21 يونيو 2023

سجن إفراج، سجن إفراج: ما الذي يفعله الإداري فينا؟

سجن إفراج، سجن إفراج: ما الذي يفعله الإداري فينا؟

في تموز/ يوليو 2022، اقتحمت قوّةٌ من جيش الاحتلال منزلَ عائلة حامد في سلواد، شمال شرق رام الله. كانت تلك المرة الرابعة التي يقتحم فيها الجيشُ المنزلَ بحثاً عن محمد سهيل حامد (22 عاماً) ولا يجده. لكن هذه المرة، اتصل الضابط بمحمد، وهدّده أنّه لن يغادر المنزل إلا بحضوره، كما هدّده بالمسّ بعائلته.

كان ردّ محمد مُلَّخِصاً لما يعنيه الاعتقالُ الإداريّ من قهرٍ، إذ قال للضابط إنّه سيأتي ولكن: "اوعدني ما تحولني إداري وما تضربني". وهو ما يُذكّر بقول كثيرين من الشباب اليوم: "اعتقال مع حُكم أهون من اعتقال إداري!". سلّم محمد نفسه، وبعد ثلاثة أيامٍ حُوّلِ للاعتقال الإداريّ. تقول والدته رنا حامد: "مُدِّدَ اعتقاله للمرة الثانية ولأربعة شهورٍ جديدة، هو يتوقع تمديداً ثالثاً. أخبرنا ألا ننتظر عودته قبل عام على الأقل". 

رنا، والدة الأسير محمد حامد. (عدسة: شذى حمّاد).
رنا، والدة الأسير محمد حامد. (عدسة: شذى حمّاد).

اعتقل محمد للمرة الأولى عام 2018، وكان يبلغ حينها 17عاماً، وحُوّل للاعتقال الإداري. منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، قضى محمد ما مجموعه عامين وتسعة شهور في الاعتقال الإداريّ. ولأنّه أصبح "خبرةً" في معنى الاعتقال الإداريّ وتأثيره على سير الحياة، قرر عندما اقترب حفل زفاف شقيقته ألّا ينام في البيت، حرصاً أن يتم الحفل دون أن يُفسد اعتقاله، أو احتمالية اعتقاله، فرحة العائلة الأولى. وتمّ له ذلك. 

محمد هو الابن الأكبر لوالديه، والشقيق الوحيد لست بنات، لم يتعرف بعد على أصغرهم "آليا" والتي وُلِدَت بعد شهرٍ من اعتقاله الأخير. تتشبث أُمّه رنا بأملٍ حذر، لكنها لا تيأس من انتظاره والتخطيط لعودته. تقول: "يخطط محمد لحياته كباقي الشباب، أن يعمل، ويدخر، ويبني منزلاً، ويتزوج". ولكن رنا تتخوف أن يبقى الإداري يلاحق نجلها طوال حياته، وتضيف: "في آخر زيارة، رأيت التجاعيد بدأت تظهر حول عينيه، رغم أنه في بداية العشرينات.. والله شعرت بالخوف، محمد يكبر ويتغير وهو داخل السجون بعيد عني". 

 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

الإداري أكثر من مجرد رقم!

بلغ عدد الأسرى الإداريين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حتى منتصف حزيران/يونيو 2023، حوالي 1083 أسيراً، بينهم 19 طفلاً وثلاث أسيرات، وحوالي 80% منهم أسرى سابقون قضوا سنوات طويلة سابقاً في الاعتقال الإداري. يعتبر هذا الرقم الأعلى الذي يُسجّل في عدد الأسرى الإداريين منذ عام 2003. 

المصدر: نادي الأسير.

ومن المعروف أنّ الاحتلال يتوسع في استخدام أوامر الاعتقال الإداريّ عند تصاعد الحالة النضاليّة، إذ يعتبره أداةً غير مُكلفة وفعّالة لإبعاد الفاعلين عن الميدان والحدّ من تأثيرهم السياسيّ والاجتماعيّ. شهدنا دلائل ذلك في السنوات الأخيرة: مثلاً قبيل مواسم الاقتحامات الاستيطانية للأقصى وبعيد الهبّات الشعبيّة المرتبطة به، يزداد عدد المعتقلين الإداريين في القدس، وكذلك الأمر في الضفّة الغربيّة، فيزداد العدد عندما يقترب موعد الانتخابات المحليّة أو الجامعيّة مثلاً، أو بُعيد عمليات فدائية نوعيّة، وامتد الأمر إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وبالأخصّ بعد هبّة الكرامة لعام 2021.

وإن كان العدُّ سمةً أساسيةً في ملف الاعتقال الإداريّ، سواء في البيانات الدوريّة الصادرة عن المؤسسات الحقوقية، أو في أحاديث الناس عن فلانٍ: "كم مرة اعتقل؟ وكم شهر إداري سيقضي؟"، إلا أنّ تلك الأرقام وإن بدت صماء مجردة، إلا أنّ خلفها حيوات لعائلاتٍ بأكملها، توقف مسيرها الطبيعي وتعطّلت تفاعلاتها البشريّة الروتينيّة، فماذا يعني أن تصبح كلُّ الأحلام مؤجلة؟ ماذا يعني الغياب المستمر عن العائلة ومناسباتها؟ ماذا يعني أن يتعرّف الأبُّ على أطفاله عبر السمّاعة في السجن؟ ماذا يعني أن تتجمد الحياة؟   

حبيس الانتظار

غسان زواهرة (42 عاماً) هو واحدٌ من تلك "الأرقام". بغير قرارٍ منه، تأجلّ أحد أحلامه مرةً أخرى، وهو حلم إقامة مطعم صغير بالقرب من منزله في مخيم الدهيشة في بيت لحم.  بعد اعتقاله الإداريّ الأخير، في 19 آب/ أغسطس 2021، طلب من عائلته أنّ تبيع المعدات التي كانت قد اشتراها قبل ذلك التاريخ بحوالي 4 شهور. المفارقة، أنّ شراء تلك المعدات كان فور تحرره من اعتقالٍ إداريٍّ سابقٍ، فهو ما بين اعتقال واعتقال، منذ أن اعتقل للمرة الأولى عام 2002.

وكما كلّ مرة، لا يعلم غسان كم يطول هذا الاعتقال، ومتى سيخرج لـ"زيارة" عائلته ويعود مجدداً إلى زنزانته، مثلما جرت العادة على مدار الأعوام العشرين الماضية من حياته. يعكس غسان هذه المعاني في رسالة أرسلها من السجن، يقول في جزءٍ منها: "أن يقضي الواحد عمره دون مستقبل، دون شغل ودون حياة اجتماعية، ودون أفق لأي شيء يخطط لعمله. أن تخرج من السجن وتبقى حبيس القلق والتوتر(..). أن تبقى حبيس الانتظار: انتظار الإفراج، انتظار التمديد.. وانتظار الاعتقال الجديد(..)".1سجّل غسان زواهرة هذه الرسالة قبيل خوضه الإضراب عن الطعام برفقة 30 أسيراً من الجبهة الشعبية في أيلول 2022 رفضاً للاعتقال الإداري.  

بلغت مجموع اعتقالات غسان 15عاماً، نصفها كانت بعد زواجه، تحوّلت خلالها علاقته مع أطفاله الأربعة، حسب تعبيره، إلى ذلك الأبّ الذي تُعلّق صورتُه على الحائط، فأصغر أطفاله، مينا، رُزق بها، ومشت خطواتها الأولى، ونطقت أولى كلماتها وهو بعيدٌ عنها. يقول والده إبراهيم زواهرة: "الحياة صعبة علينا كلنا كعائلة، غسان عميد البيت الغائب دائماً عنا". 

غُيّب غسان عن معظم مناسبات العائلة، إلا أنّ ألم غيابه الأكبر كان في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 عندما ارتقى شقيقه معتز شهيداً خلال مواجهات مع قوات الاحتلال في بيت لحم. أخبر غسان عائلتَه أنَّه لم يبكِ شقيقَه عندما تلقّى الخبر، والتزم الصمت، كي لا يظهر ضعيفاً أمام إدارة السجن. تقول والدته: "كتم غسان حزنه حتى أكل الشيب شعره ولحيته". 

إبراهيم زواهرة يحمل صورة ابنه الأسير غسان زواهرة، في منزل العائلة في مخيم الدهيشة، جنوبي بيت لحم. (عدسة: شذى حمّاد).
إبراهيم زواهرة يحمل صورة ابنه الأسير غسان زواهرة، في منزل العائلة في مخيم الدهيشة، جنوبي بيت لحم. (عدسة: شذى حمّاد).

لم ييأس غسان يوماً من ملاحقة أحلامه رغم الاعتقالات المتكررة، فحصل على شهادة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية بعد 14 عاماً من الدراسة. لم يحضر غسان حفل تخرجه إذ كان معتقلاً، واستلمت والدتُه وأطفاله شهادته نيابةً عنه، كما حالت اعتقالاته بينه وبينه الحصول على وظيفة ثابتة. يقول والده: "سعى غسان كثيراً للحصول على عمل، ولكن كان يُرفض بسبب اعتقالاته الكثيرة. فيما أعربت إحدى المؤسسات عن خوفها من توظيفه". 

ورغم ذلك لم ييأس غسان، فمرّة عمل سائق توصيل في مخبز حلويات، ومرّة عمل حارساً، وأخيراً سعى لفتح مطعمٍ خاصّ لكنه قبل اكتمال تلك الخطوة عاد إلى مطبخ السجن حيث يُعرَف بين رفاقه بالطبّاخ الماهر.

 "كل عامين في عندي إداري"

22 تموز/ يوليو 2011،  يمرّ شريط الأخبار على شاشة التلفاز: "وفاة نجية شيباني والدة الأسيرين طارق ومنى قعدان". هكذا، عرف الشقيقان اللذان خرجا لتوهما من جولات التحقيق بخبر وفاة والدتهما. تضاعف الفقد والألم على منى وطارق اللذين لم يكونا إلى جانب والدتهما خلال مرضها ثمّ هاهي تتوفى دون أن يكونا بالقرب.  يُعلّق طارق، "وفاة والدتي كان مجزرة نفسية وعاطفية لي ولأهلي".

 لم يكن ذلك الاعتقال الأوّلَ أو الأخير لطارق (50 عاماً)، بل كان من بين 18 اعتقالاً تعرّض لها منذ أن كان طالباً في الثانوية العامة، سلبته 13 عاماً من الحريّة، منها 11 عاماً تحت بند الاعتقال الإداريّ. يُعلّق طارق: "من عام 1989 ما عشت بحياة استقرار، كل عامين يوجد إداري. ما بعرف الواحد ينجز أكاديمياً وعملياً ومهنياً، لا يوجد مجال لإنجاز".

طارق قعدان في حديقة منزله في عرابة، جنين، 2021. (عدسة: شذى حماد)
طارق قعدان في حديقة منزله في عرابة، جنين، 2021. (عدسة: شذى حماد)

كان طارق متفوقاً بين أقرانه، إلا أنّ الاعتقالات المتكررة عرقلت حصوله على الشهادة الثانوية لمدة سبع سنوات. ورغم انتسابه مباشرةً لجامعة القدس المفتوحة لدراسة اللغة العربيّة إلا أنه لم يحصل على شهادة التخرج إلا بعد 17 عاماً. "لو ما تعرضت لكل هذه الاعتقالات لكنت الآن محاضراً جامعيّاً في اللغة العربيّة، كان ذلك حلمي وسعيت له كثيراً". ويستدرك: "رغم أن ذلك يحزني كثيراً إلا أنني لا أندم على أي اعتقال أو أي شيء قدمته للقضية". 

بين اعتقالاته المتكررة، حصل طارق على ثلاث سنوات من الحرية المتواصلة (1998-2002) تمكّن خلالها من الزواج والبدء بتأسيس أسرته الصغيرة، ورُزِق بأربع بنات وابن واحد، لكنه  لم يستطع البقاء إلى جانبهم كثيراً. يقول طارق: "كنت أسيراً عندما وُلِدَت بتول في عام 2005، وعندما ولد خالد في عام 2008.. وعندما تخرجت كربلاء وكرامة من الثانوية لم أكن برفقتهما ولم أرافقهما للتسجيل بالجامعة كما كنا نخطط". وتحرم الاعتقالات خالداً الذي يعاني ضموراً في العضلات من والده الذي وإن كان حرّاً فهو ممنوع من مرافقته إلى المشافي الإسرائيليةّ حيث يخضع للعلاج، إذ لا تسمح سلطات الاحتلال بإصدار التصاريح له، كحال غالب الأسرى المحررين.

عندما يصبح وجودك في بيتك "زيارة"

يبلغ عمر رأفت ناصيف، القيادي في حركة "حماس" في طولكرم، 58 عاماً. قضى منها أكثر من 21 عاماً في السجن، أكثر من نصفها - 13 عاماً - في الاعتقال الإداريّ. وهو حالياً قيد الاعتقال وقد جدّدت سلطات الاحتلال اعتقاله الإداريّ مؤخراً لمدة أربعة أشهر إضافية. ومنذ أن توالت عليه الاعتقالات بُعيد انتفاضة الأقصى، كانت أطول فترة قضاها ناصيف خارج السجون ستة أشهر.

رأفت ناصيف أمام منزله في طولكرم، شتاء 2022، قبيل اعتقاله. (عدسة: شذى حماد).
رأفت ناصيف أمام منزله في طولكرم، شتاء 2022، قبيل اعتقاله. (عدسة: شذى حماد).

بدأت اعتقالات ناصيف عام 1994، قضى منها الاعتقالات نحو ثلاث سنوات في سجون السلطة الفلسطينيّة على خلفية عمله المقاوم. وبعد عام 2000 وتزامناً مع انطلاق انتفاضة الأقصى عاش ناصيف مُطارداً نحو عامين، قبل أن تبدأ تتوالى عليه الاعتقالات الواحدة تلو الأخرى. يقول ناصيف (58 عاماً) في مقابلةٍ سابقةٍ إنّ الاعتقال الإداريّ يهدف لإحداث حالة إرباكٍ مستمرة للمعتقل وعائلته، وتشكيل ضاغطٍ نفسيّ ومجتمعيّ، وتفريغ المجتمع من المؤثرين. 

اقرؤوا المزيد: "الاقتراب من الموت.. ما تحكيه الأمعاء عن الإرادة".

ويضيف: "يتعقد الأفق والمستقبل، وصعوبته تكمن بتكراره والبقاء رهينته.. ينعدم الاستقرار وخاصّةً للشخصيات القياديّة بهدف منع تمددها الاجتماعيّ بين الناس واستخدامها عبرةً لتهديد الشباب".

لم يستسلم ناصيف يوماً لسيل الاعتقالات الإداريّة، كان يستأنف في كلِّ مرّةٍ العودة للميدان والعمل السياسيّ، وإن كان ذلك لفترةٍ قصيرة. يقول: "لم أتعود على الأسر، ولكني مؤمنٌ بهذا الطريق ومستمرٌ فيه ومستعد لدفع الثمن (..) من لديه الإيمان والعقيدة بقضيته لا يهمه الاعتقال".

لم تُبعد الاعتقالات الإداريّة ناصيف عن الميدان فقط، بل عن حياته الخاصّة وعائلته. إذ لم يحصل على شهادة البكالوريوس إلا بعد 10 سنوات من الدراسة. ولم يشهد ولادة أي طفل من أطفاله الثلاثة، إذ كان في كل مرة مسجوناً، وغاب عن معظم مناسبات العائلة. يقول ناصيف: "معظم أهلي توفوا وأنا في السجن، والدي ووالدتي وثلاثة من إخواتي، أعمامي وعماتي، والكثير من أقاربي.. فيما لم أتمكن من حضور الكثير من أفراح العائلة". يستدرك ناصيف: "الحياة قصيرة، وليس أملنا بمجرد حياة، وإنما حياة كريمة لا يوجد فيها ذل، ولذلك نبقى ندفع بالمحاولات لتمسك بوجودنا".  

 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

تحوّل الاعتقال الإداريّ والاستهداف بالاعتقالات المتكررة إلى أداةٍ لمصادرة الزمن وتجميده وفرض سلطةٍ عليه حتى بعد الخروج من السجن. ورغم ذلك، لم تتوقف محاولات التحرر وخلق مساحةٍ من التحدي ومواصلة السعي بين الاعتقال والآخر. السعي في الميدان والانخراط المستمر بالنضال، والسعي أيضاً على المستوى الشخصيّ من خلال استئناف الحياة بين كل اعتقال واعتقال، بالزواج أو إنجاب الأطفال، أو الالتحاق بالجامعات.

وهكذا لم ينجح الاعتقال الإداريّ الذي لاحق كثيرين من النشطاء والفاعلين في الساحة الفلسطينية في تحقيق هدفه بشكلٍ حاسم. ولعل تجربة الشيخ الشهيد خضر عدنان، الذي كان من أوائل من رفع راية الإضراب عن الطعام رفضاً للاعتقال الإداريّ، وإصراره على رفض الاعتقال حتى النهاية، مثالٌ على هذا السعي ومحاولة التحدي.

(ملاحظة: أُجريت وجمعت المقابلات التي يستند إليها المقال بين أعوام 2020-2023.)