25 مارس 2022

طريقٌ محفوفةٌ بالقمامة.. كيف يُحَجّم دور البلديّات؟

طريقٌ محفوفةٌ بالقمامة.. كيف يُحَجّم دور البلديّات؟

لعلّ الانتخابات المحليّة، التي تجري  في مرحلتها الثانية يوم غدٍ السبت (26 مارس)، من أقلّ المعارك الانتخابيّة إثارةً على مستوى البلاد. غير أنّ غياب أي مستوى أعلى من المعارك الانتخابيّة (المجلس الوطنيّ، التشريعيّ، الرئاسة) في النظام السياسيّ الفلسطينيّ، وارتباط مؤسسة البلدية بشكلٍ مباشرٍ بالناس لإدارتها ملفات حياتهم اليوميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ولإشرافها على البنية التحتيّة للمدينة وهويّتها المعماريّة والثقافيّة، جعل لها أهمّيةً وأثراً عميقاً. 

بالقدر الذي تحظى به هذه المؤسسة من أهميّة لدى السُكّان، فإنّها تحظى أيضاً بأهميّةٍ لدى الحزب الحاكم لأنّها تمسّ مصالحه. لذلك، ما انفكّت السُّلطة الفلسطينيّة منذ نشأتها تعمل بشكلٍ مُمنهجٍ للقضاء على أيّ دورٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ للبلديات، ولاحقاً تعطيل العديد من صلاحياتها الخدماتيّة بإحالتها لمؤسساتٍ أخرى كوزارة الحكم المحليّ والمحافظة، ومن ثمّ فرض هيمنتها عليها من أجل تقويضها بما يضمن عدم خروجها عن جيب الولاء والطاعة.

مسحةٌ من ديموقراطيّة

من المُفترض أن تجري الانتخاباتُ المحليّة بشكلٍ دوري كلّ 4 أعوام، بيد أنّ أول انتخابات محليّة كانت عام 2004، وكان وقتها قد مضى على تأسيس السلطة الفلسطينيّة 10 سنوات. قبل ذلك، كانت المجالس المحليّة تُعيّن دون انتخابٍ من قبل السلطة. أمّا اليوم، فيستدعي الرئيس محمود عبّاس الانتخاباتِ من أجل إرضاء المجتمع الدوليّ والمانحين بمسحةٍ ديموقراطيّةٍ تُمكّنه من استعادة تدفق الأموال.

يخاف الحزب الحاكم من خسارته في الانتخابات، لذلك وضع تقسيماً لانتخابات الهيئات المحليّة لتجري على مرحلتين: في الأولى تجري انتخابات المجالس القرويّة والبلديّات الصغيرة (عقدت في ديسمبر/ كانون الأول 2021)، وفي الثانية تجري المجالس البلديّة والمدن الكبرى. هكذا، يستمزج الحزب الحاكم من الانتخابات الأولى ما قد يقع في الانتخابات الثانية، فيتمكّن من تنظيم نفسه وإعادة ترتيب صفوفه، والتجهز جيّداً كي لا تحصل مفاجآت لصالح من يُعارضون مسار السلطة. 

اقرؤوا المزيد: كيف تُصمِّم السلطة "العرس الديمقراطي" على مقاسها؟

وقد حضّرت حركة "فتح" نفسها جيّداً للانتخابات، وتحضيرها لا يكون فقط عبر دعايةٍ انتخابيّةٍ كباقي القوائم، بل يكون أيضاً عبر تدخّل السلطة بشكلٍ مباشر لا سيّما في المجالس البلديّة الكبرى. مثالُ ذلك، الضغط الذي تعرّض له تيسير أبو سنينة لسحب قائمة "الوفاء للخليل" التي يترأسها، في محاولة لإخلاء الجوّ لقائمة "فتح" الرسميّة - "البناء والتطوير". ليس ذلك غريباً، ففي انتخاباتٍ محليّة سابقة كما يُظهر تحقيق ائتلاف أمان، جرى تهديد أشخاصٍ لثنيهم عن الترشّح، وجرى اعتقال واستدعاء البعض على خلفية الانتخابات، كما شوهد تواجد الأجهزة الأمنيّة في مراكز الاقتراع. 

امرأة فلسطينيّة تنتظر دورها للتصويت في الانتخابات المحلية في مرحلتها الأولى في ديسمبر 2021، بيت دجن، نابلس. (عدسة: جعفر اشتية/ AFP)

البلديّة الأم

تتوزّع الهيئاتُ المحليّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة إلى مجلسٍ بلديّ، ومجلس قرويّ، ومجلسٍ محليّ، ولجانٍ شعبيّة لإدارة المخيّمات، ويتجاوز عددها الـ 400 هيئة، في حين بلغ عددها قبل قيام السلطة الفلسطينيّة 30 هيئة. وتُشرف على عملها وزارةُ الحكم المحليّ، لكنّ تبقى لها استقلالية في اتخاذ القرارات وإدارة شؤون المدينة/ القرية وفقاً للمهام المكلّفة بها.

تختلف الهيئاتُ المحليّة في عدد أعضائها وتصنيفها، إلّا أنّها تشترك في الصلاحيات والمهام الموكلة لها. ومن  هذه الصلاحيات: تخطيط البلدة والشوارع وفتحها وصيانتها، ومراقبة البناء وتوفير رخص بناء، وتزويد السكان بالمياه، وتزويد الكهرباء وتحديد الأسعار، وإنشاء بُنية تحتيّة للصرف الصحّي والمراحيض العامة، وإنشاء وتنظيم الأسواق العامّة، وتنظيم الحرف والصناعات ومراقبتها، وجمع النفايات والفضلات، والمحافظة على الصحّة العامة من خلال إنشاء مراكز إسعافٍ ومراكز صحيّة، وإنشاء المتنزهات والمساحات الخضراء وصيانتها، وإنشاء ومتابعة المؤسسات الثقافيّة والتعليميّة من متاحف ومدارس وغيرها، وتنظيم خطوط ومواقف مركبات النقل، وإنشاء وتنظيم المقابر.

يُقابل هذه المهام الكبيرة والكثيرة شكوكٌ، ولربما حقائق، تدلّ على عدم قدرة المجالس المحليّة على القيام بهذا الدور؛ أوّلاً بسبب الاستيطان ومصادرة الأراضي والقيود التي يفرضها الاحتلال على العمل والحركة والتخطيط وتنفيذ المشاريع خاصةً تلك المتعلّقة بالبنية التحتيّة، وثانياً بسبب سياسات السلطة الفلسطينيّة التي تنحو نحو تقزيم المجالس المحليّة وانتزاع أدوارها السياسيّة والوطنيّة حتى لا تتجاوز البلديّة الأمّ؛ السلطة ذاتها.

ضمان فوق ضمان

منذ نشوء المجالس المحليّة الفلسطينيّة وتنظيمها قانونيّاً وهيكليّاً ابتداءً من فترة الحكم العثمانيّ مروراً بالاستعمار البريطانيّ، ومن ثمّ الحكمين الأردنيّ والمصريّ لأجزاءٍ من فلسطين، وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيليّ، وهي محطّ تركيز السلطات باعتبارها إحدى الأجسام التي تساعد في ضبط السكّان وإخضاعِهم وتنظيم جباية الضرائب منهم. 

ورثت سلطةُ الحكم الذاتيّ الفلسطينيّة هذا الإرث، ولم تتوانَ منذ نشوئها عن القيام بالدور ذاته، كأيّ سلطةٍ أخرى تسعى إلى ضبط المشهد السكانيّ، فجَرّدت الهيئاتِ المحليّةَ من أيّ صلاحياتٍ سياسيّةٍ وتنمويّة، كتنظيم أنشطةٍ مُناهضةٍ للتوسع الاستيطاني، واقتصر دورها على توفير خدماتٍ عينيّة تُسَهّل مهمةَ الحُكم على السلطة المركزيّة مثلَ جمع القمامة. جعل ذلك المجالسَ المحليّة في مكانٍ دونيّ تخضع لسلطاتٍ أعلى منها تُملي عليها توجهاتِها، بدلاً من تحوّلها إلى أجسامٍ تُمثّل المجتمع وتُعبّر عن مصالحه.

رجل فلسطينيّ يرفع أصبعه المصبوغ بالحبر بعد تصويته في الانتخابات المحليّة في بلدة طمون، شرق نابلس، مايو/أيار 2017. (جعفر اشتية/AFP).

من أجل ضمانِ استمرار ذلك، استخدمت السُّلطة أدواتٍ عدّة لتطويع المجالس المحليّة لصالحها، كاستخدامها المحسوبية والتوظيف في المجالس البلديّة، وجعل القسم الأكبر من موارد الهيئات المحليّة الماليّة في جيبها ما يعني القدرة على ضخّ الأموال والمستحقات وتقنينها حسب أهوائها السياسيّة. مثالٌ على ذلك ضريبة الأملاك التي تُعدُّ مصدر الإيرادات الرئيس للهيئات المحليّة، لكن وزارة المالية تجبي 90% من قيمتها نيابةً عن المجالس. 

كما جرى تحييدُ البلديات عن إدارة ملفاتٍ مهمّة، رغم أنّها - قانونيّاً - من اختصاصها، لا سيّما ملف المياه والكهرباء1مثلاً، توفير الكهرباء من صلاحيات المجالس المحلية، لكنها لا تقوم بهذا الدور إذ يعتمد الفلسطينيون بنسبة 98% في توليد الكهرباء على الاحتلال و2% على الأردن، في حين يوجد شركة وطنية لنقل الكهرباء، و6 شركات لتوزيع الكهرباء تستحوذ على 75% من سوق التوزيع. وبالتالي لا تلعب البلديات دوراً يذكر في هذا الملف وغيره من الملفات الحساسة المذكورة أعلاه.، إذ يُدار هذان الملفان من قبل أجسامٍ رسميّة غير البلديات. مثلاً في حالة الكهرباء فإنّ سلطة الطاقة ومجلس تنظيم قطاع الكهرباء يقومان بذلك نيابة عن البلدية، فيما تقوم شركاتٌ خاصّةٌ في العديد من مدن الضفّة الغربيّة بتوزيع الكهرباء وبيعها للسكّان بأسعارٍ مرتفعة، علماً أنّ هذا النوع من الخدمات أساسيّ ويجب توفيره للسكّان بتكلفةٍ أقلّ وجودة أعلى وتوزيعٍ عادل. كذلك، لا وجودَ لأدوارٍ ملموسةٍ للبلديّات على صعيد الصحّة والتعليم والثقافة وحماية الأراضي، ويقتصر دورها على تقديم الخدمات، مثل النفايات والصرف الصحيّ والبُنية التحتيّة وجباية بعض الضرائب.

اقرؤوا المزيد: الناس حائرون.. "المحافظ" من يكون؟

في المُقابل، تتحكّم وزارة الحكم المحلي بصلاحياتٍ واسعة فيما يتعلّق بإدارة الشأن الماليّ والمنح والقروض والتمويل، بما يجعل الهيئاتِ المحليّة غير قادرة على أداء دورها الذي يتطلب بالضرورة استقلاليةً ماليّةً حتى تتمكن من التعبير عن توجهات السكّان بدون قيود. وتستخدم السّلطةُ وزارةَ الحكم المحليّ ومؤسسةَ المُحافظة لتطويع المجالس المحليّة، فقد أعطت كلتيهما صلاحيّات تتضارب مع أدوار البلديّة، بل وتنازعانها عليها. فمثلاً؛ لدى المحافظة صلاحية توفير الخدمات الاجتماعيّة والثقافيّة والعمرانيّة والتخطيطيّة، وتشرف على مثل ذلك وزارةُ الحكم المحليّ، وهذه هي الخدمات ذاتها التي تقع ضمن صلاحيات البلديّات. يعني هذا وضعاً يُضيّق فيه على البلديات هامشها في القدرة على الفعل وتغيير معالم الفضاء العام والتأثير فيه على نحو ملموس وغير مُقيد.

كذلك، فإنّ انتخابات البلديات تمسُّ البُنى العائليّة والعشائريّة والمناطقيّة بشكلٍ عميق، بل وتتسم الانتخابات بأبعاد عشائريّة أكثر من أبعادها السياسيّة، ولذلك انعكاس على تركيبة المجالس المحليّة وآليات وأدوات عملها وتوجهاتها. تساهم هذه البنى في تكلّس المجالس المحليّة وترك مجالٍ لابتزازها والتحكم بها من قبل السلطة، ممّا يفرّغها من معناها ويُلغي قدرتها على العمل بشكلٍ مستقلٍ وعلى التخلص من المحسوبية والفساد وتثبيت نمط عملٍ فعّال. هكذا، تُورَّطُ البلديات فتصبح مكاناً لولادة المُشكلات، بدلاً من أن تكون مكاناً لحلّها، ومن هذه المُشكلات: تقصير واضح بإلزام المباني توفير مواقف للمركبات ما يُفاقم من الأزمات المروريّة، وقصور في إدارة ملف الطرق وصيانتها وغياب التخطيط الإستراتيجيّ، وإشكاليات في إدارة الحدائق العامة.

اقرؤوا المزيد: القضاء الفلسطينيّ.. كيف يؤمن عبّاس نفسه؟

إضافةً إلى كلّ ما سبق، فإنّ من مظاهر عمل السلطة للتحكم بالهيئات المحليّة، محكمة قضايا انتخاب الهيئات المحليّة التي جرى تشكيلها نهاية عام 2021، وتختصّ بجرائم ومخالفات الانتخابات والنظر في الطعون والاستئنافات. شُكّلت هذه المحكمة بمرسومٍ رئاسيٍّ وضمن مساعي الرئيس عبّاس للسيطرة على القضاء وتجييره لصالحه، ممّا يجعلها مطيةً تُستخدم في تحصين الحزب الحاكم من نتائج الانتخابات إن لم تعُد عليه بالفوز.

لا يكفي الهامش، يجب أن نُكبّله 

يُراد للبلديّة بشكلٍ خاصّ، والمجالس المحليّة بشكلٍ عام، لعب دورٍ تجميليّ للتغطية على النظام السياسيّ الفلسطينيّ المتكلّس غير القابل للتغيير بالانتخابات، وذلك من خلال إجراء انتخابات المجالس المحليّة بشكلٍ دوريّ (تقريباً) باعتبارها الشكل والمستوى الوحيد المقبول من الحركة. يتحكّم في هذا الهامش الاحتلالُ، من خلال سيطرته على موارد الضفّة الغربيّة ومنعه الناس من الاستفادة من حوالي 60% تقريباً من جُغرافيّتها (المُسّماة "ج")، ومن خلال تنفيذ الاعتقالات والتهديدات، ومن بينها الاعتقالات والتهديدات على خلفية المشاركة في الانتخابات. ثمّ تُكمل السلطة هذا الدور، بتعطيل إضافيّ للبلديّة عبر ترويضها واحتوائها بالصورة التي لا تشكّل تهديداً على مسار النخبة الحاكمة.

اقرؤوا المزيد: انتخابات 2021.. المزيد من الأكسجين لمسار التسوية.

اختُزلت البلديّات اليوم بجمع النفايات، وإدارة المتنزهات العامة، وتنظيم الأسواق، وجباية بعض الضرائب، وإصدار مخالفات بناء. في حين أنّ الأدوار الحقيقيّة المرجوّة منها، كتدخّلها مثلاً بالحالة الثقافية والتعليميّة في المدن والبلدات والنهوض بواقع البلد وسكّانه، قد عُطّلت وصارت حكراً على المؤسسات التي تخضع للرئيس بشكلٍ مُباشر. يُراد للبلديات أن تظهر بأنّها قادرةٌ على الفعل، في حين أنّها مُعطّلة القدرات على التغيير الجذريّ والحقيقي، إلا في حيّز ما هو مسموح ضمن المساحة المرسومة لها سياسيّاً. هكذا، تُسيطر السلطة غير المنتخبة على مجالس بلدية منتخبة مُمثّلة للسكان.



14 نوفمبر 2018
ليبرمان والتلاعب بِزرّ الـDelete

بنى وزير الحرب الإسرائيليّ المستقيل أفيغدور ليبرمان شخصيّته السياسيّة منذ تأسيس حزبه "يسرائيل بيتينو"/ "إسرائيل بيتنا" عام 1999، على أساس…