22 مايو 2021

أذرعُ المقاومةِ الطويلةُ.. عن صواريخ "سيف القدس"

أذرعُ المقاومةِ الطويلةُ.. عن صواريخ "سيف القدس"

اعتمدت المقاومةُ الفلسطينيّة طيلة أيام معركة "سيف القدس" بشكلٍ أساسيّ على سلاحها الصاروخيّ الذي مكّنها من توسيع دائرة المناطق المُهدّدة بالقصف؛ لتشمل مراكز دولة الاحتلال ومنشآتها الحيويّة والاستراتيجيّة. أمرٌ رفع الضغط على الجبهة الداخليّة ومستوطني دولة الاحتلال، إذ وجد الملايين منهم أنفسهم مجبرين على خوض تجربة الحَجْر من جديد؛ تحت تهديد الصواريخ -هذه المرة- لا خوفاً من فيروس كورونا.

4400 ذراع للمقاومة

تمرّ عمليةُ إطلاق الرشقة الصاروخيّة بأربع مراحل زمنيّة، تُشرِف عليها وحداتٌ مختلفةٌ من المقاومة. تبدأ المرحلةُ الأولى بتوريد الصواريخ أو المواد اللازمة لتصنيعها، وتشرف على هذه العملية وحداتُ الإمداد والتمويل، وتعدُّ من أصعب المراحل نتيجةً لاشتداد حصار الاحتلال على غزّة.

في المرحلة الثانية، تتم عملية تصنيع الصواريخ وإجراء التجارب، وتتولّى وحداتُ التصنيع والتطوير هذه العملية. وفي المرحلة الثالثة تُجهّز البنيةُ التحتيّة من أنفاقٍ وغيرها قبل أن تَجري عملية "تربيض" الصواريخ1تُجهّز الصواريخ في قواعد وأماكن مخصصة تسمى "مرابض"، تُستخدم حينما تجري عملية إطلاقها.. في المرحلة الرابعة والأخيرة، تُطلق الصواريخُ نحو أهدافها، وتُشرِف الوحداتُ الصاروخيّة في المقاومة على المرحلتين الأخيرتين.

شهدت عملية "سيف القدس"2خلال هذه المعركة، دخل عدد من الصواريخ الخدمة؛ على رأسها: "عياش 250"، و"عطّار" (A120) استخدم للمرة الأولى لقصف مدينة القدس أولى أيام العملية، وصاروخ "أبو شمالة" (SH85) استخدم للمرة الأولى في قصف تل أبيب في اليوم الثالث للعملية. تطوراً كبيراً في القدرات الصاروخيّة للمقاومة. ويمكن قياس هذا التطوّر من خلال ملاحظة ثلاثة مظاهر؛ الأول: الكثافة الناريّة، فعلى مدار الـ11 يوماً من العملية تمكّنت المقاومةُ الفلسطينيّة من إطلاق ما يقرب من 4400 صاروخٍ وقذيفة،3أعلنت "كتائب القسام" تنفيذ 179 عملية قصف وإطلاق صواريخ على أهداف للاحتلال، فيما تمّت كل عملية بإطلاق عشرات الصواريخ والقذائف. أما "سرايا القدس" فنفّذت ما يقارب 159 عملية قصف، فيما نفذت الأجنحة العسكريّة الأخرى كـ"ألوية الناصر صلاح الدين" عشرات عمليات القصف. وذلك بمعدّل 400 صاروخ في اليوم. في المقابل، لم تُطلق المقاومة خلال حرب "العصف المأكول" عام 2014 سوى ما يقارب 4594 صاروخاً وقذيفة على مدار 50 يوماً من العمليات، بمعدل 91 صاروخاً في اليوم، فيما أطلقتْ خلال "حرب الفرقان" (2008-2009) ما يقارب 980 صاروخاً وقذيفة على مدار 22 يوماً من القتال، بمعدل 44.5 صاروخ في اليوم، أمّا "حرب السجّيل" عام 2012، فشهدت إطلاق ما يقارب 1500 صاروخ وقذيفة على مدار 8 أيام من القتال بمعدل 187.5 صاروخ في اليوم.

مستوطن يقف بالقرب من بقايا صاروخ فلسطينيّ أُطلق باتجاه عسقلان، 12 مايو/ أيار 2021، JACK GUEZ/AFP

المظهر الثاني لتطوّر أداء المنظومة الصاروخيّة للمقاومة تمثّل في مدى صواريخها التي وصلت للمرة الأولى لما يقارب 250 كيلومتراً، بعد دخول صاروخ "عياش 250" الخدمة؛ ما مكّن المقاومة من قصف مطار "رامون" أقصى جنوب فلسطين بالقرب من مدينة العقبة، والوصول إلى مراكز دولة الاحتلال. في المقابل، كان 160 كيلومتراً أقصى مدى وصلت إليه صواريخ المقاومة خلال حرب 2014، بعد استخدام صاروخ "R160"، في حين وصلت خلال حرب عام 2012 إلى 75 كيلومتراً بعد استخدام صاروخ "M-75"، فيما لم تتجاوز خلال حرب 2008-2009 حاجز 40 كيلومتراً.

لم يقتصر أداءُ المقاومة على توسيع مدى الصواريخ طويلة المدى فحسب، بل تجاوزه إلى استخدامها بشكلٍ واسعٍ ومكثّف، ما يشير إلى المخزون الاستراتيجي الكبير للمقاومة من هذه الصواريخ. فخلال معركة "سيف القدس" تمكّنت "كتائب القسّام" من قصف تل أبيب في 10 جولات قصف بلغ عدد الصواريخ في إحداها قرابة 130 دفعة واحدة؛ وبذلك نجحت في تجاوز منظومة القبّة الحديديّة عبر إغراقها بالصواريخ.

وبفضل مدى الصواريخ الطويلة، نجحت المقاومة في التأثير على حركة الملاحة في دولة العدو، التي اضطرت إلى تعليق الرحلات الجوية في مطار "بن غوريون" ونقلها إلى مطار "رامون" الذي تعرّض بدوره للاستهداف لاحقاً.

المظهر الثالث لتطور صواريخ المقاومة ظهر في قدرتها التدميريّة المتزايدة، والتي لوحظت في مظاهر الدمار التي خلّفتها في الأهداف التي استهدفتها؛ فأغلب الصواريخ الجديدة التي أعلنت عنها "كتائب القسّام" تحدثت عن زيادة حمولتها المتفجرة، كما أعلنت "سرايا القدس" عن صاروخٍ جديدٍ حمل اسم "القاسم" استخدمته لقصف التجمعات والحشود في غلاف غزّة برأس حربي وصل إلى 400 كيلو من مادة TNT.

وتعزيزاً لقوّة الصواريخ وقذائف الهاون، طورت المقاومة الفلسطينية الطائرات المسيرة الانتحارية، التي تستخدمها في استهداف للعدو، كـطائرة "شهاب" التي استخدمتها "كتائب القسام" في استهداف مصنع للكيماويات في كيبوتس "نير عوز"، وتجمعاً لجنود العدو في موقع "كيسوفيم" العسكري. كما أعلن الاحتلال عن إحباط عملية إطلاق غواصة مسيرة عن بعد كانت معدة لاستهداف منصات الغاز في البحر المتوسط. ويؤشر استخدام المقاومة لهذه الأسلحة على توجه المقاومة نحو تطوير ذخائر موجهة وذكية.

المقاومة ومعادلات القصف

شهدت الجولة الحالية من القتال تطوراً ملحوظاً في قدرة المقاومة الفلسطينية على ضبط إدارتها للمعركة، من خلال فرض قواعد اشتباك جديدة. إذ جعلت المقاومة من قصف تل أبيب ومناطق المركز مرتبطاً بقصف الأبراج السكنية أو التوغل في دماء المدنيين الفلسطينيين. كما ركزت في عمليات قصفها على مدن محددة كي تصبح نموذجاً للمدن الأخرى في الدمار؛ كما جرى مع مدينة عسقلان التي تعرضت من قبل القسام لـ27 عملية قصف، كل عملية استخدمت فيها عشرات الصواريخ، فوفقاً لرئيس وزراء العدو تعرضت عسقلان لأكثر من 1000 صاروخ. كما ركزت المقاومة على مدينة بئر السبع التي تعرضت من قبل القسام وحده لـ21 عملية قصف، ومدينة أسدود التي قصفها القسام في 20 مناسبة.

إضافةً إلى ذلك، نوّعت المقاومة من عمليات قصفها؛ ففي الأيام الأخيرة للمعركة بدأت في استخدام سلاح الهاون في قصف حشود وتجمعات الاحتلال المحيطة بغلاف غزّة. فخلال أيام المعركة، استخدمت كتائب القسّام سلاح الهاون في 35 عملية قصف، جميعها في النصف الثاني من أيام المعركة، و23 منها في آخر ثلاثة أيام. وتكّمن أهمية سلاح الهاون في عدم قدرة القبة الحديديّة على اعتراضه، وتوفره وانتشاره لدى مختلف الفصائل الفلسطينيّة، مما يجعله سلاحاً ذا فعالية كبيرة في الميدان.

وعلى الرغم من القصف الواسع والمُركّز الذي تعرض له شمالُ غزّة طيلة أيام المعركة، إلّا أنّ المقاومة نجحت، انطلاقاً منه، في استهداف أهداف تابعة لجيش الاحتلال بصواريخ موّجهة مضادّة للدروع. ففي اليوم الأول 10 مايو/أيار، أعلنت "سرايا القدس" عن استهداف سيارة جيب لجيش الاحتلال ومقتل من فيها، أما "القسّام" فاستهدف في اليوم الثالث للعملية، 12 مايو/أيار، سيارة جيب للاحتلال، وعاد في اليوم الأخير للعملية، 20 مايو/أيار ليستهدف حافلةً مصفحة لنقل الجنود في قاعدة "زيكيم".

رسائل داخلية وخارجية

حرصت المقاومة طيلة أيام المعركة على إدارة حربها الإعلاميّة والنفسيّة وخطابها الموّجه نحو الجمهور الفلسطينيّ الداخليّ وجمهور العدوّ؛ فحرصت على زيادة فعالية كُلفة المعركة والقصف الموّجه نحو مدن العدوّ بدعاية موجهة تستهدف التأثير على معنويات جبهته الداخليّة، مثلما جرى خلال اليوم السّادس للمعركة مع تل أبيب التي قامت المقاومة بالتحكم في حظر التجوال فيها وتحديد ساعات القصف. بدورها، خصّصت سرايا القدس الساعة التاسعة مساءً لقصف أهداف العدوّ، وسمّتها "تاسعة البهاء"، في إشارة إلى التوقيت الذي كان يقوم فيه الشهيد بهاء أبو العطا بقصف أهداف الاحتلال للرد على الاعتداءات خلال مسيرات العودة عامي  2018 و2019.

أما الجبهة الداخليّة الفلسطينيّة فنالت الاهتمامَ الأكبر من قيادة المقاومة التي حرصت على الحفاظ على مصداقيتها، عبر الوفاء بتهديداتها التي أطلقها القائد العام لـ"كتائب القسّام" محمد الضيف لقيادة الاحتلال على خلفية عدوانها على أهل القدس. كما لعبت خطابات الناطق باسم "القسام" أبو عبيدة، دوراً في مواكبة وتوجيه نبض الشارع الفلسطيني.

صورة نشرها الإعلام العسكريّ لصاروخ من صواريخ المقاومة تحمل اسم الشهيد باسل الأعرج. (شبكة الإنترنت)

ووظّفت المقاومة قدراتها الصاروخيّة للتواصل مع الجمهور الفلسطينيّ وشحذ هممه، عبر التفاعل مع رموزه وما يمرُّ به من أحداث، ففي اليوم السادس للعملية 15 مايو/أيار قصفت "القسّام" مستوطنة موديعين رداً على سقوط شهداء في الضفة الغربية، وعادت لتؤكد على الرسالة ذاتها بإهداء رشقة صاروخية أطلقتها في اليوم السابع للعملية 16 مايو/أيار  لأرواح الشهداء محمد علي ومهند الحلبي وباسل الأعرج، وأكدت تكاملها مع المقاومة في مختلف مناطق الوطن بإهداء رشقة صاروخية نفّذتها في اليوم الثامن للعملية 17 مايو/أيار لروح الشهيد شاهر أبو خديجة منفذ عملية الدهس في مدينة القدس.

في مواجهة "عقيدة الضاحية"

أدركت المقاومةُ الفلسطينيّةُ أنّ قدرتها على صدّ عدوان الاحتلال مرتبطة بقدرتها على إشراك الجبهة الداخليّة للعدو في عملية المواجهة. وتعزّز هذا التوجه مع انسحاب الاحتلال من قطاع غزّة وتزايد قدرته على عزل وصول المقاتلين منها إلى الداخل المحتل، فكان ضرورياً على المقاومة أن تطور قدراتها الصاروخيّة لتكون ذراعها الطويلة القادرة على الوصول إلى عمق الأراضي المحتلة.

وفي مواجهة تطوّر قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، طوّر الاحتلال عقيدةً قتاليّةً عُرفَت باسم "عقيدة الضاحية" تقوم على إحداث أكبر قدر من التدمير الممنهج في البنى التحتيّة والمنشآت المدنيّة والسكنيّة، سعياً منها للضغط على إرادة فصائل المقاومة ودفعها للاستسلام والكفّ عن قتال الاحتلال. 

ومع تطور قدرات المقاومة الصاروخيّة على المستويات الثلاث "الكثافة والمدى والقوة التدميرية" أصبح للمقاومة أداتها الخاصة في مواجهة عقيدة الضاحية، عبر عكسها على الجبهة الداخليّة للاحتلال التي أصبحت مكشوفة أمام عشرات الآلاف من الصواريخ الموجهة نحو عمق الأراضي المحتلة والقادرة على مقابلة التدمير بالتدمير، واستهداف أهم المواقع الاستراتيجية والمنشآت الحيوية.

ومع انتهاء جولة القتال الحالية، من المتوقع أن تعود قوى المقاومة إلى استراتيجيتها القديمة في مراكمة القوة وتعزيزها لمواجهة تهديدات العدو.