19 يوليو 2022

"شهداء من أجل الأسرى" مرّوا من هنا

"شهداء من أجل الأسرى" مرّوا من هنا

مع اندلاع معركة "سيف القدس" عام 2021، كانت قد تشكّلت مجموعة مكوّنة من ثماني عشرة مُقاتلاً تابعة لـ"كتائب عزّ الدين القسّام"، الجناح العسكريّ لحركة "حماس"، اختصاصهم الوحيد: خطف جنود إسرائيليين لتحرير أسرى فلسطينيين في صفقات تبادل. "شهداء من أجل الأسرى"، كان اسمُ المجموعة التي استشهد أفرادها في خانيونس من أجل ما يزيد عن 4400 أسير وأسيرة يقبعون في سجون الاحتلال. لكنّ في الفعل وهدفه، بل والعنوان الذي يحمله، ذاكرةٌ قديمةٌ تعود إلى نابلس في العام 1997.

في ذلك العام، خطّ رجالٌ يحملون لواء تحرير الأسرى طريقهم إلى شارع يافا غربيّ القدس المُحتلّة، فقتلوا ما يزيد عن 20 إسرائيليّاً وأصابوا آخرين. حينها، صاروا فعلاً كما أسموا أنفسهم: "شهداء من أجل الأسرى". فما قصّة الاسم؟ 

في رواية "الطريق إلى شارع يافا" (2020) الصادرة عن دائرة الإعلام العسكري في "كتائب القسّام" بالتعاون مع وزارة الثقافة في قطاع غزّة، يستعرض الأسير عمّار الزبن1اعتُقل على عمله العسكريّ في عام 1998، وحكم بالسجن 27 مؤبداً، وهو أوّل أسير يرزق بطفل عبر "النطف المُهرّبة" عام 2012. تجربة هذه المجموعة التي نشطت في مدينة نابلس وكان أحد عناصرها، ويوثّق حيثيّات تشكيلها وأسماء عناصرها وأبرز عمليّاتها والتكتيكات التي عملت بها. خرجت الرواية من سجن "ريمون" الصحراوي، وكأنّها تحرّرت من بركة دماء شخصيّات أبطالها. 

صورة شاشة من إحدى حلقات برنامج "ما خفي أعظم" الذي عُرض على قناة الجزيرة في مايو 2022، بعنوان "قلب المعادلة"، وتُشير إلى خلية "شهداء من أجل الأسرى" وأعضائها.

خطوطٌ بالتوازي

تنظّمت المجموعة من قِبل الشهيد يوسف السركجي، والذي ولّى الشهيد خليل الشريف قيادتها الميدانيّة. وركّزت على تنفيذ عمليات ضدّ جنود ومستوطني الاحتلال كسبيلٍ للضغط باتجاه الإفراج عن الأسرى. ومع أنّ انطلاق المجموعة كان عام 1997، إلا أنّ نواة تشكّلها كانت قبل ذلك. 

تكوّنت المجموعة من ثلاث خلايا أو خطوطٍ للعمل: أولها؛ خطّ قاده محمود أبو هنود، وقد ضمّ أبناء قريته عصيرة الشماليّة، الشهداء: بشّار صوالحة، معاوية وطاهر جرارعة، يوسف الشولي، وتوفيق ياسين. ونفّذت الخليّة عمليّة إطلاق نار عام 1995 أدّت لمقتل مستوطن على طريق وادي الباذان شرق نابلس. 

مجموعة عصيرة الشمالية، من اليمين: يوسف الشولي، بشار صوالحة، معاوية جرارعة، توفيق ياسين.

ثانيها؛ خطّ بدأ خليل الشريف العمل به منذ عام 1996، بعد انضمامه لـ"كتائب القسّام" وتقديم استقالته من منصبه كمنسّق لحركة الشبيبة الطلابيّة في جامعة بيرزيت، ونفّذ برفقة أمجد الحنّاوي وأيمن حلاوة عمليتي إطلاق نار، ونفّذ مع مهنّد الطاهر وعمّار الزبن عملية إطلاق نار استهدفت حُرّاس مستوطنة ألون موريه، كماشارك في عمليّة تفجير عبوة ناسفة لدوريّة تابعة لجنود الاحتلال. 

اقرؤوا المزيد: الشهيد خليل الشريف: حكاية توديع اللغة.

ثالثها؛ خطّ كان خليّةً نائمة، ضمّ جاسر سمارو ونسيم أبو الروس اللذين برعا في تصنيع المُتفجّرات. وفي وصفٍ شاعريّ، يصف الزبن كلّاً من سمارو وأبو الروس، فيقول: "هما فلسطين، المزروعة في حاكورة أم حمدان تحت الليمونة على يمين الرمانة قبالة توتة أبو عرب في قرية الشجرة، يتنفسان الشوق، يستنشقانه عبر الحقيبتين، لا غير الموت يُقرّبهما إليها!! معادلة الموت، القانون الذي يحترمه العالم، ضاعت فلسطين بسلاح الموت -يقول نسيم- وستعود بالموت أيضاً، فيضيف جاسر: أعطني وطني وسمِّ الأمر ما شئت، معادلة الورد، قانون القبلات، سلام الملائكة، أعد لي حاكورة جدتي أم حمدان وسأنحني لعدلك احتراماً". 

هكذا إذن، تجمّعت الخطوط الثلاثة لاحقاً في مشروع تحرير الأسرى، ذاك الذي حمله الأسير معاذ بلال إلى السركجي بعد خروج الأوّل من السجن عام 1997. وقد انضمّ بلال إلى خطّ سمارو وأبو الروس. كانت المُعضلة الأساسيّة في حينه صعوبة الحصول على سلاح ناريّ متوسّط، وهو ما دفعهم إلى التفكير بالعمليّات الاستشهاديّة كأداة للضغط على الاحتلال من أجل تحرير الأسرى. وفي غرفة ضيوف منزل الشيخ السركجي، اتفق الحاضرون على تسمية المجموعة بـ: "وحدة شهداء من أجل الأسرى". 

من رواية "الطريق إلى شارع يافا"، والحديث عن اختيار اسم المجموعة.

حقائب كثيرة

يُمكن القول بأنّ المجموعة مرّت بثلاث مراحل: الأولى، وهي مرحلة التخطيط والتجهيز للعمليّات. كان فريق التصنيع يتكوّن -كما أسلفنا- من الأسير معاذ بلال والشهيدين نسيم أبو الروس وجاسر سمارو. أمّا الدعم اللوجستي والاتصال داخل المجموعة، فتولّاه الشهيد مهنّد الطاهر والأسير عمّار الزبن، وقد احتاج هذا الدور إلى قدرٍ عالٍ من التمويه والتخفّي للتغطية على العمل العسكريّ، إلى درجة انضمام الزبن إلى الأجهزة الأمنيّة التابعة للسلطة التي كانت تُطارد بعض عناصر مجموعته، وكان ينقل خليل الشريف معه بسيّارته حتّى بلغ فيه الأمر أحياناً إلى إلباسه زيّ الأجهزة الأمنيّة للتخفّي. فيما القيادة كانت بإشراف الشيخ يوسف السركجي والشهيد خليل الشريف وباطلاعٍ من محمود أبو هنّود. وفي هذه المرحلة وقع الاختيار على شارع يافا غربيّ القدس كهدفٍ للعمليّات، كما تدرّبت المجموعة خلال هذه الفترة على عمليّات خطفٍ لجنود الاحتلال. 

صورة يظهر فيها الشهيد محمود أبو هنود (يمين الصورة) والشهيد مهند الطاهر.
صورة يظهر فيها الشهيد محمود أبو هنود (يمين الصورة) والشهيد مهند الطاهر.

أمّا المرحلة الثانية، فقد جرى فيها تنفيذ عمليّة استشهاديّة مزدوجة في 30 تمّوز/ يوليو عام 1997. أجرى أبو هنود قرعة في جبال عصيرة الشماليّة، وكانت من نصيب معاوية جرارعة وتوفيق ياسين. نُقلا إلى لقاء خليل الشريف، وهناك تم تزوديهم وتعليمهم على استخدام حقيبتين مُفخّختين، صنّعهما سمارو وبلال. ثمّ بعدها نُقلا إلى رام الله، ومن هناك إلى القدس. وقد أشرف على مَهمّة النقل الطاهر والزبن، وبقي الأخير معهما إلى حين وصولهما سوق "محنيه يهودا" في شارع يافا في القدس. وهناك فجّرا نفسيهما، وأسفرت العمليّة عن مقتل 16 إسرائيليّاً. 

فيما المرحلة الثالثة نُفّذت فيها عمليّة استشهاديّة ثلاثيّة في 4 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، بناءً على رأي الشريف الذي رأى نجاح العمليّة المزدوجة السابقة. صُنّعت ثلاث حقائب مُفخّخة ليوسف الشولي وبشّار الصوالحة، أمّا الثالث فظلّ الشريف مُتحفّظاً عليه إلى حين اقتراب موعد التنفيذ. وقتها نشب "خلافٌ" بين الشريف وأبو هنود حول من منهما سيكون الاستشهادي الثالث، حتّى حُسم الاختيار لصالح الشريف. نُفّذت العمليّة في المكان ذاته، وأسفرت عن مقتل 5 إسرائيليين والكثير من الإصابات. 

اقرؤوا المزيد: عبّاس السيّد: الرجل الذي سيعيش أكثر من "إسرائيل".

وفي سبيل التمويه وإشارةً إلى الحسّ الأمنيّ العالي، يُذكر أنّ الشريف صَبَغَ (إبراهيم بني عودة قام بذلك في رواية أخرى) أصابع الاستشهاديين لتعطيل التعرّف على بصماتهم، وكذلك وضع نقوداً أردنيّة في جيوبهم، ممّا زاد من صعوبة تعرّف "الشاباك" على هويّة المُنفّذين. أيضاً، تنكّر جرارعة وياسين على هيئات رجالٍ أعمال، وتنكّر صوالحة على هيئة امرأة وفق ما أشارت له الرواية. 

الشهيد يوسف الشولي، والشهيد بشار صوالحة (يساراً) متنكّراً بزي امرأة.
الشهيد يوسف الشولي، والشهيد بشار صوالحة (يساراً) متنكّراً بزي امرأة.

الجدوى الخفيّة

استشهد قائد مجموعة "شهداء من أجل الأسرى"، إلا أنّ الكاتب لا يُعلن انتهاء الرواية: "أحمد الله تعالى أن أعانني على إتمام النص ولا أقول الحكاية!! فالقصة التي بدأها الشهيد خليل الشريف لم تنتهي برائعته في بن يهودا، وسيكون لزاماً وفرضاً علي أن أكمل الحكاية في نصّ آخر، لأنّ روائع أخوانه وتلامذته امتدت من بعده…". 

طالبت المجموعة قولاً وفعلاً بتحرير الأسرى، وقد كان الشيخ أحمد ياسين أبرز الأسماء التي طالبوا بالإفراج عنها. لم يتحرّر الشيخ نتيجة مباشرة لعمليّاتهم، ولكنّ دماءهم أغضبت قادة دولة الاحتلال، فأرسلوا عملاء الموساد إلى عمّان لاغتيال خالد مشعل، رئيس مكتب "حماس" بالخارج وقتها، لكنّ محاولتهم باءت بالفشل. تمكّنت السلطات الأردنيّة من اعتقال عنصري الموساد، وأبرم الملك حسين صفقة مع الحكومة الإسرائيلية مُقابل الإفراج عنهما: الحصول على الترياق المضاد للسمّ الذي حقنوا به مشعل، والإفراج عن الشيخ أحمد ياسين. وهذا ما حصل فعلاً، وهذه هي الجدوى الخفيّة لدماء الشهداء.