26 مارس 2024

اختراع الإدارة: ما الذي تحاول "إسرائيل" فعله في غزّة؟

اختراع الإدارة: ما الذي تحاول "إسرائيل" فعله في غزّة؟

منذ أكثر من خمسة أشهر، والاحتلال الإسرائيلي يدمّر كل مظاهر الحياة في قطاع غزّة. لكن هذا التدمير، لم يعن حتى الآن تحقيقاً لأهدافه المعلنة، والمتمثّلة في تفكيك القدرات العسكريّة لحركة "حماس"، وتقويض حكمها في غزّة، واستعادة أسراه. 

وفي ظل رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاستجابة للمقترحات الأميركية، الداعية لتعزيز دور السلطة الفلسطينية وتسليمها حكم القطاع، تعتبر "إسرائيل" أنّ توزيع المساعدات الإنسانية يمثّل المظهر الأبرز لقدرة "حماس" على الحكم. لهذا تحديداً، ومنذ نهاية شباط/ فبراير 2024، كثّفت "إسرائيل" مجازرها بحقّ تجمعات السكّان المنتظرين توزيع المساعدات شمال القطاع، فضلاً عن تركيزها على قصف واغتيال كوادر الشرطة لنشر الفوضى في القطاع المحاصر.

خلال ذلك، برز مقترحان في أوساط قادة الاحتلال، وبالأخص من طرف وزير الحرب يوآف غالانت؛ أحدهما يسعى لحثّ عشائر غزيّة على الإشراف على توزيع المساعدات وتشكيل إدارة أهليّة في مناطق سكناها، بهدف استبدال حكم "حماس" دون تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية. وبالفعل، تواصل منسق عمليات حكومة الاحتلال في أراضي عام 1967، غسان عليان، عبر وسطاء من الأمم المتحدة، مع وجهاء 12 عشيرة وعائلة لبحث المقترح، وهو ما رفضه الوجهاء الذين اشترطوا التنسيق أولاً مع الأجهزة الأمنيّة في غزّة، وهو ما رحّبت به "حماس" في بيانٍ رسميّ. عقب ذلك، تصاعدت وتيرة استهداف مخاتير العائلات الرافضة للمقترح الإسرائيلي، كما في اغتيال اسماعيل النونو مختار عائلة النونو.

أما المقترح الآخر، فيتعلق بإعداد قوّةٍ مسلّحة يتراوح قوامها من 5 إلى 7 آلاف فرد من عناصر حركة "فتح" في غزّة، للسيطرة على القطاع، وتأمين توزيع المساعدات، تحت إشراف ماجد فرج رئيس المخابرات العامة، على أن يتدرّبوا في الأردن تحت إشراف المنسق الأمني الأميركي الجنرال مايك بنزل. وقد اجتمع فرج مع رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي لمناقشة المقترح وسبل تنفيذه، لكن نتنياهو لم يدعم الفكرة حتى الآن لخشيته من أن تُعزّز دور السلطة الفلسطينية.

تدفع مثل هذه المقترحات للتساؤل: هل يحاول الاحتلال استنساخ تجارب سابقة، كتجربة "روابط القرى" في الضفّة الغربيّة في الفترة ما بين 1978- 1987، أو حتّى كتجربة "أبناء العراق" المشهورة باسم "الصحوات"؟ هل يسعى لإيجاد إدارةٍ أهليّةٍ بديلة تكون وسيطاً بينه وبين الفلسطينيين كما في التجربة الأولى؟ أم هل يسعى لتدريب قوّةٍ أمنيّة كما في التجربة الثانية تؤدي عنه مهمّاته؟ هل تنجح في ذلك؟ ولكن قبلها، ما هي "روابط القرى"؟ وما هي "أبناء العراق"؟

أ-روابط القرى

بعد حرب عام 1967، فرض الاحتلال الحكم العسكريّ  على الضفّة الغربية، ثمّ أجرى عام 1972 انتخاباتٍ بلدية بعد أحداث "أيلول الأسود" بسنتين، والتي أضعفت "منظمة التحرير الفلسطينية"، وأبعدتها من الأردن إلى لبنان. لكن جاءت الصناديق بأعضاء مقربين من المنظمة، وهو ما تكرر في انتخابات عام 1976. وقد كان رؤساء البلديات في مناكفةٍ مستمرة مع الاحتلال، مثل: بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس، وكريم خلف رئيس بلدية رام الله. 

انطلاقاً ممّا سبق، بدأت "إسرائيل" رحلة البحث عن بديلٍ فلسطينيّ محليٍ لمنظمة التحرير قاطرة المقاومة آنذاك، ولرؤساء البلديات المحسوبين عليها، بحيث يتماشى هذا البديل مع مخططات تعزيز الاستيطان في الضفّة الغربيّة، وتهويد القدس، وضرب خيار المقاومة. تزامن ذلك مع انخراط مصر في محادثاتٍ للسلام مع "إسرائيل"، وخروجها من جبهة الصراع الذي بدأ بالتحول من كونه صراعاً عربيّاً إسرائيليّاً حول فلسطين، إلى صراعٍ فلسطينيّ إسرائيليّ فقط.

مصطفى دودين، أسس أول رابطة قرى في الخليل عام 1978.

وجد الاحتلال بغيته في مصطفى دودين، الشرطي السابق في حقبة الاستعمار البريطاني، والذي عمل لاحقاً وزيراً للشؤون الاجتماعيّة الأردنيّة، وسفيراً لعمان في الكويت. عاد دودين إلى قريته دورا في الخليل، وفيها أسس أول رابطة قرى في الخليل عام 1978، بحجة العمل على تطوير القرى المهمّشة عبر رعاية مشاريع زراعيّة وصحيّة وتقديم خدمات اجتماعيّة. وأضفى الحاكم العسكري على "رابطة قرى الخليل" الشرعية من خلال ترخيصها كجمعية، وخصّص لها نحو 2 مليون دولار للصرف على مشاريعها، كما منحها صلاحياتٍ كانت مخصصة للبلديات الفلسطينية، مثل: تراخيص البناء، واعتماد طلبات لم شمل العائلات، وتصاريح السفر للأردن قبل عرضها على الجهات الإسرائيلية المعنية.

مع تشكّل التجربة في الخليل، بدأ تعميم روابط القرى في أنحاء الضفّة الغربيّة اعتماداً على سماسرة أراضي وسجناء أمنيين سابقين ورجال أعمال، وتُوِّجت بتشكيل "اتحاد روابط القرى" عام 1982، ومقره في رام الله. تزامن ذلك مع تأسيس "الإدارة المدنية الإسرائيلية" في العام السابق، لتعمل تحت إشراف جيش الاحتلال في متابعة تنفيذ الخدمات العامة المقدّمة للسكان الفلسطينيين. وتولى مسؤوليتها مناحم ميسلون، الضابط السابق، والحاصل على دكتوراه في الأدب العربي من جامعة هارفارد تحت إشراف المستشرق هاملتون جيب، والذي خدم كمستشار للشؤون العربية لدى الحاكم العسكريّ للضفّة الغربيّة.

رفض رؤساء البلديات المنتخبون التعامل مع الإدارة المدنية معتبرينها أداةً لضمّ الضفّة الغربيّة لـ"إسرائيل"، فرَدَّت تل أبيب بإقالة تسعة من رؤساء البلديات، وتعيين ضباط إسرائيليين أو شخصيات فلسطينيّة متعاونة مكانهم لتسيير شؤون البلديات، بينما أصبحت روابط القرى هي الوسيط بين السكان و"الإدارة المدنية للاحتلال". كما وفّر جيش الاحتلال لأعضاء الروابط تدريباً أولياً على الأسلحة، ومنحهم أسلحةً خفيفةً لحراسة رؤساء الروابط ومقراتها.

بحلول حرب لبنان عام 1982، تصاعدت انتقادات روابط القرى لمنظمة التحرير، فصرّح بشارة قمصية، رئيس رابطة قرى بيت لحم، بأن "الروابط وقيادات الداخل أحق بقيادة الشعب الفلسطيني، وأن من هرب وترك الأرض لا يحق له ذلك". كما اتهمت "صحيفة المرآة" الصادرة عن "اتحاد روابط القرى" ياسر عرفات، بأن قراره كان مرتهناً لجهاتٍ خارجيّة، وأنّه ورّط الفلسطينيين في حربٍ خاسرةٍ للحفاظ على مكاسبه الشخصية، وبأنه هرب من بيروت تاركاً البسطاء للموت، كما شدّدت على فشل الخيار العسكري المقاوم، ونجاعة الوسائل السلمية في إنهاء الاحتلال لأراضي 1967، وبناء مسار للتعايش مع "إسرائيل".

"صحيفة المرآة" الصادرة عن "اتحاد روابط القرى".

تلاشت تجربة روابط القرى بالتدريج، إذ تعرّض العديد من قادتها وأعضائها لعمليات اغتيال، من أبرزها تصفية يوسف الخطيب رئيس رابطة قرى رام الله، ونجله، عام 1981. كما كانت الروابط عرضةً للتقلبات السياسيّة الإسرائيلية، فمع استقالة ارئيل شارون من منصب وزير الدفاع، ومناحم بيجين من رئاسة الوزراء، فقد مشروع روابط القرى أهم السياسيين الإسرائيليين الداعمين له، واعتبر خلفاؤهما أنّها مشروعٌ فاشل غير مؤثر. 

استقال مصطفى دودين من منصبه عام 1983، وسافر إلى الخارج، وحُلّ اتحاد روابط القرى عام 1984، فيما بقيت الروابط المحليّة القرويّة لبرهة من الوقت، إلا أنّ سلطات الاحتلال بدأت في تحريك قضايا تتهم فيها قادة الروابط بالاختلاس والاعتداء على المواطنين، فانتشرت استقالات رؤسائها، ومن لم تناله يدُ المقاومة، هرب إلى الأراضي المحتلة عام 48 وحصل على بطاقة هوية إسرائيلية أو سافر إلى أوروبا وأميركا الشمالية. وما إن حلّت الانتفاضة الأولى، حتى كانت روابط القرى قد أتمت تلاشيها كأن لم تكن1تتبع عمر بشير في رسالته للماجستير: "إسرائيل وروابط القرى: من نشأتها إلى حلها"، المقدّمة لجامعة القدس عام 2014، تفاصيل التجربة لمن أحب التعمق حولها.

ب- أبناء العراق

بعد الغزو الأميركي للعراق، وتصاعد حالة المقاومة في المناطق السنيّة، وبروز الصراع الطائفي، استثمرت واشنطن نهاية عام 2006 في تشكيل مليشيات قبلية في محافظة الأنبار عُرفت باسم "أبناء العراق" (الصحوات)، بذريعة توفير سلاح ورواتب للعشائر لحماية مناطقها في مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي تشكّل من اندماج تنظيم القاعدة في العراق وجماعاتٍ مُسلّحة أخرى.

انخرط أفراد القبائل في مشروع "أبناء العراق" طمعاً في المال، وبحجة أنهم بين نارين: إما واشنطن والعمل معها، وإما طهران والمليشيات التابعة لها، وزعموا أنه لا يمكنهم العمل ضدّ الطرفين في الوقت ذاته، ولذا اختاروا الجانب الأميركي. 

استفاد مشروع الصحوات من نظرة قادة العشائر لعناصر القاعدة كأجانب وافدين على العراق، يسلبونهم نفوذهم وينافسونهم في السيطرة على الأراضي وعمليات التهريب، وبالأخص عبر طريق بغداد-عمان. كما اعتبر هؤلاء القادة عناصرَ القاعدة أنهم ذوو  أفكارٍ دينية متشددة -وفق منظورهم- فمثلاً يُحرّمون تدخين السجائر ومشاهدة القنوات الفضائية، واتهموهم بقتل أقاربهم من أفراد الشرطة المحليّة، مما فتح الباب لقدوم عناصر الشرطة والجيش الجديد من بغداد، والذين هم من عناصر المليشيات الموالية لإيران بعد حلّ الجيش العراقي في عهد صدام.

وساهم في نجاح الصحوات، اقتتال تنظيم "الدولة الإسلامية" مع فصائل أخرى من المقاومة العراقية، مثل: "الجيش الإسلامي" و"كتائب ثورة العشرين" و"أنصار السنة"، لإجبارها على بيعة دولته الوليدة، وللخلاف بينهم حول هوية المعركة؛ هل هي وطنية لتحرير العراق أم عالمية ضدّ النفوذ الأميركي أم طائفية ضدّ الأحزاب الشيعية؟

مسلحون من عشائر الأنبار (الفرنسية)
مسلحون من عشائر الأنبار (الفرنسية)

نجح الجيش الأميركي في استخدام تكتيك "فرق تسد"، وساهمت سلوكيات تنظيم الدولة الإسلامية في تشكيل بيئةٍ عدائيةٍ له في الوسط السني، فشكّل عبد الستار أبو ريشة في كانون الثاني/ يناير 2007 رفقة شيوخ عشائر آخرين، أول مجموعات مسلحة من "أبناء العراق" تتعاون علناً مع الاحتلال الأميركي، وهو ما دفع حياته ثمناً له لاحقاً. لكن التجربة عُمِّمت في المناطق السنية الأخرى، مثل تكريت وديالى وجنوب بغداد. وساهمت الصحوات في شلّ حركة فصائل المقاومة العراقية بأسرها، إذ عرف أفرادُها هويّات المقاومين وأماكن إقامتهم ومخازن أسلحتهم، مما حوّل المقاومين إلى مطاردين.

خصّصت واشنطن للصحوات عام 2007 وحده؛ 150 مليون دولار، مع منح 20% من راتب كل فرد، والبالغ 300 دولار شهريّاً، لزعيم عشيرته، مما جعل زعماء العشائر يجتهدون في حشد أكبر قدر ممكن من أتباعهم، حتى وصل عدد "أبناء العراق" إلى 72 ألف فرد في المناطق السنية، بحسب شهادة قائد القوات الأميركية الجنرال ديفيد بترايوس في العراق أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ في نيسان/ أبريل 2008.

لكن في المقابل، خشيت الأحزاب الشيعية الحاكمة من تنامي ظاهرة الصحوات، ومن تحولها مستقبلاً إلى كيانٍ سنيّ منافس للحكومة. وهي مخاوف استجاب لها الجيش الأميركي، الذي سلّح الصحوات بأسلحة خفيفة للقيام بمهام أمنية وشرطية، ولم يزوّدها بأسلحة ثقيلة. وبالتالي، ظلّت الصحوات بحاجة لراعٍ خارجيّ يُموّلها ويدفع رواتب أفرادها، ولم تتحوّل إلى كيانٍ مكتفٍ بذاته. 

بمجرد تراجع أنشطة جماعات المقاومة العراقيّة، تراجع الدعم الأميركي، وسلّمت واشنطن ملفَ دفع رواتب عناصر الصحوات لحكومة بغداد مع نهاية عام 2008. بينما أخذت حكومة نوري المالكي تلاحق قادة الصحوة على قضايا قتل واختطاف وانتماء لجماعات إرهابيّة، فهرب العديد منهم إلى الأردن وسوريا، وتعرض آخرون لأعمال انتقامية من تنظيم الدولة الإسلامية. إضافة لذلك، دمجت الحكومة العراقية أقل من 20% من عناصر الصحوات في الجيش والشرطة، أو عينتهم في وظائف حكومية هزيلة، مثل: تنظيف المكاتب الحكومية والشوارع. 

في المحصلة، استُخدمت الصحوات في دحر المقاومة بكافة تياراتها، وترسيخ النفوذ الإيراني عبر المليشيات العراقية الموالية لطهران، وإضعاف المكون السني.

فشل الاستنساخ

إنّ محاولات استنساخ "إسرائيل" تجارب الصحوات العراقية، في غزّة، تواجه تحدياتٍ جوهريّة. فـ"حماس"، ومعها بقية فصائل المقاومة، متجذّرة في المجتمع الفلسطيني بالعموم، وفي المجتمع الغزّي بالخصوص، فهم ليسوا وافدين من الخارج، إنما يحملون العادات والتقاليد المجتمعيّة نفسها، فلا يسعون لفرض عادات أو ثقافة وافدة من مناطق أخرى. إضافة لذلك، فإن بوصلتهم واضحة تجاه المحتل، ولا يسعون لاحتكار العمل المقاوم، بخلاف تنظيم الدولة الإسلامية، كما لا توجد في فلسطين مساحة للمفاضلة بين عدوين والانحياز لأحدهما ضدّ الآخر، فالاحتلال عدو للشعب الفلسطيني. 

كذلك، فإن الثقافة السائدة في فلسطين، هي تخوين من يتعاون مع المحتل، ونبذه، وصولاً إلى تصفيته. فضلاً عن أن السياسة الإسرائيلية متقلّبة، إذ تخلّى الاحتلال عن أتباعه سابقاً، كما في نموذج روابط القرى في الضفّة الغربيّة، وجيش لبنان الجنوبي بقيادة أنطوان لحد. وأخيراً، فإنّ تصاعد نفوذ التيار اليميني في "إسرائيل"، والذي يدفع باتجاه سيناريو التهجير من كافة أنحاء فلسطين بما في ذلك قطاع غزّة والضفّة الغربية، مع احتقاره للسلطة الفلسطينية في رام الله، لا يُبقي إلا خياراً واحداً أمام الفلسطينيين، ألا وهو المقاومة.



13 ديسمبر 2023
اليوم 68: كمين غزة الكبير 

في ميدان المعركة الصعب والمعقد في قطاع غزة، تتصدى المقاومة لتوغل قوات الاحتلال في محاور عدة، بقصف آلياتها ودباباتها والتي…