23 يونيو 2021

قصفُ الاحتلال لغزة: "أقصف الآن، ليموتَ لاحقاً"

قصفُ الاحتلال لغزة: "أقصف الآن، ليموتَ لاحقاً"

في فبراير/شباط عام 1991، جرّبت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قنبلتين ذكيّتين قد أسقطتهما طائرة إف -117 على ملجأ العامرية في العاصمة العراقيّة بغداد. الملجأ الذي كان يتّسع لنحو ألف وخمسمئة شخص، استشهد فيه ما يزيد عن الـ 400 شخص. برّرت الولايات المتحدة جريمتها بأنَّ المكان كان مقرّاً عسكرياً للجيش العراقيّ، لكنَّ صورَ ضحايا الملجأ كانت أقسى من أن يكنسها البنتاغون تحت السجادة، فتذرّع بأنَّ ما جرى كان مجرد خطأ في التقدير. 

كان سربُ الطيران الجويّ الأميركي عماد الحملة العسكريّة على العراق فيما عُرف بـ"حرب الخليج الثانية". وكان واضحاً أنَّ الصواريخ المتطوّرة لم تكن تستهدف بأغلبها منشآت عسكرية تتبع للجيش العراقي، فحجمُ الدمار الذي حلَّ بالبلاد يوضّح ممّا لا يترك مجالاً للشك أن بنك الأهداف الأميركيّ تضمّن بشكلٍ أساسيّ مبانيَ مدنيّةً ومنشآتٍ عامّة، مثل: محطات توليد الطاقة، ومصافي البترول، وطرقات عامّة، وجسور. ادّعت الإدارة الأميركية أنَّ تلك الأهداف كانت ذات "استخدام ثنائي"؛ أي ذات استخدامٍ مدنيّ وعسكريّ.1Graham, Stephen. 2005. "Switching cities off". City. 9 (2): 169-194) لكنّ الحقيقة هي أن الإدارة الأميركية تعمّدت استهداف المنشآت المدنيّة بشكلٍ مباشر، أمّا مقرات الجيش العراقي فلم تكن بالأهمية ذاتها، وهكذا دُمّر بالكامل نحو 88% من قدرات البلاد على إنتاج الطاقة، أما ما تبقى من المنشآت فلم يكن بالإمكان الاستفادة منها.2Keaney and Cohen, 1993, vol. II, part II, ch. 6, p. 20,cited in Blakeley, 2003a, p. 20

ملجأ العامرية بعد قصف القوات الأميريكة له. ويظهر الثقب نقطة دخول القنبلة للملجأ. 1991، تصوير: جيسون فلوريو / كوربيس.

"إطفاء الأضواء"

شكّلت الحرب الأميركية على العراق أساساً اعتمدت عليه فيما بعد الجيوش التي تدّعي "مكافحة التمرّد" باستخدام الطيران. "أقصف الآن، ليموتَ لاحقاً" (Bomb now, die later) هو منهج تلك الجيوش؛ كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وطبعاً دولة الاحتلال. معنى الشعار هو أنَّ القوّات الجوية تستهدف المدن التي تشكل بيئةً لما تُسميه "التمرّد"، بطريقةٍ تسمح باستمرارية قتل الناس حتى ما بعد توقف العملية العسكريّة. تقرّ نظريات "مكافحة التمرّد" بصعوبة القضاء على الحركات "المتمرّدة" والتخلّص من أفرادها، لذلك فإنَّ الحل الأنسب هو استهداف بيئتهم. بهذا تصبح البيئة التي تضمّهم، بكلّ ما تحتويه، هدفاً شرعيّاً مُستباحاً. 

يأتي التنفيذ بطرق عدّة واستراتيجيات كثيرة، والأساليب المتبعة بالحرب البريّة تختلف عن تلك المستخدمة في الحرب الجويّة. أمّا استهداف "حركات التمرّد" من الجوّ، وهو ما يهمّنا في هذه المقالة، فيُطلق عليه "حرب البنى التحتية" (Infrastructural warfare). كما يطلق عليه البعض سياسة "إطفاء الأضواء"؛ كنايةً عن التدمير الممنهج لمصادر الطاقة في المنطقة، تماماً كاستهداف الطيران الإسرائيلي لمحطّات توليد الطاقة في قطاع غزّة.

اقرؤوا المزيد: "غزّة.. مدينة المولدات التجاريّة".

وفقاً لنظريةٍ وضعها الاستراتيجي في قوّات الجو الأميركية جون ووردن John A. Warden III خلال سبعينيات القرن الماضي، فإنَّ المجتمعات الموسومة بالتمرّد هي عبارة عن منظومة ماديّة متكاملة تتألف من خمس حلقات: الأولى وهي المركزية؛ القيادة أو الدماغ، والثانية؛ الاحتياجات العضوية أي الحاجة للطعام والشراب والطاقة، والثالثة؛ البنى التحتية من طرقات ومحطات توليد الطاقة والمياه، والرابعة؛ المدنيين، والخامسة وهي الأقل أهمية؛ القوة العسكرية للمقاتلين. يُحاجج ووردن بأنّ الجيش حتى يتمكن من القضاء على "المتمردين" فإنّ عليه إجهاد المنظومة المجتمعية لبيئة "التمرّد" من الداخل، والتفكير بطريقة مناسبة لشلّ المجتمع بأسره استراتيجيّاً عبر القضاء على أهم مكوّناته وهي الحلقة الثالثة (البنى التحتية). 

بهذه الطريقة يمكنُ إضعاف روح الشعب المعنويّة، وإنتاج أكبر قدرٍ ممكن من الضغط على قيادة المقاومة، وبالتالي إفقادها القدرة على القتال وإرغامها لاحقاً على التوقف عنه تماماً. هكذا يُصبح المجتمع أمام خيارين اثنين: إمّا القتل البطيء، وإما الانصياع إلى رغبات القوّة الغازية وشروطها. هذا أولاً، أمّا ثانياً، فتضمن هذه الاستراتيجية إمكانيةَ القتل المستمر للناس، فالدمار الذي تخلّفه صواريخ الطائرات يرمي بالمقام الأول إلى خلق ظروفٍ صعبة في المدينة، تجعلُ من عملية القتل عمليةً ممنهجة ومستمرّة حتى ما بعد انتهاء العملية العسكرية بشكلٍ رسميّ، وأهم ما في الأمر أنَّ من يموت من هؤلاء يموت بعيداً عن عدسات الكاميرا وأعين العالم. 

اقرؤوا المزيد: "هندسة المتفجرات": يدٌ عارية تفكّك الموت في غزّة.

هذا بالضبط ما يحصلُ بعد كلّ عدوان على قطاع غزة، إذ لا تتوقف أعداد الشهداء عن الارتفاع بسبب الدمار الذي أصاب القطاع الصحي بعد تدمير جيش الاحتلال له ولغيره من البنى التحتية. هكذا تصبح جملة "أقصف الآن ليموت لاحقاً" أكثر وضوحاً.   

الدخول من الباب الخلفي

لا تنتهي "حرب البنى التحتية" عند حدودها العسكريّة بالنسبة للجيوش الاستعماريّة، إنّما يهمّها أيضاً ما تتركه من أثرٍ نفسيّ على الشعوب المُستعمَرة. فلا يكتفي الاستعمار بالقتل، بل يحاول ترسيخ ادّعاءٍ مفاده أنّ الشعوب المستعمَرة تستحق القتل، وحياتهم "غير المُتحضّرة" ليست ذات أهمية في مُقابل المُستعمِر "المُتفوّق" الذي يصوّر نفسه بمثابة المُنقذ لهذه الشعوب لإخراجها من حالة "التخلّف" ولو تطلّب ذلك استخدامه القوّة. لذلك مثلاً؛ نرى الطيران الإسرائيلي يتقصّد تدمير محطات توليد الطاقة في غزّة لارتباطها بالحياة الحديثة، وكذلك تدمير الأماكن التي يروّح بها الغزّاوي عن نفسه، فيشعره بأنه يعيش حياةً بدائية مقابل الحياة المتطورة والمتحضرة التي يعيشها المستوطن الإسرائيلي على بعد أمتارٍ قليلة منه. 

تحرصُ "إسرائيل" على إبقاء غزة غارقةً بمظهر الدمار والركام والغياب شبه الكامل للحياة الطبيعية، أي محاولة فرض التخلّف الحضاري عليها، وهو ما يساعد في تثبيت صورة التخلّف على القطاع أمام الرأي العام العالمي. يعزل الاحتلال بذلك غزّة عن "العالم الحديث"، فتصبح مكاناً نائياً غير مرغوب بزيارته. كما يهدف إلى جعل المقاومة ومناصرتها في أذهان الناس رديفاً للتخلّف والدمار، ممّا يضمن له فاعليّة بنك الأهداف المدنية له، فيستخدمه في أي وقت كورقة ضغطٍ على المقاومة.

فلسطينيون يغادرون حيّهم المقصوف في مدينة غزة مع بعض ممتلكاتهم، للاحتماء في مكان أكثر أماناً. 16 مايو 2021 تصوير: تصوير محمد عابد/AFP

إنّ استهداف الأبراج والمصانع ودور النشر والمكتبات وغيرها من المنشآت التي تؤكّد أنَّ غزّة هي مكانٌ يضجُّ بالحياة ليس أمراً عشوائياً، وليس سببه أنَّ تلك المنشآت هي "ثنائية الاستخدام"، وليس كذلك لأنّ المقاومة تستخدم المدنيين كأذرعٍ بشرية كما يدّعي الاحتلال. كل ما في الأمر، أنَّ هذه الأهداف المدنيّة توظفها السلطات الإسرائيلية لتطبيق استراتيجيتها في "مكافحة التمرّد" في القطاع. 

اقرؤوا المزيد: غزّة: حصار على الافتراضيّ أيضاً...

حوّل الاحتلال الحيّز الجغرافي للقطاع إلى ساحة حرب، يقصفه بين الحين والآخر، بل ويتحكّم بكميّة السعرات الحرارية التي يسمح للفرد الواحد في غزّة بتناولها في اليوم الواحد. وكأيّ استعمارٍ آخر في التاريخ، تعرفُ "إسرائيل" كيفية استغلال الأبواب الخلفية لشرعنة العنف والقتل والتدمير ضد الفلسطينيين، وأن تخرج من ذلك كله، كما فعلت دائماً بعد كل مجازرها، بحصانةٍ كاملة دون أيّ عقابٍ دوليّ يُذكر.