4 نوفمبر 2021

شهادات عن التحرّش: بدون اسمٍ لو سمحتِ

شهادات عن التحرّش: بدون اسمٍ لو سمحتِ

في يونيو/ حزيران الماضي، خرجت المظاهراتُ في رام الله تنديداً بجريمة قتل الناشط الفلسطينيّ نزار بنات، إثر اعتقاله من قبل قوةٍ من الأجهزة الأمنيّة. جُوبِهت تلك المظاهرات بشتّى أنواع القمع؛ الضرب المباشر، محاولات التشويش على الهتافات، اعتقال المتظاهرين، وكذلك: تحرُّش أفراد الأمن، بزيّهم المدنيّ خاصّةً، بالنساء المشاركات في التظاهر. 

وصلت مستوياتُ التحرش إلى درجة التهديد بنشر صورٍ "فضائحية" لهنّ، وهو مستوى لم يعهده تاريخُ قمع المظاهرات في الضفّة الغربيّة من قبل. في ظلّ ذلك، يوثّق هذا المقال قصصَ بعض أولئك النساء، وما حدث معهنّ.

شتائمُ من كلِّ الأنواع

في الرابع والعشرين من يونيو/ حزيران 2021، في أولى المظاهرات التي خرجت للتنديد باغتيال بنات، تعرَضت سميحة (27 عاماً) للضرب والتحرش اللفظيّ. طلبت منَّا ألا ننشر اسمها فاستخدمنا اسماً مستعاراً، وروت لنا تفاصيلَ ما شهدته ذلك اليوم.

في شارع الإرسال قرب المركز التجاري "مول رام الله" الذي يبعد بضعة أمتار عن المقاطعة، كانت سميحة في صفوف الهاتفين الأماميّة، وتعرّضت معهم للضرب بالحجارة وقارورات المياه البلاستيكيّة، وأيضاً للتحرش. 

متظاهرون يرددون هتافات أثناء مظاهرة احتجاجية في 26 حزيران / يونيو 2021 ضد مقتل الناشط نزار بنات أثناء احتجازه ، لدى قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية. تصوير عباس موماني، كالة الصحافة الفرنسية.

تقول: "كان هناك رجلٌ أربعينيّ بلباسٍ مدنيّ يُعلّق سلاحه على طرف خصره، ويلبس ملابس سوداء، وجّه لي تهديداً على شكل مسبةٍ مفادها أنه سيغتصبني، ويحلف بذلك". التجأت سميحة إلى مصف سياراتٍ قريب في محاولة لحماية نفسها، ولكنّها وجدت أنَّ ذلك الشخص يسيرُ وراءها ويوجّه لها ولغيرها من الفتيات شتائم تلحق بهنَّ صفة العهر وبيع الهوى، ثمّ قال جملته: "انضبوا في بيوتكن".

اقرؤوا المزيد: "السلطة في مواجهة النّاس: موجز سيرة القمع".

تُعلّق سميحة: "كان الإشي بين ذكر وأنثى"، وتُضيف أن هذا الاعتداء يُراد منه ألا تعود أي فتاة للمشاركة في أيّ مظاهرة. في ذلك اليوم لم تنم سميحة طوال الليل، ورأت كوابيس تعيد المشهد، وتضيف أنها عندما تسير في الشارع تخشى سماع هذه الشتيمة التي تحمل التهديد مرةّ أخرى، بالرغم من أنّها كانت تسمعها مسبقاً أثناء سيرها في شوارع رام الله دون أن تكون موجهة لها شخصيّاً.

كان الحدث صادماً لسميحة، وبالكاد بدأت تتجاوز الكلمات التي سمعتها، تنساها أو تتناساها كما وصفت. وأضافت: "ما بحبش أي حدا يرجع يسمعها من حدا تاني، أو أي شخص يحس بهذا الإحساس سواء بنت أو شب".

التخصص: سرقة الجوالات وتوزيع التهديدات

يوم السبت المشهود، 26 يونيو/ حزيران 2021، كانت الصحافيّة فيحاء خنفر تؤدّي عملها في تغطية الأحداث، عندما سرق أحدهم بزيٍّ مدنيٍّ هاتفها الجوّال. بعد أيام، أخبرتها زميلةٌ أنّ هناك صوراً تُنشر على "تيك توك" و"فيسبوك"، مرفقة بالإشارة إلى اسمها. توّضح فيحاء: "الصور للبنت يبدو وهي في طلعة خاصة إما مع العائلة أو مع الأصدقاء، وبملابس قصيرة يبدو أنّها ملابس سباحة"، وتشير إلى أنَّ هذه الصور ليست لها بل تمَّ استخدام اسمها فقط، وأشارت أنَّ ذلك يدلُّ على إفلاس إمكانيات من يحاول ابتزازها. 

عندما تابعت فيحاء حساباتِ ناشري الصور وجدت أنّها حساباتٌ وهميّةٌ أي أنّها أُنشأت فقط لهذا الغرض كون الصفحات لا توجد عليها أيّ منشورات أخرى. تجاهلت فيحاء الموضوع ولم تعطه قيمة، وكانت ستفعل ذلك حتى لو نشرت صورة تخصها وحدها، وترى أن ما حصل هو بمثابة انقلاب على قيم المجتمع الذي لا يقبل المسّ بالفتيات بهذه الطرق. وتضيف أنها بالرغم من ذلك لا تأمن على من سرق هاتفها، ولا تأمن على معلوماتها وبياناتها الموجودة عليه، وعلى الطريقة التي يمكن أن يتم استخدامها لاحقاً.

تعرّضت سارة (20 عاماً)، لابتزازٍ إلكترونيّ شبيه بالاعتماد على نشر صورها على مواقع التواصل الاجتماعي. سارة، وهو اسم مستعار كذلك، قالت إنّ صوراً لها وهي تشارك في المظاهرة نُشِرَت مع عبارات تقول إنّها "ضمن أجندات جهاتٍ خارجيّة"، وأنّها هي وغيرها من البنات اللواتي يظهرن في الصور "لسنَ بنات فلسطين"، وأنّهن "عاهرات"، و"يجب على أهاليهن التبرؤ منهن". كذلك أرفقت تلك الصور بشتائم تتخذُ من الأعضاء التناسليّة محوراً لها. 

اقرؤوا المزيد: "اغتيال نزار بنات: السُّلطة في أوضح صورها".

تقول سارة إنّ هذه المحتويات وشبيهاتها نُشرت كذلك على مجموعات "واتساب"، ووصلتها بعد فترة من أحد معارفها. أما على "فيسبوك"، فإنّ غالبية الحسابات التي نشرتها هي حسابات حديثة الإنشاء، وأضافت أنّ أحدها يظهر فيها صاحب الحساب مرتدياً البدلة العسكريّة.

بعد يومين من البحث، استطاع شقيق سارة التواصلَ مع أحد أصحاب الحسابات، وأرغمه على حذف ما نشر. لكنَّ سارة وأخاها لم يتمكّنوا من الوصول إلى بقية الحسابات، إذ أنّ بعضها كان ينشر المنشور ثمّ فجأة يُحذف الحساب في اليوم التالي. 

عناصر نسائية من الشرطة الفلسطينية، بعد منع الشرطة  المتظاهرين من التجمع قبل مظاهرة مخطط لها ضد السلطة الفلسطينية بعد مقتل الناشط نزار بنات بعد اعتقاله. 5 يوليو / تموز 2021. تصوير عباس موماني / وكالة الصحافة الفرنسية

قبل الابتزاز إلكترونيّاً، تعرّضت سارة على أرض المظاهرة أيضاً للمضايقات. أحدهم قال لها ولصديقاتها: "أبوكي ديوث" و"آخرتكم كل واحدة بدار أبوها". وإحدى الفتيات قيل عنها إنّها "ساقطة أخلاقيّاً". وتقول سارة إنّ مسؤولاً بلباسٍ عسكريّ شتم فتاةً وأمّها، وقال للأمّ: "ضبي بنتك" واتهمها بأنّها "عاهرة". كما أنّ إحداهن من عناصر الأجهزة الأمنية بلباسٍ مدنيّ نعتت مجموعة من المتظاهرات بأنّهن يتبعن لجهاتٍ مُنشقّة، كما تقول سارة.

الاعتداء على نجلاء: من "كل بستانٍ زهرة"!

في مكالمةٍ قاربت الـ40 دقيقة، لخّصت الصحافية نجلاء زيتون (35 عاماً) الاعتداءات المتنوعة التي تعرضت لها من ضربٍ وشتمٍ وتحرشٍ وابتزازٍ. 

في اليوم "المشهود" ذاته، كانت نجلاء تقف على طرف الطريق الذي اتَّخذه المتظاهرون مكاناً للاحتجاج، لكن مع الحركة السريعة و"المدافشة" أصبحت بين من يحتج وبين من يصدّ الاحتجاج. انهالت عليها الشتائم، وقال لها أحدهم: "انصرفي من هون" ودفعها، وعندما طلبت منه عدم القيام بذلك دفعها مرةً أخرى بيده وهي تطال صدرها. بعد ذلك رفع عليها العصا وضربها على كتفها اليسرى، فوجدتْ نفسَها مضطرةً للتراجع، بينما تردد أمامه أنّها صحافيّة. لم يشفع لها ذلك، وكانت الخطوة التالية أن خطف منها هاتفها. 

من اعتداء أحد العناصر بلباس مدنيّ على الصحفية نجلاء زيتون، أصيبت لاحقاً في يدها برضوض قوية إثر الضربة.

حاولت زيتون الركض وراء من خطف هاتفها، "لكنهم كانوا ينقلونه من يد لأخرى". وفي نهاية "السباق" رأت زيتون شخصاً بلباسٍ مدنيّ يُسلِّمُ الهاتفَ لآخر ببدلةٍ عسكريّة. طلبت نجلاء من الأخير استرداد هاتفها فردّ عليها: "انقلعي". هذا عدا عن كيل من الشتائم سمعتها ذلك اليوم من أفراد آخرين، نساءً ورجالاً، كانوا بزيّهم المدنيّ، مثل: "روحوا جيبولي إياها وافضحولي عرضها"، "بتروجي من هون ولا بطلع عيونك بأصابعي"، "إنت واحدة سافلة ووقحة وساقطة".

أثناء سعيها لاسترداد هاتفها، ناداها أحدهم، فظنّت أنه سيُعيد لها الهاتف، لكنّه بالفعل كان يحمل حجراً "بحجم نصف طوبة"، كما قالت، ورماه باتجاهها، فأصاب قدمها اليُسرى. تعبت نجلاء من تلك الملاحقات، فابتعدت قليلاً عن المكان، وجلست على الرصيف. لكنّ ذلك الذي ضربها بالحجر ظهر مرةً أخرى وصرخ: "امسكوها لهاي الـ***"، واصفاً إياها بكلمات مشينة. أرادت القيام للدفاع عن نفسها فأشار لها بأصبعه: "والله لأجيب وجهك وأحطه تحت بسطاري".

مرّ أكثر من 4 شهور على ما حدث، إلا أن نجلاء تقول إنّ أثر ذلك ما زال ممتداً. "الحادثة لهلأ ما خلصت، احنا منشوف الأشخاص اللي ضربتنا، قبل فترة رأيت من ضربني على وجهي ورآني هو الآخر وأشار لي على يدي المربوطة برقبتي، وهو يشير كأنه يقول: "اليوم إيدك، المرة الجاي راسك"، ويضحك استهزاءً".

أما عن الابتزاز، فتذكر نجلاء أنّ هناك فيديو مقتطع من فيلم إباحيٍّ انتشرعلى مجموعات "واتساب" وكان عنوانه: "الصحافية نجلاء زيتون في وضعية مُخلة للأخلاق". تقول نجلاء: "طبعاً مش أنا اللي بالفيديو بس الغرباء شو بدهم يحكوا؟ ولاد صف ابني بالمدرسة إذا وصلهم هذا العنوان، شو الضغط النفسي اللي رح يتعرضله؟". وتختم بأنَّ هذا الأسلوب يعتبر بمثابة إساءة نفسيّة لها ولأولادها، وتتساءل عن شكل المستقبل إن كان ما حصل معها حصل في 2021.

من يأخذ حقهنّ؟

المحامية ديالا عايش (26 عاماً) والتي شهدت جانباً من جوانب القمع في تلك المسيرات، تحدثت مع حوالي 10 نساء تعرضنّ للتحرش اللفظيّ والجسديّ والابتزاز، بعضهن توجهنّ لها للحصول على استشارة قانونيّة. إلا أن ذلك لم يثمر في تقديم شكاوى أو رفع دعاوى. 

تقول ديالا إنّ الغالبية لا يشعرن بالثقة تجاه القضاء، ويعرفن أن السّلطة القضائيّة تابعة ومرتهنة للسلطة التنفيذيّة، وبالتالي لن يكون هناك أي إجراء واضح تجاه أي من العناصر الأمنيّة، خاصّة تلك التي كانت بزيّ مدنيّ يُصعب التعرّف عليها.

في المحصلة، يبدو أن التركيز في الاعتداء على الفتيات والنساء خلال مظاهرات الصيف الماضي، كان نذيراً بأسلوب أمنيٍّ جديدٍ ربما يتصاعد أكثر فأكثر في قمع المتظاهرين والمحتجين على سياسات السلطة الفلسطينيّة. يظهر هذا الأسلوب في الوقت الذي تصاعدت فيه مشاركة النساء بشكلٍ عام في النشاط العام، ومنه السياسيّ على وجه الخصوص، في المظاهرات والفعاليات والنشاطات المناهضة للاحتلال. 

وبطبيعة الحال، فإنّ استهداف النساء بالتحرش والابتزاز في هكذا سياق يخدم هدف تشكيل ضغوطات اجتماعيّة عليهنّ،؛ من الأهل مثلاً، قد تدفعهنّ لاحقاً إلى الابتعاد عن الانشغال بالشأن العام. والأخطر أن هذا الابتزاز قد يدفع إلى تعريض النساء للعنف من قبل أفراد عائلاتهنّ.