3 مايو 2020

غزّة: حصار على الافتراضيّ أيضاً…

غزّة: حصار على الافتراضيّ أيضاً…

ظهر علينا، في الإيجاز الصحفيّ الحكوميّ يوم السبت 18 أبريل/ نيسان، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إسحق بدر، ضمن عادةً أصبحت شبه يوميّة، تهدف- ربّما- إلى تعريف سكّان هذا البلد بوزرائها. تحدَّث بدر عن "إنجازات" الوزارة منذ بداية الأزمة، وكانت كلُّ "الإجراءات" التي ذكرها في مناطق الضفّة الغربيّة، إلا إجراء روتينيّ واحد كان يخصّ قطاع غزَّة، جعل الوزير يُصرّح: "خلونا نتذكّر إنه لا دولة بدون غزّة". 

تلك كانت إشارة الوزير الوحيدة إلى القطاع، ثمّ ترك البقعة الجغرافيّة الأسوأ ظروفاً في فلسطين وراء ظهره. ألم يكن على علمٍ بالقرار الإسرائيليّ في فبراير/شباط الماضي بمنع دخول مواد تتعلّق بالتكنولوجيا والاتّصال إلى غزَّة؟

منعٌ لا يمكن تجاهله

في منطقة الزوايدة في قطاع غزة، قبل ثلاثة أشهر من الآن، سُرقت محتويات مستودع يتبع شركة الاتصالات الفلسطينيّة "بالتل". كان المستودع يحوي كوابل نحاسيّة، وكوابل ألياف ضوئيّة، وغيرها من معدّات الصيانة للشبكة الأساسيّة للاتصالات بقيمة 15 مليون شيكل.

اتّهمت "إسرائيل" حركة "حماس" بسرقة المخازن لأغراضٍ عسكريّة، ولاقت الاتهاماتُ الإسرائيليّة دعماً من الأجهزة الأمنيّة للسلطة الفلسطينيّة في رام الله. بحسب مصادر صحافيّة فقد شاركت أجهزة سلطة رام الله في التحقيق وساعدت الإسرائيليين في كشف متورّطين بالسرقة بأسمائهم. من جهتها نفت حركة "حماس" علاقتها بالسرقة جملةً وتفصيلاً. على إثر ادعاءات "إسرائيل" وسلطة رام الله، قررت "إسرائيل"، في 10 فبراير/ شباط، منع دخول أيّ مواد تتعلّق بالتكنولوجيا والاتصال إلى قطاع غزّة كنوع من العقوبة، وذلك حتّى تردَّ "حماس"- حسب ادعاء الاحتلال- البضائعَ التي سرقتها.

أعلنت شركة "بالتل"، الأسبوعَ الماضي، عن انقطاعِ خدماتها عن بعضِ الأحياء في غزَّة، بسبب سرقاتٍ متتالية لشبكتها، وأشارت إلى أنّها لن تتمكن من إصلاح الأعطال في المناطق المتضرّرة، لفقدان الكوابل والأجهزة الأساسيَّة لتشغيل الشبكة، أو لإصلاحِ الأعطال فيها، وهو ما منع أيضاً تزويدَ مشتركين جُدد بخدماتها. تتراكم هذه الصعوبات في مكانٍ معزول أصلاً عن العالم، وفي وقتٍ تتجلى فيه الحاجة الماسَّة للإنترنت والأجهزةِ الإلكترونيَّة، فالتعليم أصبحَ "أونلاين"، ويعتمدُ العديدُ من الغزّيين على العمل الحرّ عن بُعد، عبر تقديمِ خدماتٍ كالتصميم والبرمجيَّات لشركاتٍ عربيَّة، بسبب قلّة الوظائف المتاحة في القطاع.

أعاق القرار الإسرائيلي، في اليوم التالي من إصداره فقط، دخول إحدى عشرة شاحنة مُحمّلة بمُعدّات وبضائع بقيمة 15 مليون شيكل للعديد من الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا وتزويد الإنترنت. من بينِ المعدّات أدواتٌ للصيانة والتركيب، وبضاعة استهلاكيَّة مثل كوابل الإنترنت، وكاميرات الإنترنت، وأجهزة راوتر، والطابعات، والحواسيب، والهواتف، وقِطعُ غيارها، وغيرها الكثير. 

بعد ضغوطات من مؤسسات حقوقيّة في ظلّ أزمة "كورونا"، سمح جيش الاحتلال الإسرائيلي بإدخال قائمة محدودة من معدّات الاتصالات في الأسبوع الأخير من شهر أبريل/ نيسان. إلا أنّ هذه المعدّات لا تلبّي الحاجة الماسّة في سوق الاتصالات والإلكترونيّات في غزّة، كما أن معظّم المعدّات التي سُمِح بإدخالها موجّهة للاستخدام الشخصيّ، مثل شواحن الهواتف الخليويّة والطابعات، وليست لتلبية حاجات البنية التحتيّة. كما يُرجح أن تكون هذه الخطوة استثنائيّة وأن قرار الحظر الشامل سيبقى سارياً لفترةٍ ما.

الإنترنت ليس ترفاً

لم يكن قرارُ المنع هذا مُفاجئاً بالنسبةِ لسكّان غزَّة المعتادين على العقوبات الإسرائيليَّة المتواصلة منذ 14 عاماً، غير أنّه تزامن مع حاجة القطاع الماسّة لهذه المعدّات، إذْ تعتمدُ مستشفياتُ القطاع على الإنترنت في معالجة معلومات المرضى وتخزينها، وسيطالُ القرارُ منشآتِ الحجر الصحيّ التي أُقيمت في مناطق نائية، فلن تصلها شبكة الإنترنت، كما صرَّح محمد أبو نحلة، المدير التجاري لشركة الاتصالات الفلسطينيّة "بالتل"، في تقرير أعدّه مركز "مسلك" الإسرائيليّ، الذي يُعنى بحريّة الحركة.

في التقرير ذاته، يُشير أبو نحلة إلى مصيرٍ يَطال سكّان القطاع المحاصر، ويحرمهم من أساسيّاتٍ مثل الاتصال والإنترنت، وهي مسألة لم تعدْ ترفاً. يتحدّث أبو نحلة عن عطلٍ  أصاب محوّل إنترنت يُزوّد عدّة بيوتٍ منذ أسابيع، ولم تتمكّن "بالتل" من إصلاحه بسبب نقصٍ في قطع الغيار. في سياقٍ مثل غزّة، فإنّ الأعطال التي تصيب الشبكة والأجهزة ليست نادرة، بل مُتكرّرة بسبب تكرار انقطاع الكهرباء، ما يُقلّل من العمر الافتراضي لمحوّلات الاتّصالات وأجهزتها. إن كان تصليحها سابقاً أمراً صعباً، فإنّ هذه الإمكانيّة تكاد تنعدم اليوم. 

اقرأ/ي أيضاً: غزّة جاهزة لمواجهة "كورونا"؟

إضافةً إلى الخسائر التي عادةً ما يتكبّدها أصحابُ الشركات والمزوّدون نتيجةَ الحصار، سيتكبّدون نتيجة هذا المنع خسائرَ أكبر. خلقَ القرارُ سوقاً احتكاريّة، وأدّى بالتالي إلى الارتفاع في أسعار البضائع والخدمات الموجودة، كما سيتسبب في تسريح عمّال في قطاعِ الاتصالات والتكنولوجيا، ولن تجد محطّات توليد الطاقة من يستجيبُ لمناقصاتها. 

وفقاً لمعلومات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، لعام 2017.

متاهة المعبر

يضربُ الاحتلالُ البُنى التحتيَّة للقطاع بمجملها، ومن ضمنها الاتصالات، وذلك لأسباب أمنيّة وسياسيّة واقتصاديّة، فبسبب السيطرة الإسرائيليّة على الاتصالات، تشتري شركة "بالتل" خدمات الاتصال بالإنترنت من "إسرائيل"، ومن ثمّ تبيعها وتوزّعها على الشركات في القطاع. كان استهدافُ البنية التحتيَّة للاتصالات واضحاً في كلّ حرب شنّها الاحتلالُ على غزَّة، إمّا بإغلاقِ المعابر ومنع إدخالِ المعدّات والرقابةِ عليها، أو بالعدوان العسكريّ المباشر عليها. 

قيمةُ المخزن الذي سُرقت محتوياته ليست في تكلفته فحسب، بل في صعوبة إدخال المعدّات إلى القطاع بعد قرار المنع، وقبله. يتطلّبُ إدخال تلك المعدّات استصدار تصاريح، وسلسلةً طويلةً من الإجراءات المعقّدة. يجبُ على التجّار الغزّيّين إتمام الصفقةِ مع البائع الإسرائيليّ، ودفع ثمن البضاعة كاملاً، قبلَ أنْ يُسمح لهم بتقديمِ طلبٍ لوزارةِ الاقتصاد الفلسطينيَّة في غزَّة.

وترسل الوزارة بدورها الطلب إلى السُّلطة في رام الله، ثمّ تمّرر لجنة "تنسيق دخول البضائع" الفلسطينيّة طلباً إلى "مديرية التنسيق والارتباط الإسرائيليّة" لقطاع غزّة في معبر إيرز، حيث تُصنَّف الطلبات وتُرسَل إلى ضابط القيادة الإسرائيليّ، كُلّ حسب اختصاصه. إذا تمّت الموافقة على الطلب، يجري تنسيقٌ آخر ليحدّد لدخول البضاعة عبر معبر كرم أبو سالم التجاريّ.

قد تصل مدّة الانتظار لإدخال البضائع المسموحة إلى ثلاثة أشهر، لكن غالباً ما تقابَل البضائع الأساسيّة للبنيّة التحتيّة لشبكة الاتصالات بالرفض. بشكل عامّ، يمنعُ الاحتلال دخول كوابل الاتّصالات، والألياف الضوئية، وأجهزة موجات الميكرو، وأجهزة الاستقبال، وأجهزة الفاكس، وأجهزة نسخ مدمجة في الطابعات، وعبوات الحبر، وأجهزة التسجيل، وتقنيّات الجيل الثالث من الإنترنت، والقائمة تطول.

"الاستخدام المزدوج"

ليس من السهل دخول المعدّات والبضائع إلى القطاع بسبب الذريعة التي تستخدمها "إسرائيل" كثيراً؛ المعدّات "مزدوجة الاستخدام"، ويُقصد بها تلك التي تصلح للاستخدام العسكريّ كما المدنيّ. ولتحديد هذه المعدّات، فإنّ "إسرائيل" تستمدّ معاييرها من اتفاقيّة "فاسِنار"، وتزيد عليها في "مرسوم مراقبة التصدير الأمني" 56 مادةً "مزدوجةَ الاستخدام"، يُمنع دخولها إلى الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، و62 مادة إضافيّة تخصّ قطاع غزّة وحده.1فاسينار هي نظامٌ طوعيٌّ دوليّ للرقابة على الصادرات أطلق عام 1996، وتشاركُ فيه حالياً 42 دولة، بهدف "الحفاظ على الأمن الإقليميّ والدوليّ". وبموجبه، تتبادل المعلومات حول عمليات نقل الأسلحة التقليدية والسلع والتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج. تطول هذه القائمة لتضمّ أكثر من 15 ألف سلعة، بما يشملُ معدّات طبيّة، ومعدّات بناء، ومعدّات الاتصالات، وكلّ ما يُساعد في تطوير البنية التحتيّة للقطاع. 

إحدى الأجهزة المهمّة التي يطالها وصف "مزدوجة الاستخدام"، وتمنع "إسرائيل" دخولها إلى القطاع، هو جهاز الـUPS، والذي يُستخدم لحماية الأجهزة الالكترونيّة عند انقطاع الكهرباء، الأمر المتكرّر في القطاع. تكمن أهمية الجهاز في حاجةِ غرف العناية المكثّفة إليه، وضرورته لأجهزةِ غسيل الكلى، وضخّ المياه والصرف الصحيّ.

تستخدم "إسرائيل" تعبير مواد "مزدوجة الاستخدام" بشكل فضفاضٍ، دون محدّدٍ واضح. فيفرد المرسوم أعلاه بنوداً كثيرة مُخصّصة لقطاع الاتصالات، دون تفصيل، فيحظر ما يلي: معدّات اتصالات، ومعدّات إسناد اتصالات أو معدات تحتوي على وظائف اتصالاتية، وأخرى من شأنها التسبب بتشويشات في شبكات الاتصالات أثناء عملها، والكوابل الفولاذية بغضّ النظر عن سُمكها، والأدوات المستخدمة في التآكل، وشد البراغي، والقطع، واللَّفّ، وهذا قد ينطبق حرفيّاً على أيَّ أداة.

يحرم الحصار الإسرائيليّ أهالي غزّة من حاجاتهم الأساسيّة الأوليّة، من الأمن الغذائيّ إلى المياه النظيفة والتنقّل، لكنّه يحرمهم أيضاً من الحاجات الأساسيّة لمواكبة العالم الذي يُعزلون عنه جغرافيّاً. حتّى وإن أدخلت "إسرائيل" معدّات إلكترونيّة للاستخدام الشخصيّ، فإنها تواصل منع تطوّر البنية التحتيّة التي تسمح بتطوير شبكة الإنترنت ورفع نسبة البيوت الموصولة بها، وبالتالي حرمان عشرات آلاف الغزيّين من إمكانيّات العمل والتعليم والترفيه والتواصل الافتراضيّة.