6 ديسمبر 2022

الدفاع المدنيّ: من يطفئ حريق غزّة؟

الدفاع المدنيّ: من يطفئ حريق غزّة؟

بعد الحريق الذي اندلع الشهر الماضي في شقةٍ سكنيّةٍ لعائلة أبو ريا في مخيّم جباليا شمال قطاع غزّة، وتسبّب بوفاة 22 شخصاً، انشغل الناس في مساءلة جهاز الدفاع المدني: زمن استجابته للنداء، وفاعلية حضوره في المكان. على الجهة المقابلة دافعت الجهات الرسمية في غزّة عن الجهاز واستعرضت الحال التي وصل إليها بفعل 15 عاماً من الحصار الإسرائيلي. لغرض هذا المقال، وللوقوف على أحوال الجهاز، قابلنا الرائد محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدنيّ، وموظفاً ميدانيّاً في الجهاز.

تأسّس جهاز الدفاع المدنيّ، وهو أحد الأجهزة التابعة لوزارة الداخلية في غزّة، عام 1996 بقرارٍ رئاسي. مهام الجهاز كما يُعَرِّفها المتحدث باسم الجهاز الرائد محمود بصل: "الحدّ من الأزمات والحدّ من الكوارث، والوصول إلى مكان الأحداث من أجل تقليل المخاطر، وحماية الأرواح والممتلكات"، وهي المهام التي بات الجهاز يواجه تحدياتٍ حقيقيةً في ممارستها إثر ضعف إمكانياته.

يمتلك جهاز الدفاع المدني 18 مركزاً موزّعاً على محافظات قطاع غزّة الخمس، بطاقم يضمّ 800 فرد، منهم 600 فرد يعملون ميدانياً، والبقية إداريون. في هذه المراكز 30 سيارة إطفاء وإنقاذ فقط، وسيارة صهريج واحدة لكل المراكز! إضافةً إلى أربعة من السلالم الهيدروليكية، بينها ثلاثة تعمل بجودة متدنية، وواحدة مُعطلة لعدم توفر قطع غيارها في القطاع. 

من ناحية الكم، فإنّ كلّ ذلك يمثّل 50% فقط من حاجة القطاع. أما من ناحية الجودة والفاعلية، فإنّ غالبية المعدات والسيارات بحاجة لاستبدال وإخراج من الخدمة، لأنّها بالكاد تؤدي مهامها، وفق بصل الذي يشرح أنّ تاريخ تصنيع بعضها يعود لتسعينيات القرن الماضي.

كذلك يشرح بصل أنّ هناك نقصاً حقيقياً في الكوادر البشرية والمعدات ومراكز الدفاع المدني: على صعيد الكوادر البشرية، فإنّ كل ألف مواطن بحاجة إلى رجل دفاع مدنيّ ميداني. وعلى ذلك، فإنّ غزّة التي يتجاوز عدد سكانها الـ2 مليون و100 ألف نسمة، بحاجة إلى 2100 رجل دفاع مدني ميداني، وهو بفارق حوالي 1500 عن العناصر الموجودين حالياً.

يعمل كل هؤلاء دون أدنى قدر من الحماية الشخصية، أمام عدم توفر البدلات المناسبة، المضادّة للحرائق التي تُمكِّن مرتديها من اختراق الحرائق أو ظروف الأحداث والأزمات الصعبة. ويشير بصل إلى أن هناك بدلة واحدة فقط مضادّة للحريق في كل قطاع غزة.

أدوات تحتاج من يحميها!

دخلت غالبية السيارات والمعدات التي يعمل بها الجهاز المدني في غزة، الخدمة قبل تأسيس الدفاع المدني في الضفة الغربية وغزة، أي قبل عام 1996، وفق بصل الذي يضيف: "أن كل سيارات الدفاع المدني، بحاجة لاستبدال سريع، وتعويض الجهاز بسيارات مناسبة لعمله". 

تتوزع مراكز الدفاع المدني في محافظات القطاع بمعدل (3- 4) مراكز في كل محافظة، حسب الكثافة السكانية، إلا أن ذلك غير كاف، وفق بصل، إذ ثمة حاجة لمضاعفة مراكز الدفاع المدني في كل محافظة، وتأهيل معظم المراكز الموجودة، وأن يضم كل مركز: سيارة إطفاء وسيارة إنقاذ وسيارة صهريج، وسيارة سلالم هيدروليكية لكل محافظة. 

إلى جانب نقص عدد السيارات وتهالك الموجود، فإن غالبية السيارات غير مجهزة بالمواد المختلفة المستخدمة في السيطرة على الحوادث والحرائق، إذ يمنع الاحتلال إدخال مادة الرغوة (الفوم) وهي مادة تعمل على خنق الحريق ومنع وصول الأكسجين اللازم لاستمرار عملية الاشتعال، وتمنع تسرب أبخرة الوقود المحرضة أو القابلة للاشتعال.

يشرح بصل أنّ هوية الحريق تحدّد طريقة التعامل معه، إن كان "بفعل مواد بترولية، فمن الضروري أن يكون هناك مادة رغوية وبودرة جافة للسيطرة عليه"، وإلى جانب ذلك، فإن تكلفة استعمال هذه المواد عالية، وتحتاج لموازنات ضخمة، وهو ما لا تحتمله ميزانيات الدفاع المدني التطويرية التي يذهب 90% منها على أعمال الصيانة شبه اليومية التي تخضع لها سيارات الدفاع المدني القديمة. أما، إن كان الحريق بفعل أخشاب وأشياء عادية، فيمكن السيطرة عليه بالماء.

اقرؤوا المزيد: "غزّة: حصار على الافتراضي أيضاً..". 

بحسب بصل فإن المعدات التي يمتلكها جهاز الدفاع المدني بالمجمل، لا تناسب طبيعة الحوادث والأزمات التي تمر على قطاع غزة، بدءاً من الحوادث التي قد تحصل في المحافظات المكتظة بالسكان، أو تبعات العدوان الإسرائيلي المتكرر: "وهنا نتكلم عن سلالم وعن معدات إنقاذ متقدمة، تُوفر وصولاً سريعاً وآمناً وتدخلاً فاعلاً في الأحداث، وهو غير متوفر، إذ يمنع الاحتلال إدخال سيارات الإطفاء والإنقاذ والصهاريج، وبدلات الإنقاذ الشخصية للطواقم".

أما أجهزة ومعدات الإنقاذ، فإن لها حكاية أخرى، وفق بصل، الذي يقول: "إن الدفاع المدني لا يمتلك أي معدات أو أجهزة تصلح"، إذ يمنع الاحتلال إدخال أجهزة الأكسجين، وكمامات التنفس، والـ "كونجوهات" المستخدمة في تكسير الباطون، وأجهزة كشف الأحياء تحت الأنقاض، وأجهزة كشف السموم، وخوذ رجال الدفاع المدني، والسلالم الهوائية، والكشافات الخارقة للحريق والدخان، وفرشات الهواء التي تفصل الطبقات الاسمنتية عن بعضها، بزعم أن كل ذلك معدات ومواد "ثنائية الاستخدام (مدني، عسكري)"، ويمكن أن تستخدمها المقاومة. 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

الحصار أولاً، الحكومة ثانياً

منذ عام 2006، يمنع الاحتلال إدخال المعدات والسيارات والمواد الضرورية لعمل الدفاع المدني. وإثر الحصار وصعوبة السفر من غزة، لم تتمكن الطواقم من حضور تدريبات في خارج قطاع غزة. بحسب بصل، فإن آخر تدريب في الخارج للطواقم كان في عهد السلطة الفلسطينية في غزة، وهو الأمر الذي يؤثر على جودة عمل الطواقم الموجودة. 

مع ذلك، فإن الحكومة بغزة غير معفية من التقصير. في محافظة الشمال، بالكاد يمكن أن يرى العاملين بعضهم في أحد المراكز المهمة للدفاع المدني في المحافظة بسبب العتمة الشديدة، وعدم توفر وسائل إضاءة بديلة في أوقات انقطاع التيار الكهربائي.

"مئة مرة، حكينا عن عدم توفر الكهرباء في المقر، هل أزمة الكهرباء جديدة علينا؟ كل البيوت من حولنا مضاءة إلا المركز، وبعدها نتحمل نحن كل المسؤولية عن أي كارثة"، يقول يونس – اسم مستعار لرجل دفاع مدني فضل عدم الكشف عن هويته - مبيناً: "أن ذلك، يعكس موقع الدفاع المدني في حسابات الحكومة، على الرغم من أن الجهاز، أحد أهم الأجهزة الحيوية التي تتقاطع مع سلامة الناس".

ليست الكهرباء وحدها المشكلة، بل في كل البنية التحتية في المقر المتهالك: "لنترك ما نحتاجه نحن لأجل سلامتنا الشخصية وفاعليتنا في الميدان، ولنتحدث عمّا يفترض أن يضمه مقر الدفاع المدني". يقول، مضيفاً: "المقر أولاً بأرضية رملية غير خرسانية وهو أمر يعطلنا أحياناً في عملية الخروج، ثانياً يفترض أيضاً أن يضم كل مركز بئر مياه، مع ذلك، ليس هناك أي بئر ونضطر لتعبئة الماء من أكواع الإطفاء المنتصبة في الشوارع، وهي أيضاً غير متوفرة بالشكل المطلوب في كل محافظة الشمال، ونضطر للبحث عنها في الشوارع، رغم ضرورة وجودها بكثرة في كل الشوارع". 

إلى جانب ذلك، فإن "قاعدة الاتصالات اللاسلكية في المقر متردية، وبالكاد تصل لأمتار، وهو أمر يؤثر على قدرتنا على التنسيق مع بعضنا في حالة الخروج إلى الحوادث ويعطل التنسيق بين أفراد الفريق، لأجل ذلك نضطر أحياناً وسط عملنا في مكان ما أن نخرج من المكان أو نبحث عمن يوصل معلومة لأفراد الطاقم تحت المكان".  

بحسب بصل، فإن جهاز الدفاع المدني يعتمد بشكل أساسي على الهبات الخارجية في استحداث المعدات أو غير ذلك، كان آخرها، المنحة الماليزية التي قُدِّمت بعد عدوان مايو/أيار 2021، بقيمة مليون دولار، وزّعتها مديرية الدفاع المدني على استحداث 5 سيارات دفاع مدني بقيمة نصف مليون دولار، وإعادة تأهيل مركز للدفاع المدني بالنصف المتبقي. حاول جهاز الدفاع المدني هنا التعامل مع الواقع الصعب الذي فرضه الحصار من خلال تحويل سيارات شحن عادية إلى سيارات إطفاء، وهو على ما يبدو "أقلّ الإيمان"، خاصّة أن هذه السيارات لا تملك نفس الميزات التنفيذية والتقنية المطلوبة في سيارات الإطفاء. كذلك حاول الجهاز تصنيع مادة "الرغوة" اللازمة للسيطرة على الحرائق، محليّاً، لكنها لم تكن بالجودة المطلوبة.

اقرؤوا المزيد: "غزّة والصيد المُلغّم: هكذا نُحاصر في بحرنا!".

غير أنّ الهبات الخارجية لا تناسب دائماً حاجة القطاع. يشير يونس بيده لسيارة وصلت غزّة ضمن مساعدة قطريّة لجهاز الدفاع المدني، ويقول: "على سبيل المثال، بينما نعاني من نقص سيارات الصهاريج وسيارات الإطفاء، وصلتنا عدة سيارات مثل هذه، سعة خزان كل واحدة منها 75 لتراً من المياه. يعني بالكاد تُطفئ حريق أشعله ولد صغير، وتحتاج لأجل أن تتحرك، محطة بنزين كاملة، يعني وجودها وعدمه واحد". 

يقول يونس إنّ التعامل مع الهبات الخارجية، يجري أحياناً بطريقة غير مجدية: "لماذا لا نشترط ونحدد ما نحتاجه فعلاً؟ ما الفائدة من وصول إمكانيات لا تناسب واقعنا؟ وما الفائدة من استمرار ترميم السيارات المتهالكة التي تؤخرنا وتتعطل في الطريق إلى المهمة؟". 

يمسح يونس ضحكة خفيفة عن فمه، ويقول: "مرة طلعنا على مهمة، وفي نص الطريق خربت السيارة، لكن الناس الحمد لله قدرت تطفي النار". وصل ضعف الإمكانيات، بحسب يونس، حد أن "لا نتمكن من توفير إضاءة جيدة في مسرح الحدث، فكشافات الإنارة في السيارات متهالكة، وكذلك خراطيم المياه، والعمل على توفير مصادر إمداد بالمياه، هل كل ذلك بحاجة لأن يتبرع بها أحد من الخارج؟". 

ومن واقع تجربته، يحكي يونس أن التعامل مع الحرائق القوية، بحاجة إلى رفع قدرة ضخّ المياه إلى أقصى قدرة، لإخماد الحريق، لكن الطواقم تضطر في كثير من الأوقات لتقليل ضخ المياه، لانتظار عودة أو وصول سيارات الإمداد بالمياه وهو ما يؤخر أو يُعطّل السيطرة على الحرائق، "يعني لماذا لا تزرع البلدية في كل مترين كوع إمداد للمياه؟". ويقول، إنّه في الغالب ما تضطر الطواقم للاقتراب كثيراً من مصادر الحرائق الضخمة لعدم توفر خراطيم طويلة أو محطات ضخ قوية، وهو ما يعرضها للخطر: "كثير منا يذهب لمهمات ويعود مصاباً".

يحكي يونس أن الحكومة تعرف بأنّ رجل الدفاع المدني يذهب إلى الحوادث بجسده دون أي رداء واقٍ أو معدات مناسبة، مع ذلك لا يوجد ما يكفي من الضغط أو التحرك لأجل تحسين هذا الوضع". 

اقرؤوا المزيد: "هكذا يستحوذ المستثمرون على أراضي غزّة".

ويشرح أن هناك نقصاً شديداً في التدريبات، إذ تعتمد المديرية على الحوادث والحروب في إكساب طواقم جهاز الدفاع المدني الخبرة الميدانية، "لكن ما الفائدة؟ إن لم يتمكن فريق من التفكير بطريقة واحدة؟ هل مسألة أن يتصرف كل شخص كما يجده مناسباً دون خطط مسبقة أمر جيد؟ غالباً المديرية تُدخل المنتسبين الجدد في دورات تعريفية بالمهام والأشياء الأساسية، لكن لا تقدم شيئاً متخصصاً للطواقم" يقول. و

وفق يونس، فإنّ الحوادث والأزمات التي حضر إليها الدفاع المدني تحولت إلى مسرح لإظهار ضعف إمكانيات الدفاع المدني، وفرص محتملة لخسارة عناصر الطاقم أرواحهم: "نخرج في بعض المهمات دون أن ندرك إن كنا سنعود أم لا"، فيما يبدو أن جهاز الدفاع المدني يتحول إلى جهاز للتضحية. كل ذلك في كفة، وأيام العدوان في كفة أخرى، يقول يونس عنها: "نقضي اليوم في الشوارع ننتقل من مهمة صعبة إلى مهمة أصعب وأخطر، لأن مقراتنا مهدّدة بالقصف وكثير من طواقمنا استشهدوا!". منذ عام 2006 حتى اليوم، استشهد من طواقم الجهاز 25 عاملاً وأصيب عشرات آخرين، خلال عملهم في أوقات العدوان.

بعد أكثر من 15 عاماً من الحصار، تحوّل الدفاع المدني إلى جهازٍ متهالك، تخاطر طواقمُه بنفسها في الأحداث الصعبة والأزمات الكبيرة التي تتطلب معداتٍ خاصة، وسط مطالبات متكررة للحكومة بأنّ تضع الجهاز ضمن أولوياتها، خاصّة أنّ خدماته تتقاطع مع تحقيق سلامة وحفظ الأرواح.