28 سبتمبر 2022

 مروان زلّوم.. سيرة رجلٍ "حرثَ" البلاد طولاً وعرضاً

 مروان زلّوم.. سيرة رجلٍ "حرثَ" البلاد طولاً وعرضاً

شكَّل اعتقال الاحتلال للفتى مروان كايد مطلق زلوم أواسط سبعينيات القرن العشرين، نقطةَ تحوّلٍ مركزية في حياته. وكانت الشهور الستة التي قضاها في سجون الاحتلال، كفيلة بحسمه أن يكون مُقاتلاً في صفوف الثورة الفلسطينية. وهو سيبقى مُشهراً سلاحه في وجه المُحتلين منذ إطلاق سراحه والتحاقه بصفوف الفدائيين في لبنان وحتّى ارتقائه شهيداً في الانتفاضة الثانية.1اعتمدت المقالة على مراجع أساسيّة، وهي: أبو العلاء منصور، محمد يوسف. "رحلة لم تكتمل بعد محطات على طريق المقاومة"، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018. الطاهر، معين." تبغ وزيتون حكايات وصور من زمن مقاوم"، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017. دنديس، علاء محمد. الكفاح المسلح الفلسطيني: انتفاضة الأقصى 2000 "فتح في جبل الخليل نموذجاً"، رسالة ماجستير/ جامعة بيرزيت، 2017. 

"حرث" البلاد طولاً وعرضاً

كان مروان زلّوم (أبو سجى) في الثامنة من عمره حين احتلّت "إسرائيل" مدينته الخليل، وقُدِّر له أن يعيش بداية الاستيطان في قلب المدينة التاريخية، وأن يعاين جانباً من وحشية الاحتلال وصلفه. بدأ يسمع عن قصص الروّاد من أهل الخليل وجبله ممن هبُّوا للدفاع عن فلسطين والتحقوا بالثورة بعد نكبتها عام 1948، وهو ما يزال تلميذاً في الصفوف الابتدائية، وأخذ يُخزِّن في ذاكرته رواياتٍ عن الفدائيين القادمين عبر نهر الأردن شوقاً لفلسطين وسعياً لتحريرها.

انتمى أبو سجى لحركة "فتح" عام 1975، وقرَّر الالتحاق بقواعد الفدائيين في لبنان، فغادر فلسطين إلى الأردن ثم إلى الكويت ومنها إلى لبنان. كانت القواعد تحتضن أبناء الأرض المحتلة، يتلقون فيها التدريب العسكري الأولي، ثمَّ ينخرطون في التشكيلات العسكرية والإدارية المختلفة، ثم يصبح بعضهم جزءاً من جهاز القطاع الغربي؛ أحد أجهزة "فتح" التي أُوكلت لها المسؤولية عن الأرض المحتلة، وتولّى مسؤوليته قادة مثلَ كمال عدوان وخليل الوزير أبو جهاد. وهذا بالفعل ما فعله زلّوم حين وصل في النصف الثاني من سبعينيّات القرن العشرين إلى لبنان، وقد شاءت الأقدار أن يلتقي القياديين محمد التميمي الملقب بـ "حمدي"2محمد باسم سلطان التميمي (1953-1988): ولد في مدينة الخليل، وانتمى لحركة فتح، واسمه الحركي "حمدي"، وكان عضواً في المجلس العسكري لقيادة حركة فتح، وعضواً في قيادة جهاز الأرض المحتلة، اغتاله الاحتلال في قبرص في 14/ 1/1988. ومحمد حسن بحيص الملقب بـ "أبو حسن قاسم"،3محمد حسن بحيص: ولد في بلدة يطا في محافظة الخليل، انتمى لحركة فتح، واسمه الحركي "أبو الحسن قاسم"، وكان عضواً في المجلس العسكري لحركة فتح، وعضواً في قيادة جهاز الأرض المحتلة. اغتاله الاحتلال في قبرص في 14/2/1988. وأن ينتسب للكتيبة الطلابية،4أسست باسم "السرية الطلابية" في لبنان عام 1973، ثمّ تحول اسمها إلى "الكتيبة الطلابية" ثمَّ إلى "كتيبة الجرمق". خاضت الكثير من المعارك ضد قوات الاحتلال، من أهمها معركة قلعة شقيف في لبنان عام 1982، ومن أبرز قادتها معين الطاهر وعلي أبو طوق وحمدي وأبو الحسن قاسم. وأن يقاتل في صفوفها في بيروت، ويقود مقاتليها في محور أرنون في جنوب لبنان، ثمَّ يصبح قائداً  لمدفعيّتها قرب مدينة النبطية، ثمَّ نائباً لقائد قلعة الشقيف عام 1981.

التزم زلّوم بخط النقاء الثوري، ولم تلوِّثه المواقع أو تحرّفه الاجتهادات، وظلَّ وفياً لقناعاته. كان العدو الصهيوني بالنسبة له هو العدوّ المركزي للشعب الفلسطيني والذي يجب أن تُستثمر كلّ الطاقات لمحاربته، وكل تناقضٍ غيره، برأي زلوم، هو ثانوي يجب تأجيله. وهذا بالضبط ما حدا به للإصرار على التمركز في جنوب لبنان، والمرابطة على خط المواجهة الأول مع الاحتلال. 

اقرؤوا المزيد: منير شفيق.. سيرةُ التنقّل من جمرٍ إلى جمر.

كان لا يكلّ ولا يملّ من الدعوة إلى تفعيل ساحة الأرض المحتلة، لأن القتالَ فيها - وفق خطّه الثوري - أساسي، أما الخارج فهو مُكمّل، لذلك أمضى الفترة ما بين أواخر السبعينات وأغلب الثمانينات من القرن العشرين في العمل على رفد الأرض المحتلة بكل ما يستطيع توفيره من أجل جعلها الساحة المركزية للثورة، وهذا ما جعله كادراً مُهماً في القطاع الغربي، خصوصاً "لجنة التنظيم 77".5إحدى لجان جهاز القطاع الغربي، عُنيت بتجنيد الطلبة الدارسين في الخارج. أولت اهتماماً بالأرض المحتلة، فقامت بإدخال السلاح والفدائيين إليها. ودفعه ذلك لـ"حرث" بلاد الشام طولاً وعرضاً، من أجل نقل السلاح إلى الضفة الغربية، وتدريب شباب الأرض المحتلة وحثِّهم على العودة للقتال في فلسطين، والعمل الدؤوب من أجل يوم قادم يدخل فيه بنفسه فلسطين مقاتلاً.

دوريّة تياسير

كان التنافس بين كوادر الكتيبة الطلابية على المشاركة في الدوريّات6يقصد بالدوريات مجموعات المقاومة التي سعت إلى دخول فلسطين عبر الحدود بشكل سرّي، قادمة من الدول العربية، بهدف تخزين السلاح وتشكيل قواعد للمقاومة وتنفيذ عمليات ضد الاحتلال. وتُعتبر الحدود الفلسطينية الأردنية أشهر المواقع التي كانت تأتي منها الدوريات إلى فلسطين. استمرت الدوريات في كونها شكلاً نضاليّاً معتمداً لدى فصائل المقاومة حتى خروجها من لبنان عام 1982. الذاهبة إلى الأرض المحتلّة شديداً، وحاولت الكتيبة استغلال هذا التنافس لتعيد الألق للفدائي المقاتل ضد الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد أن أُرغم على تركيز جزء من نشاطه في قتال بعض الأطراف اللبنانية دفاعاً عن الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان.7أُنهك الفدائيون في لبنان في خوض صراعات مسلحة مع العديد من الحركات والأحزاب اللبنانية، مثل حزب الكتائب اللبناني الذي خاضوا ضده معارك طاحنة في السبعينات والنصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين، وحركة أمل التي خاضوا ضدها معارك شديدة خصوصاً بين عامي (1985-1987). وقد أصبحت عملية تجهيز وإرسال الدوريات أكثر تعقيداً وصعوبةً، إذ باتت بحاجة إلى المزيد من التدابير الأمنية حتّى لا يُعتقل المقاتلون قبل اجتيازهم نهر الأردن، وكذلك إلى حنكةٍ في تخطي الإجراءات الأمنية الإسرائيلية على الضفة الأخرى للنهر. 

خضع كوادر الكتيبة لدورةٍ خاصة تشمل التدريب على السباحة وعبور النهر في أيام البرد، واستخدام الحبال و"البكرات" لاجتيازه واجتياز خطّ الأثر، وغالباً ما جرى التدريب في نهر الليطاني شديد البرودة.  

اقرؤوا المزيد: "أم الجماهير".. حكاية الانطلاقة.

عام 1980، تقرَّر إرسال دورية زلّوم، على أن تعبُر سرّاً الأراضي السورية والأردنية ثمَّ تقطع نهر الأردن وصولاً إلى فلسطين. أمّا مهمتها فهي إقامة قاعدة ارتكاز في الضفة الغربية، غير أنّ موعدها تأجل، فغضب زلّوم وقاطع "لجنة التنظيم 77". لاحقاً نجحت دوريته في العبور إلى فلسطين عام 1982، وكانت بالإضافة له تضمُّ: نسيم عبد الجليل (أبو العز) من قرية يبرود في محافظة رام الله والبيرة، وجمال دراغمة (أبو سليم) وهو دليل الدورية من بلدة طوباس. 

اقتضت خطة العبور أن يزرع فدائيّان الألغام على الحدود لتضليل العدو ودفعه للتركيز شرقاً، فتقطع المجموعة النهر، على أن يقودها أبو سليم عبر مجرى مائي ينبع من عين البيضا ويصب في نهر الأردن، وذلك لإخفاء آثار المجموعة، وهذا ما تم بالفعل. بعدها، قطعت المجموعة شارع الغور الغربي الرئيس وصعدت التلال، ثمَّ توارى أفرادها عن الأنظار داخل إحدى المُغر، وما إن حلَّ غروب شمس اليوم التالي حتى كانوا في حُرج بين بلدة طوباس وقرية تياسير.

شرع الاحتلال بتمشيط المنطقة بحثاً عن دوريّة مُحتملة، حتّى وصل جنوده إلى الحُرج وقد بدت عليهم علاماتُ التعب. وبالرغم من أنّ الجنود كانوا يهمّون بمغادرة الحُرج، إلا أنّ اقترابهم من أفراد المجموعة عدّل على خطّتها والهدف الذي جاءت من أجله. ففي لحظة الصفر، صاح أبو سجى: "الله أكبر"، ثمَّ ألقى عليهم قنبلة، وفتحت المجموعة النار، وجرى اشتباكٌ لمدة 20 دقيقة، فجرح أفراد المجموعة ووقعوا في الأسر.

الشهيد مروان زلوم في إحدى المسيرات.

من السجن إلى "محنيه يهودا"

رغم أنّها لم تطل كثيراً، إلا أنّ مرحلة السجن كانت غنيّة بالدروس والمراجعات. تحرّر زلّوم في صفقة للتبادل عام 1985 والتي قادتها الجبهة الشعبية – القيادة العامة، وعاد ليلتحق بصفوف المقاومة في الخارج. حين استئنافه العمل، تنقّل زلّوم بين تونس والأردن ولبنان وسوريا، ومع مواجهته بعض المحن، لكنّ شيئاً لم يفتّ في عضده. إذ اعتقلته السلطات الأردنية، وأصيب وبُتر أصبعه أثناء تدريب الفدائيين على السلاح. 

ولما رأت النور عناصر ثورية جديدة تحمل الفكر الإسلامي، كان زلوم حاضراً، إذ ساهم في تأسيس سرايا الجهاد الإسلامي (سجى) مع القائدين أبو حسن قاسم وحمدي.8حاولت حركة فتح، تحديداً القيادي خليل الوزير أبو جهاد، استيعاب العناصر الشبابية ذات التوجهات الإسلامية والراغبة في مقاومة الاحتلال، على أمل أن تكون جزءاً من الحركة، وقد كان زلوم جزءا من هذه المحاولات، وتم تشكيل سرايا الجهاد الإسلامي (سجى)، وقد ظهر في نفس الفترة أكثر من مجموعة وتشكيل باسم الجهاد الإسلامي، مثل حركة الجهاد الإسلامي – بيت المقدس التي تزعمها الشيخ أسعد بيوض التميمي، وأخذ الأمر وقتاً حتى استقرت هذه المجموعات والتشكيلات في تنظيم واحد بقيادة الدكتور فتحي الشقاقي. 

صورة للشهيد مروان زلوم.

عارض زلّوم وآخرون من قيادات وكوادر العمل الفدائي اتفاقيّة أوسلو عام 1993، إلا أنّه استغلّها لتحقيق حُلم قديم  بالعودة إلى فلسطين مُقاتلاً مُسلّحاً. قبل عودته إلى البلاد، استشار قائد كتيبة الجرمق معين الطاهر في الأمر، وأعدّ رجاله في الخليل. لم يمضِ وقت طويل على وصوله حتّى أصبح قائداً لجهاز الوحدات الخاصة في جنوب الضفة، وظلَّ خلال تلك الفترة يتحيَّن الفُرص لاستئناف العمل المسلح. 

اقرؤوا المزيد: ما يراه قلبُ الساعي في جنازات الشهداء.

وما إن اندلعت الانتفاضة الثانية، حتى أخذ يطوف الخليل وبلداتها وقراها ومخيماتها داعياً لاستئناف العمل المسلح ضد الاحتلال ومستوطنيه. وقد أيّده في ذلك مجموعة من قيادات تنظيم "فتح" في الخليل، منهم: دياب الشرباتي،9ولد في مدينة الخليل، أمين سر حركة فتح وسط الخليل (1999-2005)، وأحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى. توفي عام 2006. وعمر خرواط،10ولد في مدينة الخليل، استلم قيادة كتائب شهداء الأقصى في الخليل بعد استشهاد مروان زلوم. أسير في سجون الاحتلال منذ عام 2002، ومحكوم بالمؤبد. حتّى كان له ما أراد، وقد تجمَّع حوله ثُلّة من المقاتلين كسمير أبو رجب.

زوجة الشهيد مروان زلوم خلال جنازته، 23 نيسان 2002.

أطلق زلّوم على مجموعاته كتائب "الشهيد حمدي سلطان"، تيمّناً بصديق دربه الشهيد حمدي، لكنَّه ما لبث أن عدل عن التسمية بالتوافق مع القائد جهاد العمارين،11جهاد إسماعيل العمارين (1956-2022): ولد في غزة. كان من كوادر جهاز القطاع الغربي. قضى في سجون الاحتلال 13 سنة، وأصبح مديراً للمباحث في الشرطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو. اعتقلته أجهزة السلطة بتهمة مقاومة الاحتلال. أسس مع مروان زلوم وآخرين كتائب شهداء الأقصى. اغتاله الاحتلال عام 2002. فباتت تُعرف بكتائب شهداء الأقصى، وكان زلّوم أحد مؤسسيها وقائدها في جنوب الضفة الغربية.  

اقرؤوا المزيد: من الرصاص إلى العفو.. "سيرة كتائب شهداء الأقصى". 

خطَّط زلّوم ونفَّذ عدداً من العمليات ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه في محافظة الخليل، وكان مسؤولاً عن العملية الفدائية التي نفَّذتها الاستشهادية عندليب طقاطقة في سوق "محنيه يهودا" في القدس المحتلة في 12 نيسان/ أبريل عام 2002، والتي قُتل فيها ستة من المستوطنين وجُرح العشرات، كما أنَّه كان مسؤولاً عن تدريب عددٍ كبيرٍ من المقاتلين. 

لأجل ذلك كلّه، ومنذ انخراطه في العمل المسلح بداية الانتفاضة الثانية، صار مروان زلّوم مطارداً. حاول الاحتلال عدّة مرّات اغتياله، إلى أن أطلقت مروحيّة إسرائيليّة من نوع أباتشي ثلاثة صواريخ على سيارةٍ كان يستقلها في شارع السلام هو وسمير التميمي، وهو أحد قيادات جهاز القوة 17 في مدينة الخليل، فارتقى الاثنان شهيدين في مساء الثاني والعشرين من نيسان/ أبريل عام 2002.