7 أغسطس 2023

من وراء جُدُر: كيف يقاتل الاحتلال في أزقة المخيّمات؟

من وراء جُدُر: كيف يقاتل الاحتلال في أزقة المخيّمات؟

مجدّداً، اجتاح الاحتلال الإسرائيليّ مخيّم جنين، لكن هذه المرة بعد سنواتٍ عدّة في تطوير تقنياتٍ عسكريّة وساعاتٍ طويلة من التدريبات المكثّفة صُمِّمت خصيصاً لهذا النوع من المواجهات. في الذاكرة الجمعيّة للكيان الإسرائيلي تحمل المخيّماتُ الفلسطينيّة واجتياحاتها ذكرياتٍ صعبة، فعملية "السور الواقي" عام 2002 شهدت خسائر بشريّة كبيرة في صفوف جنود الاحتلال. 

ونتيجةً لتلك التجربة القاسية، في عام 2005 بعد نهاية الانتفاضة الثانية، رصدت المؤسسة العسكريّة لحكومة الاحتلال ما يعادل 45 مليون دولار أميركي لبناء نموذج عن تجمعٍ سكنيّ فلسطينيّ ولبنانيّ، لغاية تدريب الجيش على أساليب الحرب الناجعة في نطاق المدن. 

تقع المدينة المصطنعة في قاعدة تسيليم العسكرية في النقب، وفيها نحو 600 بناء من منشآتٍ سكنيّة ومساجد ومدارس ومحال تجاريّة، وكل ما يمكن أن يُشعر الجندي بأنّه في مدينةٍ عربيّة، حتى أنَّ جدرانها تعجّ بالشعارات الحزبيّة لفصائل فلسطينيّة وأخرى لبنانيّة. 

يُطلق الجنود الإسرائيليون على المكان اسم "غزّة الصغيرة"، أما رسميّاً فهو معروف باسم "مركز التدريب على الحرب الحضريّة"، ولا يخدم جنود الاحتلال فقط، بل يجذب أيضاً جيوشاً أخرى من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبيّة عدّة يحتاج عناصرُها للتدريبات على هذا النوع من الحروب للتطبيق في مدنِ مشابهة أخرى. 

وهذا ليس بغريبٍ على المؤسسة العسكريّة الإسرائيليّة التي تُعتبر أحد أبرز المصدِّرين للمعرفة العسكريّة التي تفيد الجيوشَ الحديثة خاصّةً في مجالات مكافحة التمرد، والاغتيالات عن بُعد، وطبعاً الحرب الحضريّة.

جنود من جيش الاحتلال خلال تدربّهم على تكتيكات الحرب الحضريّة في المدينة المصطنعة في قاعدة تسليم العسكرية في النقب (2022) (وكالة الصحافة الفرنسية).

 

تقليب الناس على ثوارهم

يطلق بعض الباحثين على الحرب الحضريّة Urban warfare اسم Urbicide،1cide هي لاحقة مستعارة من اللاتينية القديمة وتعني "قاتِل" أو "فعل القتل". وهي بالأصل أحد تفرعات عقيدة "مكافحة التمرد"، تستخدمها الجيوش النظاميّة في حربها ضدّ أي حركة أو مجموعة مسلّحة تُصنّفها تحت خانة التمرد. تجري هذه الحروب - تماماً كما يدلُّ اسمها- في المساحات المدنيّة المأهولة، خلالها يصبح الحيّز الجغرافيّ حيث يُقيم "المتمردون" ساحةَ حربٍ مستباحة بسكانها ومنشآتها وبناها التحتيّة، وتصبح المدينة بحدِّ ذاتها الهدفَ الأوّل لعناصر الجيش لأنّها ملاذ "المتمردين" وحصنهم. 

اقرؤوا المزيد: "مخيّم جنين.. الدولة النوويّة في مواجهة نصف كم مربع".

تنطلق عقيدة مكافحة التمرد من فكرة أنَّ التخلّص من هذه الحركات يقوم على استهداف بُناها التحتيّة وقاعدتها الشعبيّة، وليس على استهداف عناصرها بذاتهم. 

وعندما أعلن الاحتلال عن اجتياحه الأخير لمخيّم جنين، صرّح جيشه على لسان متحدثيه بأنَّ الهدف هو تقويض البنية التحتية "لحالة الإرهاب" في مخيّم جنين. ولهذا حينما تكون الأحياء السكنيّة كالمخيمات مثلاً هي ميدان القتال، يستهدف الجنود أيّ هدفٍ من شأنه أن يهيئ الظروف المناسبة للمقاومين (المتمردين) ويسمح باستمراريتهم. 

رجل فلسطينيّ يتفقد سيارة في مخيّم جنين، دمّرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحامها للمكان مطلع تموز/ يوليو 2023، في عملية عسكريّة تعمّدت خلالها تدمير البنية التحتيّة فجرفت الشوارع وهدمت المنازل ودمرت شبكات المياه وغيرها. (وكالة الصحافة الفرنسية).
 رجل فلسطينيّ يتفقد سيارة في مخيّم جنين، دمّرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحامها للمكان مطلع تموز/ يوليو 2023، في عملية عسكريّة تعمّدت خلالها تدمير البنية التحتيّة فجرفت الشوارع وهدمت المنازل ودمرت شبكات المياه وغيرها. (وكالة الصحافة الفرنسية).

"لا يقاتلونكم إلا من وراء جدر"

لا تُعدّ تجربة الاحتلال مع المخيّمات تجربةً حديثة، ومخيّم جنين ليس أولها. فقد راكم الاحتلال خبراتٍ كبيرة في مجال الحرب الحضريّة نظراً لأنّها كانت الشكل الأول لمواجهاته مع حركات المقاومة سواءً في فلسطين أو في لبنان.  ومع أنّ الاحتلال يقدّم نفسه بين الجيوش النظاميّة على أنّه أكثرهم خبرة في هذا المجال، إلا أنّها أكثر أنواع الحروب بغضاً له، وهو يتلافاها بقدر ما يستطيع وبكل الأساليب الممكنة، لأسبابٍ عدة أبرزها خوفه على حياة جنوده، وأنّها حرب لا يمكن تحقيق أي مكسب حقيقيّ منها بالنسبة للجيش النظاميّ. 

في الحقيقة، يشكّل هذا النوع من الحروب هاجساً لكل الجيوش النظاميّة مهما بلغ تطورها التكنولوجيّ والعسكريّ والأمنيّ والسبب أنّ خلالها غالباً ما تكون اليد العليا للمقاومين. فهم أولاً أبناء المكان، وثانياً تشكّل المباني حصناً ممتازاً لهم إذ تسمح بكشف المنطقة بشكل واسع. أما الجنود فتحُول طبيعة تضاريس الحيز الحضريّ بينهم وبين أي تقدمٍ حقيقيّ لأنها تصعّب عملية جمع المعلومات الاستخباراتية وإمكانية المراقبة والقدرات الاستطلاعية وتضعف فعالية سلاح الجوّ وتحدّ من القدرة على الاشتباك عن بعد، وهو ما يجعل معركة الجنود المباشرة هي مع المباني بشكلٍ أساسي. 

وهذا ما يفسّر استخدام جيش الاحتلال للجرافات العسكريّة المحصّنة التي يعتبرها نجمة الحرب الحضريّة، وهي بالأصل جرافة D9 ذات الاستخدام المدنيّ لشركة (كاتربلر)، استخدمتها القوات الأميركية بشكلها الأصلي خلال حرب فيتنام، لكن جيش الاحتلال لم يستخدمها إلا بعد أن طوّرها بالتعاون مع مصنع الصناعات العسكريّة للجيش وشركة صناعات الفضاء الإسرائيلية لجعلها صالحة للاستخدام خلال الاشتباكات المسلّحة في الأحياء السكنية، فزوّدها بأسلحة رشاشة ودروع تحميها من الرصاص والمتفجرات، وبالأخصّ العبوات الناسفة، وتحمل اسم D9R. 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

في عام 2003 زوّد جيشُ الاحتلال الجيشَ الأميركي بـ14 جرافة مطوّرة بغرض استخدامها في العراق تثبيتاً للتعاون العسكريّ الإسرائيليّ مع الجيوش الأخرى. في عام 2018 أعلنت شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية عن البدء في العمل على تطوير الجرافة لتصبح قابلةً للتحكم عن بعد  وتحمل اسم D9R Panda، وبهذا لن يضطر الجندي إلى التعامل مع الميدان أصلاً، بل كل ما عليه هو أن يجلس خلف الشاشة ويتعامل مع تدمير المنازل على أنها لعبة فيديو يحرك خلالها الجرافة عن بعد. 

واستخدام الجرافات في سياق الحرب الإسرائيلية على المباني الفلسطينيّة مدجج بالمعاني الاستعماريّة. الاحتلال بجرافته غايته شنّ حربٍ عمرانيّة على المكان مستهدفاً هويّته ليعيد تشكيلها بما يتناسب والمتطلبات الأمنيّة لديه. خلال ذلك، يضع أهدافاً بعيدة المدى منها ما يرمي إلى إعادة إعمار المخيّم وفق معايير يضعها تحول دون نشوء أي حالة نضاليّة مستقبليّة في المخيم وتعيد هندسته بالشكل الذي يسمح بحرية حركة الآليات العسكرية. 

آلية عسكرية إسرائيلية تجرّف الشوارع في مخيم جنين خلال عدوان جيش الاحتلال عليه مطلع تموز/ يوليو 2023. (عدسة: عصام الريماوي/ وكالة الأناضول).

وهذا ما يُطلق عليه "التدمير المخطط"، وكان أرئيل شارون بين أكثر محبي هذا النوع من التكتيك حتى أنه عرف باسم "البلدوزر" بين أقرانه. ففي خضم محاولاته للقضاء على المقاومة في مخيمات قطاع غزّة، عمد خلال السبعينيات إلى تدمير منازل الآلاف من الفلسطينيين بهدف تسهيل عمليات المراقبة وتوسيع الطرقات للسماح للآليات العسكريّة بالتنقل بحريّة في مخيّمات جباليا ورفح والشاطئ.  

أما في لبنان، فقد سمحت الظروف الدوليّة للاحتلال بتدمير عدّة مخيّمات بسلاح الجوّ، في محاولة لحلّ "مشكلة اللاجئين" وخطرها على الكيان. وكان شارون قد اقترح وقتها أن تُقصف مخيمات لبنان لمدة أسبوع، ومن ثمّ تُرسل الميليشيات المحليّة إلى المكان لإنهاء ما يجب إنهاؤه لوضع حدٍّ للإرهاب وتنظيف المنطقة في سيناريو مشابهٍ لما حدث في صبرا وشاتيلا حيث كانت جرافات إسرائيلية تنتظر انتهاء عمل المليشيات لجرف المخيّم والانتهاء من وجوده. 

الحرب على المخيم والذاكرة

في عام 2002 وقبيل ثلاثة أسابيع من اجتياح مخيّم جنين، اقتحمته فرقة من لواء غولاني. حمل ذلك الاقتحام رسالةً باتجاهين: الأولى تهديد للمقاومة الفلسطينيّة بأنّ جنودهم ليسوا خائفين من النزول على الأرض، وأخرى موجّهة للجنود الإسرائيليين أنفسهم هدفها كسر حاجز الخوف بينهم وبين هذا المكان المجهول، تعزيزاً لفكرة أنَّ لديهم القدرة على اقتحام المخيّم. 

عند بدء الاقتحام كان من المقدر للعملية أن تستمر 72 ساعةً فقط إلا أنها امتدت لتستمر 8 أيام، كان خلالها تقدم الجنود الإسرائيليين بطيئاً نسبياً، إذ قُدّر بنحو 20 متراً في كل يوم. وقرر الجسم العسكريّ إنهاءَها إثر مقتل 13 جندياً في كمينٍ للمقاومة وعدم تحقيق أي إنجازات تذكر. على مدى ثلاثة أيام متتالية ودون توقف، دمّرت الجرافة العسكرية المنازل حتى وصلت وسط المخيم. 

إن حرب الاحتلال الإسرائيليّ على مخيّم جنين وعلى كل المخيمات الفلسطينيّة لا يمكن النظر إليها خارج سياق استكمال عملية الاقتلاع المستمرة للفلسطينيّ واستئصاله من أرضه أو من كل ما يمكن أن يذكّره بأرضه. ويخبر تاريخ النضال الفلسطينيّ ضدّ الاحتلال الإسرائيلي أنّ أي تجمعٍ فلسطينيّ يعني بالضرورة أنه سينتِج شكلاً من أشكال الحالات النضاليّة ضدّ الاحتلال، وفيه محاولة للعودة وتذكير بتاريخ يحاول الاحتلال منذ 1948 أن يمحوه. بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية العسكريّة، فإنّ الحرب الحضريّة ليست محض حرب على ما يُسمّى "الإرهاب"، بل هي امتداد لعمليات الاقتلاع وحرب الاحتلال على السردية الفلسطينيّة وكلّ ما يُذكّر الفلسطينيّ بالعودة أو يدفعه للتمسك بها.