، موقعة أكثر من 70 شهيداً و200 جريح، في صفوف المدنيين من الأطفال والنساء.

شمِل انسحاب وكالة "الأونروا" من شمال القطاع، توقفها بشكل كامل عن تقديم الخدمات لمئات آلاف اللاجئين هناك، بما يشمل المدارس والمقار الرئيسية والمراكز الصحية.

رغم استجابة الأونروا لأوامر جيش الاحتلال وإخلائها شمالي غزة، قصف الطيران الإسرائيلي في 16 أكتوبر 2023 مستودعات الأونروا الواقعة جنوبي غزة. (تصوير علي جاد الله/ الأناضول)

تزامن انسحاب الوكالة مع تشريد أكثر من 423 ألف مواطن من بيوتهم، لجأ 270 ألف منهم للاحتماء بمدارسها التي كانت تقدّم لهم الغذاء والمأوى. تُرك هؤلاء وأكثر منهم لوحدهم في العراء، أمام ماكينة القتل الإسرائيلية. حتّى موظفيها لم يسلموا من القصف، فحتّى 25 تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري، استُشهد 35 موظفاً من الوكالة.

لم تكد تمضي 3 أيام على إخلاء "الأونروا" والمنظمات الدولية لشمال قطاع غزة، حتى شنت طائرات الاحتلال غارات عنيفة دمرت فيها مستودعات "الأونروا" شمال القطاع، متسببة بإتلاف أطنان من الأدوية والمواد الغذائية وغيرها ممّا هو داخل هذه المستودعات. إضافة إلى استهداف عدد من المدارس التابعة للوكالة ومحيطها في مخيم جباليا، موقعة عشرات الشهداء والجرحى، قبل أن يمتد القصف لاحقاً ليطال مدارس في خانيونس جنوب القطاع، الواقعة ضمن ما أسماها الاحتلال بـ "المنطقة الآمنة"!

مسرحيّة اسمها "المساعدات"

في 21 تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري، وبعد وساطات دولية وشروط أميركية، دخلت أولى قوافل المساعدات الدولية إلى غزة، والتي ضمت 20 شاحنة محملة بمياه الشرب ومساعدات طبية وأغذية، ضمن اتفاق مصري - أميركي يقضي بتسليم هذه المساعدات إلى 3 جهات فقط، وهي: الأمم المتحدة (الأونروا)، ومنظمة الصحة العالمية، والهلال الأحمر الفلسطيني.

ستتولّى هذه الجهات أمر الشاحنات فور دخولها القطاع، لنقلها إلى مستودعات "الأونروا" في خانيونس، التي بدورها ستكون مسؤولة عن توزيعها. ثمّ تضمن هذه المؤسسات عدم إيصال أي من المساعدات إلى شمال قطاع غزة، وإلا فإنّ الشاحنات المُحمّلة بها ستُقصف.

حتّى الآن، وصل إلى هذه المنظّمات في جنوب القطاع 84 شاحنة من المساعدات، دون أن يرى منها الشمال شيئاً. وبالطبع، كلّ ذلك بدون أي تنسيق مع الجهات الحكومية في غزة، التي تشرف على المؤسسات الأكثر فاعلية واحتياجاً للمساعدات، كالمستشفيات. 

فلسطينيون نازحون داخل إحدى مدارس الأونروا في مخيم رفح جنوبي قطاع غزة، في 14 أكتوبر 2023. (تصوير محمد عابد/ وكالة الصحافة الفرنسية)

وعلى الرغم من الوضع الصحي الكارثي في القطاع، وإعلان وزارة الصحة انهيار الخدمات الطبية في مشافي القطاع التابعة لها، والتي تستقبل آلاف الجرحى والشهداء يومياً، تحديداً مشافي شمال القطاع (مجمع الشفاء والإندونيسي وكمال عدوان)، فلم يتم تقديم أي جزء من المساعدات إلى هذه المشافي ومحاولة إنقاذها من الانهيار. علماً بأن الأمم المتحدة المُكلّفة دولياً بخدمة 70٪ من سكان قطاع غزة كونهم لاجئين، لا تُقدم أي خدمات صحية مباشرة للجرحى والمصابين، ولا تمتلك أي مشافي قد تساهم في تخفيف حالة الاستنزاف المتواصلة للمشافي الحكومية التي فاضت أسرتها وممراتها بالجرحى. 

إلى جانب كل ما سبق، تشارك "الأونروا" في تبييض وجه الاحتلال، عبر المشاركة في مسرحية "قوافل الإغاثة" التي يُصوّر من خلالها للعالم بأنّ الاحتلال "رحيم" بدعمه سكّان القطاع، فيما لا تلبي هذه القوافل أياً من احتياجات القطاع، لا كماً ولا نوعاً، إذ إنّ ما يدخل منها يومياً لا يصل إلى 3٪ من عدد الشاحنات الذي كان يدخل غزة قبل المعركة، والبالغ 600 شاحنة يومياً، علاوة على خلوّها من أي مواد ومستلزمات طبية ضرورية وذات أثر على الانهيار الصحي الحالي في القطاع. 

هندسة الحصار

ما تفعله المنظمات الأممية، من خلال نقل مركز عمليّاتها من شمال القطاع إلى جنوبه، هو عمليّاً دعوةٌ للناس للهجرة وترك بيوتها. بالتالي، جَعْلِ خانيونس مركزاً للقطاع بدلاً من غزّة، وهو عين مُخطّط الاحتلال؛ أن يفصل بين شمال القطاع وجنوبه، ويجعل من الشمال حجيماً تصليه الغارات الصاروخيّة وممنوعة عنه المساعدات، فيما يحظى الجنوب بقصفٍ أقل وفتاتٍ من المُساعدات، والأهم، عزل المؤسسات الحكوميّة عن الدور الإغاثي للناس بحصر المساعدات في المنظمات الأممية. 

هكذا، تُدير هذه المنظمات الحصار مع "إسرائيل"، وتكون بيده أداة طيّعة متواطئة في تجويع الناس وتهجيرهم.

مخيم أقامته الأونروا غرب خان يونس وجهزته لاستقبال النازحين من شمالي غزة. (تصوير: أحمد سالم/ بلومبرج).