17 فبراير 2020

من يطرُق باب العائلة عندما يُغلق باب الزنزانة على ابنها؟

من يطرُق باب العائلة عندما يُغلق باب الزنزانة على ابنها؟

نشر أحدُ الناشطين في مبادرةٍ تطوعيَّة نداءً عبر "فيسبوك"، يقول فيه إنَّ عائلةً مكوّنةً من تسعة أفراد بحاجة إلى مساعدة ماليَّة مستعجلة. بين قوسيْن كتبَ أيضاً: (الأب أسير محرَّر، ويعاني من أمراض). صادف متطوّعو المبادرة منزلَ هذه العائلة خلال جولةٍ لتوزيع اللّحوم على العائلات المحتاجة في أحد مخيّمات الضّفة الغربيّة. لم يكنْ في المنزل ثلاجة، ولا أسرَّة، ولا خزائن. ينامُ أفرادُ العائلة على فرشٍ يرتفعُ فوق الأرضِ شبراً واحداً.

فرشٌ مشابهٌ- وربَّما أقلّ ارتفاعاً عن الأرض- نامَ عليه أسرى مُحرَّرون فوقَ الاسمنت لمدّةِ شهرٍ ونصف، منظّمين اعتصاماً مفتوحاً، للاحتجاج على قطعِ رواتبهم. تخلّل ذلك إضرابٌ عن الطعام، ثمّ إضراب عن الماء، توسطتهما مداهماتٌ فضَّت فيها الأجهزةُ الأمنيَّة الفلسطينيَّة خيمةَ الاعتصام. 

انتهى الاعتصامُ في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2019، إثرَ وعودٍ بحلٍّ قريب، وجمعت المبادرة التطوّعيَّة تبرعاتٍ لعائلة الأسير المحرَّر في المخيّم. رغمَ هذه الحلول الآنيَّة، يبقى الأسرى والمحرّرون وعوائلهم في دوّامةٍ من الأعباء الماديَّة، تُراكمها سنواتُ الاعتقال.

ثمن الغياب

ختمت الأسيرة سماح جرادات رسالتها لذويها من سجن الدامون بجملة: "أعتذر جداً على المصاريف والغلبة، أعدكم بأنني سأعوّضكم عن كلّ شيء". سماح هي واحدة من 5000 أسير وأسيرة، يسرقُ الاحتلالُ أعمارَهم وأموالهم، مُحوِّلاً احتجازهم إلى تجارةٍ مربحةٍ.

كانت اللَّجنة الدَّولية للصليب الأحمر تزوّد الأسرى بالاحتياجات الغذائيَّة الأساسيَّة والسجائر إلى حين إنشاء نظام الكانتين، أي مقاصف السجون، عام 1973. منذ السبعينيَّات، قلّصَ الاحتلالُ ما يقدّمه من مواد تموينيَّة للأسرى، ومنعَ الأهالي من إدخال الطعام ومواد التنظيف خلال الزيارات، إضافةً لتعقيدِه الشروط اللازمة لإدخال الملابس، إلى أن أصبح الأسرى معتمدين على الكانتين اعتماداً كليّاً في توفير حاجياتهم.

تُدير الكانتين شركةٌ ربحيَّة، تصبُّ رِبْحَاً سنويّاً يُقدّر بملايين الدولارات في خزينةِ مصلحةِ السّجون الإسرائيليَّة. كما تُباع البضائع في مقاصف السجون بأسعار مرتفعة جداً مقارنةً بسعرها في السوق الفلسطينيَّة. مثلاً، تباع شفرات الحلاقة بثمانية أضعاف سعرها في السوق.

تودِع هيئة شؤون الأسرى والمحررين مبلغ 400 شيكل في حساب الكانتين لكلّ أسير، لكن ذلك ليس كافياً لقضاء حاجيَّات الأسرى، لذا يودِعُ الأهالي مبلغاً إضافيّاً أكبر للكانتين، ومبلغاً آخر لشراء السجائر. إضافةً إلى ذلك، يُجبَر الأسرى أحياناً على تغطية نفقاتِ علاجهم أثناء وجودهم في الأسر، مثل إجبار الأسير حسين كحيل على دفع 7000 شيكل مقابل زراعة جهازٍ للسمع في أذنه اليسرى، فتصبحُ الحاجات الأساسيَّة امتيازاتٍ يُجبَر الأسرى على توفيرها بأنفسهم.

يتركُ تنصّلُ الاحتلال من مسؤوليَّاته أعباءً إضافيَّة على الأسرى وذويهم، تُضافُ إلى غيابِ مُعيلي الأسرة في السجون، وقصورِ مخصصاتِ الأَسرى عن تلبية حاجاتِ عائلاتهم.

بعد التحرُّر

تصرفُ السلطةُ الفلسطينيَّةُ رواتبَ مقطوعة للأسرى المحرَّرين، شريطةَ أن يكونوا قد أمضوا خمس سنواتٍ أو أكثر في سجون الاحتلال، ولا يتلقّوْن دخلاً منتظماً آخر. كما ينصّ قرارٌ صادرٌ عن مجلس الوزراء على إعطاء أفضليَّة للأسرى المحرَّرين- الذين أمضوا في الأسر سنةً أو أكثر- في طلباتِ الوظائف العموميَّة. وللمحرَّرين تعويضاتٌ أخرى، كالتأمين الصحيّ، والمنحِ الجامعيَّة الجزئيَّة، وتسهيلاتٍ على القروض البنكيَّة.

لا شكّ أنَّ التزاماتِ السلطة الفلسطينيَّة اتجاه الأسرى والمُحرَّرين وفَّرت قسطاً من الدعم لهم ولأُسرهم، إلَّا أنَّ ذلك الدعم دائماً ما يكون عرضةً للتهديد، كما هو الحال اليوم.

تخضعُ السلطة الفلسطينيَّة لضغوطاتٍ دوليَّة، تحتجّ على تقديمها رواتبَ لذوي الأسرى والشهداء، كقرار الحكومةِ الهولنديَّة وقفَ الدعم المالي المقدَّم لفلسطين نهايةَ العام الماضي، أو كإدراجِ الاتحاد الأوروبيّ بنوداً جديدة في عقوده مع المؤسسات الأهليَّة الفلسطينيَّة التي يموّلها. تلزم البنودُ الأخيرةُ المؤسساتِ بالتأكّد من أنَّ موظّفيها، والمشاركين في ورشاتها التدريبيَّة، على غير صلةٍ بأحزابٍ فلسطينيَّة يصفها الاتحادُ الأوروبيّ بالـ"إرهابيَّة".

في خضم "أزمة المقاصة"، اقتطعَ الاحتلالُ من العائدات الضريبيَّة- التي تُحوَّل للسلطة الفلسطينيَّة- قيمةَ مخصصات ذوي الشهداء والأسرى الفلسطينيين، بحجَّة أنَّها متصلة بالإرهاب. ورغمَ إعلان السلطة الفلسطينيَّة أنَّها لن تقبل إلّا المبلغ الكامل المستحق لها، ولن تتنازلَ عن رواتب ذوي الشهداء والأسرى، إلّا أنَّها استلمت دفعة من الأموال لاحقاً، دون تسويةٍ بشأن تلك الرواتب المُقتطعة.

مثلما يخصمُ الاحتلالُ "أموال الإرهاب"، كما يسمّيها، يُضافُ إلى هذه الضغوطات قيامُ السلطةِ الفلسطينيَّة بقطع الرواتب التعسفيّ، أو تقليصها مراراً، بحقّ أعدادٍ من الأسرى والمحرّرين، خاصَّة في قطاع غزَّة. إذ تُستخدم المخصّصات كورقة ضغطٍ في الصراعات بين الفصائل، أو حتّى بين تيّارات داخل الفصائل. 

من يكسر العزلة؟

كلَّ ليلة، حين يخلدُ الجميعُ إلى النوم، تصحو عائلةٌ فلسطينيَّةٌ على باب منزلها يُقتَحَم أو حتّى يُفجَّر، أو تستيقظُ أمٌّ قلقة، لتجدَ عشراتِ الجنود حول منزلها، فتتجّه بهدوءٍ نحو غرفةِ أحد أبنائها لتيقظه، وتحرص أن يرتدي ملابس دافئة، قبل أن يختفيَ معصوبَ العينيْن، ويختطفه الجنود. يصحو البقيَّة في المدينة بعد ساعاتٍ على 

خبرٍ محليٍّ، يتغيَّرُ فيه الرَّقم كلَّ يوم، لا الصيغة: "شنّ الاحتلالُ حملةَ اعتقالاتٍ في مدن الضفة الغربيَّة، طالت عشرة مواطنين"؛ أو عشرين، فالرقمُ أقلّ حيناً، وأحياناً أكثر. 

يدركُ المجتمعُ الفلسطينيّ عمقَ الأثر الذي تخلّفه تلك الليالي في نفوس الناس، لذا بدأت مجموعاتٌ شبابيَّة وطلابيَّة بتنظيم زياراتٍ لأهالي الأسرى والشهداء مطلع الثمانينيَّات. وما زالت المجموعاتُ التطوّعيَّة تنظّم تلك الزيارات بشكلٍ دوريّ، انطلاقاً من القناعة بأنَّ الخطَّ المقاوم لا يمكن أن يستمرَّ دون حاضنته الشعبيَّة، فدونها سيشعرُ المقاومون- الأسرى وعائلاتُ الشهداء- بأنَّهم في عزلة، وكأنَّهم أخذوا قراراً فرديَّاً بمقاومة الاحتلال، يتحملون مسؤوليَّته وحدهم. دون تلك الحاضنة، سيسهلُ على المُشكّكين بجدوى المقاومة أن يردّدوا عبارتهم الشهيرة: "فلان ضاع عمره بالسجن، مين سائل عنه؟". 

يتذكّر محمد، أحد المتطوّعين في تلك المجموعات، لحظةً معيَّنة أيقنَ فيها أهميَّة زيارة أهالي الأسرى. في إحدى الزِّيارات، اتَّصلَ الأسيرُ بعائلته ليفاجأ بوجودِ أصدقائه ومتطوّعين في منزله، فتنقّلَ الهاتفُ من يدٍ إلى أخرى، ليسلّموا جميعاً على الأسير، بعد أنْ قالت أمّه بكلّ فخر: "هيْ صحابك هان يمّا".

قال زياد، متطوّعٌ آخر، إنَّ الزيارات تكون بغرض تقديم دعمٍ نفسيّ للعائلة، وللأسير نفسه، وفي الوقتِ ذاته تحاولُ المجموعات أنْ تقدّم العوْن، في حال علمت أنَّ أحداً من العائلة بحاجة لإيجاد وظيفة، أو لـ"عونة" في قطف الزيتون، أو لعلاجٍ طبيٍّ أو نفسيّ. يوظّف المتطوّعون علاقاتهم الشخصيَّة لإيجاد الحلول، ما يجعلُ إمكاناتهم محدودة، مقارنةً بالمؤسَّسات والأحزاب. مضيفاً أنَّ أهالي الأسرى غالباً ما يبدون استغراباً من تلك الزيارات، بعد أن عوّدتهم التنظيمات السياسيَّة على جولاتٍ لا تهدف إلا لالتقاط الصور مع العائلة، ولتعداد "الإنجازات الوطنيَّة" في الإعلام.