11 نوفمبر 2020

لماذا يُنادي الغزيّون بإسقاط جوّال؟

لماذا يُنادي الغزيّون بإسقاط جوّال؟

جاء حادثُ الاعتداء على الشّاب عادل المشوخي أمام مقرّ شركة "جوال" في غزّة ليُعيدَ من جديد الزخم للحملة الشعبيّة ضدّ الشركة وخدماتها. كان المشوخي يتظاهر وحيداً أمام المقرّ إلى أن اقترب منه شابان، تبيّن أنّهما موظفان في "جوال"، فينقضان عليه ويُقيّدانه ويسحبانه إلى داخل المقر بشكل مهينٍ وعنيف. أثار هذا الحادث ردود فعلٍ ساخطة وأحيا الروحَ من جديدٍ في الحراك المتصاعد لمطالبة "جوال" بتخفيض أسعارها وتحسين خدماتها. 

كان الحدث الذي أشعل الحملة الأخيرة مطلع أكتوبر/تشرين الثاني هو إعلان "جوال" رفع سعر الحزمة الشهريّة للمشتركين إلى 40 شيكلاً مقابل 600 دقيقة، ومعها 900 دقيقة أخرى صلاحيتها 7 أيام فقط، إلى جانب 1200 رسالة و1200 ميجابايت إنترنت. قبل ذلك كانت الحزمة الشهريّة تمنح 1500 دقيقة اتصال مقابل 30 شيكلاً.

بدأت الحملة بظهور مجموعة على "فيسبوك" بعنوان "تسقط جوال"، تجاوز عدد الأعضاء فيها عتبة الـ70 ألف مشترك. لاحقاً ظهرت مجموعات أخرى، وانتشر على صفحات الغزيّين على "فيسبوك" و"تويتر" وعلى صفحات فلسطينية بارزة وسمٌ يُطالب بسقوط الشركة، ويعترض على الأسعار المرتفعة التي تعرضها الشركة لقاء خدمات الدقائق والإنترنت. ثمّ بدأت حملة لإغراق صفحة "جوال" بالتعليقات والتفاعلات الغاضبة، وقد أدّى هذا التفاعل مثلاً بأحد الناشطين إلى حذف فيديو بثّ مباشر على صفحته كان مُخصصاً لتوزيع هدايا قدّمتها "جوال". 

في مقابل ذلك، تقدّمت الشركةُ ببلاغاتٍ لأجهزة الأمن بحقّ عدد من النشطاء الذين يقودون الحملة الإلكترونيّة، فاعتقلت عدداً منهم، لمدة تتراوح بين ساعات إلى 3 أيام، وأجبرت بعضهم على إغلاق المجموعات التي يشرفون عليها. لاحقاً أُطلق سراح المعتقلين بعد تدخل لجنة الحريات وحقوق الإنسان في المجلس التشريعي.

الأسعار: الأعلى في المنطقة!

ليست الحملة الحالية الأولى من نوعها، فقد سبقتها فعاليات وحملات عديدة خلال الأعوام 2010، 2011، 2013، 2015، ثم 2019، لكنها لم تنجح في إحداث أي تغيير على سياسة الشركة وخدماتها في القطاع. ومع تكرار الحملات، يُطرح السؤال عن الظروف التي تُعيد الاحتجاج إلى الساحة في كلّ مرة، وهو ما يستدعي شرح ظروف قطاع الاتصالات في غزّة.

تأسست شركة الاتصالات الفلسطينيّة عام 1996، وحصلت على امتياز التشغيل في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة لمدة 20 عاماً دون إعطاء الفرصة لأي مشغلين آخرين بالتقدم إلى عطاءٍ عامّ. احتكرت الشركةُ بذلك قطاعَ الاتصالات وقدّمت فيه خدماتِها من خلال شركاتها؛ خدمات الهاتف الأرضيّ من خلال شركتها "بالتل"، وخدمات المحمول من خلال "جوال"، وخدمات الإنترنت من خلال "حضارة". بالرغم من انتهاء الامتياز المتعلق بتشغيل الهاتف المحمول عام 2003 إلا أن المنافسة لـ"جوال" لم تبدأ إلا عام 2009 حين تأسست شركة "الوطنية" (أوريدو لاحقاً)، والتي لم تدخل قطاع غزّة إلا عام 2018.

يتلخص الادعاء الأساسي ضدّ شركات الاتصالات، وبالأخص "جوّال"- المسيطر الأكبر على حصة السّوق في غزّة، بكونها تُقدّم خدمات سيئة وشبكة إنترنت ضعيفة، وذلك مقابل أسعار عالية جداً. يُشير الباحث الاقتصاديّ الفلسطينيّ محمد عليان إلى أن أسعار خدمات المكالمات التي تُقدمها "جوال" تخطت في معظمها المتوسط لنفس حزم الخدمات في الدول العربيّة المجاورة، وتعتبر من الأغلى في المنطقة. وبينما يلجأ الفلسطينيّ ابن الضفة الباحث عن خدمات أفضل وأسعار أقلّ إلى خدمات الشّركات الإسرائيليّة، يبقى هذا الخيار محصوراً جداً في القطاع، إذ لا يمكن الحصول على تلك الخدمات إلا في مناطق محدودة أقصى شرق القطاع. من جانب آخر، تنعدم خدمات الاتصال المصريّة بالقرب من الحدود مع مصر. 

منشور من إحدى المجموعات التي فُتحت لدعم الحملة ضدّ شركة "جوال".

إذا لم تملك حزمة.. فأنت لا تملك هاتفاً!

يُضاف إلى ذلك عدم توفر خدمات الجيل الثالث للإنترنت في غزّة بسبب منع الاحتلال، مما يعني زيادة اعتماد الفلسطينيين في غزّة على حزم الاتصالات والدقائق المجانيّة أو الشهريّة، و التي تُـتيح لهم الاتصال والتواصل المستمر، بينما يعيش العالم في زمن الاتصالات المفتوحة والإنترنت غير المنقطع عبر مختلف التطبيقات. ولذلك، عندما تكون في البيت أو في المقهى فإنك تحظى بشبكة "واي فاي"، أما خارجها، تتحول هواتف الغزيّين المحمولة إلى مجرد أجهزة اتصال للإرسال والاستقبال المباشر فقط، ولإرسال بضع سطور على "واتساب" في أفضل الأحوال على شبكات الجيل الثاني. 

في ظلّ هذا تبرز أهميّة الحصول على سعرٍ مناسب لجيوب الناس وأوضاعهم الاقتصاديّة في غزّة. وبما أنّ المنافسة غائبة، ولا توجد شركات أخرى تعرضُ خدماتٍ أفضل، يجدُ الغزيّ نفسَه مُضَطراً للاشتراك بـ"جوال"، ويقارن ما يحصل عليه بالحملات والعروض التي تُقدّمها الشركةُ لموظفي المؤسسات الحكوميّة وغير الحكوميّة والأجنبيّة والشركات الكبرى والأجهزة الأمنيّة، فيما يبقى هو خارج أيّ حسابات أو مراعاة من الشركة.

مثلث الأزمة

إذا أردنا تلخيص أزمة الاتصالات في قطاع غزّة، فإنّه يمكن حصرها بثلاثة عوامل أساسية. الأول هو سلطات الاحتلال وسياساته في هندسة الحصار على غزّة، إذ يحرص على التحكم بمستوى وحدود التقنيات في القطاع والإمكانيات المتاحة لها. يتحكم الاحتلال من خلال معابره بأصناف وأنواع وكميات وطبيعة المُعدات التقنيّة والكوابل والمقاسم والترددات وأجهزة الارسال والاستقبال التي يسمح بدخولها الى القطاع، أو يمنعها بشكلٍ دائمٍ بحجة أنّها مواد مزدوجة الاستخدام. وكان للاحتلال الدور الأساسيّ في إعاقة وتأخير دخول شركة "الوطنية" ومعداتها إلى غزة لسنوات بعد أن بدأت أعمالَها في الضفّة.

اقرؤوا المزيد: "المسموح والممنوع.. معابر تُحاصر غزّة".

ثاني هذه العوامل هو شركتا خدمات المحمول اللتان تحتكران سوق الاتصال، وبالأخص مجموعة الاتصالات التي تتصدر المشهد والمواجهة والأرباح نتيجة ابتلاعها للحصة السوقيّة الكبيرة في القطاع، في مقابل نسبة محصورة لغريمتها "أوريدو" (تقدر بين 10%-20%) قد لا تكفي لقلب كفة اتزان السوق. 

ورغم تضييق الاحتلال الفعليّ على بعض نشاطات هاتين الشركتين، إلا أنّهما تتخذان من ظروف حصار القطاع حجةً لعدم رفع الخدمات وتطويرها، والاكتفاء بالحد المُقدم من خدمات أصبحت بدائية مقارنةً بالتطور المتسارع لهذه المجالات. كما تتهرب طواقم الشركتين، في كثير من الأحيان، من استحقاقات الصيانة وضبط الجودة وتحسينها تحت ستار عجز الإمكانيات وحرمان الاحتلال لها من إدخال معداتها، مُكتفيةً بتقديم الخدمات بالحدّ الأدنى مع ضمان الأرباح. وعلى عكس الضفة الغربيّة حيث تجد "جوال" نفسها مضطرة لتقديم الامتيازات والعروض لاستقطاب قاعدة أوسع من الجمهور، فإنّ جانب المنافسة يكاد يختفي في غزّة بما أنها تقريباً المصدر الوحيد تماماً لخدمات الاتصال.

اقرؤوا أيضاً: "غزّة: حصار على الافتراضي أيضاً..".

من يقف مع الناس؟

أما ثالث العوامل فيتعلق بالطريقة التي تتعامل بها حكومة غزّة مع بعض القضايا المعيشيّة في القطاع. منذ تولي حركة "حماس" على قطاع غزّة عام 2007، لم تحدث صدامات أو مواجهات تذكر مع الشركات الكبرى والاستراتيجية في القطاع كمجموعة الاتصالات أو البنوك. وقد يكون ذلك نظراً لحساسية هذه الشركات والآثار السلبيّة التي قد تنتج عن أيّ صدامٍ مباشر معها يقود إلى تعطيل خدماتها التي تمس صميم الحياة في القطاع المنهك. 

وإلى فترة طويلة، كان التقاطع بين "حماس" و"جوال" مُقتصراً على تزويد الشركة للأجهزة الأمنيّة بخدمات فنيّة تتعلق بما تمتلكه من معلومات في حالات الجرائم الجنائيّة أو الأمنيّة. ولا تتوفر معلومات كافية عن طبيعة الاتفاق غير المُعلن بين الجهتين، إلا أنّ سير الأمور على ما يرام دون أي صخبٍ يُذكَر يُعطي إيحاءً بشكلٍ أو بآخر على وجود صيغةٍ معقولةٍ للتفاهم بما يحفظ مصلحتهما.

عام 2015 بدأت هذه العلاقة بالتغير بعض الشيء. بعد حرب عام 2014 ونتيجة لانهيار الوضع الاقتصاديّ والمعيشيّ في غزّة، فرضت كتلةُ "حماس" البرلمانيّة قانوناً ضريبيّاً جديداً باسم "ضريبة التكافل". سعت "حماس" من خلاله إلى رفد خزينتها بما تستطيع من أموال عبر فرض الضرائب على كلّ ما يدخل القطاع من بضائع أيّاً كان نوعُها. أشهرت "حماس" سيفَ القانون على رؤوس الأموال الذين تجنّبتهم طيلة سنوات؛ فطالبت "جوال" بدفع ملايين الدولارات كاستحقاقٍ ضريبيٍّ بأثرٍ رجعيّ، الأمر الذي رفضته الشركةُ بداعي دفعها الضرائب للحكومة في رام الله، وخوفاً من أيّ ردَِ فعلٍ إسرائيليّ يطالُها في حال منحتْ الأموالَ لحكومةٍ تقودها "حماس".

بعد أن فشلت كلّ جهود الوساطة في هذا الشّأن أصدرَ النائبُ العامّ في غزّة قراراً بإغلاق مقرات "جوال" بتهمة التهرب الضريبيّ وعدم التعاون مع مكتبه في القضايا الفنيّة. إلا أنّ المقرات عادت لفتح أبوابها بعد التوصل إلى "حلّ وسط" تُنفّذ وفقه مجموعةُ الاتصالات مشاريع للبنية التحتيّة في غزّة كالتفاف على دفع المال مباشرةً للحكومة. فيما عدا مشروع شارع الرشيد الساحليّ في مدينة غزّة، لم تُقدِّم مجموعة الاتصالات مساهماتٍ كُـبرى في مشاريع استراتيجيّة للبنية التحتيّة، واكتفت بتقديم الدعم للبطولات الرياضيّة ودوري كرة القدم الفلسطينيّ في غزّة والضّفة. 

أما حكومة غزّة، فقد اكتفت بما يمكن وصفه بالحياد السلبيّ تجاه أي حراكٍ شعبيّ يواجه مجموعة الاتصالات ويسعى للضغط عليها لانتزاع مطالب تخفيفية عن المواطنين. وهو موقف تطور لاحقاً إلى التغاضي عن عموم المشهد في أفضل الأحوال.

في ظلّ معركةِ حصارٍ طحنت الأخضرَ واليابس في القطاع، نجح كثيرون في تحويل الأزمة إلى استثمار يزيد من أرباحهم بعد أن ألقوا سهامهم في تجارة الوقود واستيراد أنظمة الطاقة ومواد البناء وليس انتهاء بالمولدات التجارية. وفي كلّ هذه المجالات كانت المحاولات الفردية للتجارة والربح من قلب الأزمة عرضةً لأي اهتزازات أو خسائر قد تطالها بسبب الحروب أو ظروف الحصار. إلا أنّ الاتصالات تبدو كالرابح الأكبر الذي لا زال رغم كلّ سنوات الضيق يُعلن عن أرباحٍ سنويّة عالية، وصلت مثلاً عام 2019 إلى 64 مليون دينار أردنيّ، دون أن تقدّم أو تُساهم في تعزيز صمود أو بقاء هذه القاعدة الشعبيّة التي تعصرها لتقطرَ من دمِّها أرباحاً.

وهنا ينتقل السؤال ويُوجَّه لمن يتصدرون واجهةَ القرار وإدارة المشهد في القطاع، ومن يتخذون من القاعدة الشعبيّة والحضن الجماهيريّ رافعةً لمشروعهم، إذ لا يُعقل أن تكون مواجهةُ "إسرائيل" وضرب عمقها وتحمل التبعات والتكاليف أهونَ من مواجهة شركات اتصالات وأصحاب مشاريع تجاريّة همّها التكسب فقط.