1 أغسطس 2022

غزّة تختنق ببضائعها

غزّة تختنق ببضائعها

في 19 تمّوز/ يوليو الجاري، فرضت وزارة الاقتصاد في غزّة زيادةً على أسعار عددٍ من السلع المستوردة، وذلك في ظلّ أزمة مالية تعيشها حكومة غزة، وارتفاع جنونيّ على أسعار السلع الأساسية على السُكّان الذين يعيشون ظروفًا معيشية متدهورة. أثار القرار الذي برّرته الوزارة بأنّ هدفه "دعم المنتج المحلي" استياء تُجّار القطاع، وطالبوا بالتراجع عنه ودعم المُنتج الوطني عبر الحوافز كالاعفاءات الضريبيّة دون الإضرار بالتاجر المُستورد. 

يأخذنا استياء التجّار هذا إلى استياءٍ قديم، عمرُه بعمِر الحصار على القطاع، من الحركة التجاريّة لبضائعهم. فقبل نحو عقدٍ ونصف، كانت القطاعات الصناعيّة في قطاع غزّة تَجِدُ مساحةً لها في أسواق الضفّة الغربيّة والأراضي المحتلة عام 1948 دون تعقيداتٍ كبيرة. بعضها كانت تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على أسواق الضفّة الغربيّة كحيزِ تسويقٍ ثابتٍ لِمُنتجاتها. لكن بدءاً من عام 2007 تغيّرت الأمور، وجرت تطوراتٌ كثيرة، فما الذي حدث؟ وكيف صارت بضائع غزّة غريبة في أسواق الضفّة الغربيّة؟

وقّعت السلطة الفلسطينيّة عام 2005 اتفاق تفاهمٍ مع سلطات الاحتلال على آلية عمل المعابر بغية "تنظيم المرور من وإلى الأراضي الفلسطينيّة"، وضمنها أيضاً المعاملات التجاريّة. جرى بموجب الاتفاق السماح بخروج 400 شاحنة يوميّاً من منتجات قطاع غزّة وتسويقها في الضفّة الغربيّة والأراضي المحتلة عام 1948. 

وقد سُجّل في عام التوقيع على الاتفاق خروج أكثر من 9 آلاف شاحنة من بضائع غزّة، سُوِّقت معظمها في أراضي الـ1948، وبعضها الآخر في الضفّة الغربيّة، فيما جرى تصديرُ الباقي إلى أسواق عالميّة. وفي النصف الأول من عام 2007 على سبيل المثال، خرجت أكثر من 5,700 شاحنة محمّلة بمختلف أنواع البضائع من غزّة.

وبحسب المعطيات المتوفرة من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA، فإنّه قبل تشديد الحصار الإسرائيلي على غزّة في حزيران/ يونيو 2007، سُوّق نحو 90% من بضائع الملابس الجاهزة، و76% من الأثاث، و20% من المنتجات الغذائيّة خارج غزّة، تحديداً في الضفّة وأراضي الـ1948. 

أصحاب مصانع فلسطينية تضررت بفعل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة عام 2014، يتظاهرون أمام مقر الأمم المتحدة للمطالبة بإعادة بناء مصانعهم المدمرة. مارس 2017. (محمد عابد/AFP).
أصحاب مصانع فلسطينية تضررت بفعل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة عام 2014، يتظاهرون أمام مقر الأمم المتحدة للمطالبة بإعادة بناء مصانعهم المدمرة. مارس 2017. (محمد عابد/AFP).

الحصار و"عمايله"

بعد أن سيطرت حركة "حماس" على قطاع غزّة عام 2007، أحكمت سلطات الاحتلال قيودها على القطاع، ودخل الأخير مرحلةً جديدةً ومكثّفةً من الحصار الشامل. 

اقرؤوا المزيد: غزّة: هل "كسر الحصار" ممكن؟

من تبعات ذلك، أن منع الاحتلالُ تسويقَ بضائع غزّة في أسواق الضفّة وأراضي الـ1948، ولم يسمح سوى بتصدير عددٍ محدودٍ من الشاحنات التي تحمل في غالبها منتجاتٍ زراعيّة. ومن المثير للانتباه أنّ السماح بدخول بعض الشاحنات كان في كثير من الأحيان استثناءً مرتبطاً بحاجة السوق الإسرائيلي إليها، كحاجته لسعف النخيل خلال عيد العرش اليهوديّ، وبالتالي السماح بخروج شاحنات مُحمّلة به من القطاع. 

وهكذا، منذ تشديد الحصار منتصف 2007 وحتى عام 2014، خرجت من القطاع ما يقارب 14 شاحنةً شهريّاً فقط، تحمل منتجاتٍ زراعيّةً فقط، وغالبيتها كانت في إطار مبادرات دوليّة لدعم القطاع، كالمبادرات والمشاريع الإغاثيّة التي تقدّمها الممثلة الهولنديّة في الأراضي الفلسطينية لمزارعي غزّة وقطاعات إنتاجيّة أخرى.

تبدّلت الأوضاع قليلاً عام 2014، إذ سمح الاحتلال ضمن ترتيبات وقف إطلاق النار مع المقاومة، بعد العدوان الذي استمر لـ51 يوماً، بتسويق عددٍ محدودٍ من منتجات غزّة في أوروبا بعد وساطة الحكومة الهولنديّة والرباعية الدوليّة.

في العام المذكور، 2014، خرجت 228 شاحنة مُحمّلة بالمنتجات الزراعيّة والأثاث والملابس، تلاها 234 شاحنةً في العام 2015، سُوِّقت في الضفّة وأراضي الـ1948. وهو رقم يُشير إلى فارق التحول الهائل ما بين ما قبل 2007، وما بعدها.

اقرؤوا المزيد: المسموح والممنوع.. معابر تُحاصر غزّة.

انخفض إثر هذا التضييق الإسرائيلي متوسطُ الدخل السنويّ لصادرات غزّة الزراعيّة، التي لعبت دوراً هامّاً في اقتصاد القطاع قبل فرض الحصار، من 15,6 مليون دولار أميركي سنوياً بين عام 1996 و2007، إلى 1,2 مليون دولار سنويّاً فقط بين عام 2010 إلى عام 2014. كذلك انخفضت حصّة قطاعي الصناعة والزراعة في الناتج المحليّ الإجماليّ لغزّة من 21% و10% في العام 1994 إلى 10% و6% فقط، على التوالي، عام 2013.  

قيود إضافيّة على الأغذية المصنّعة.. وتلكؤ فلسطيني!

بعد التفاهمات التي أعقبت وقف إطلاق النار عام 2014، استثنى الاحتلال الإسرائيلي المنتجات الغذائيّة المُصنّعة من السلع المسموح تسويقها في الضفّة الغربيّة أو تصديرها للخارج. مع العلم أنّه قبل عام 2017، كانت مصانع الأغذية المُصنّعة في غزّة تُسَوِّق نحو 33% من منتجاتِها في أسواق الضفّة.

نهاية عام 2020، وإثر ضغوطات من وكالة التعاون الألمانيّة، والممثلية الهولنديّة، واللجنة الرباعيّة إلى جانب اتحاد الصناعات الغذائيّة في الضفّة وغزّة وأصحاب المصانع، وتعاون من مؤسسات حقوقية إسرائيلية، ادّعى الاحتلال بأنّه "لا يوجد منع مبدئيّ على تسويق المنتجات الغذائيّة المُصنّعة من غزّة"، لكنّه فرض عدةَ شروطٍ للسماح بذلك، بعضها شروطٌ لم تكن موجودةً قبل 2007.

من بين الشروط: أن يكون الغذاء مصنوعاً في مصنعٍ يطبّق معايير الجودة العالمية وحاصل على شهادات الجودة، إلى جانب خضوعه للمراقبة من قبل الحكومة الهولنديّة، وأخيراً مروره فحصاً من وزارة الصحّة الإسرائيلية. وبعد أن عملت 8 مصانع رائدة في غزّة على تحقيق هذه الشروط، خرج الاحتلال بشرطٍ جديد! بحسب مدراء مصانع في غزّة ومتابعين لهذا الشأن، فإنّ الشرط الجديد ينصُّ على الحصول على مصادقة وزارة الصحّة الفلسطينيّة التابعة لحكومة السلطة في رام الله على المنتجات. بحسب أصحاب المصانع، خلق هذا الشرط حالةً جديدةً من العقبات، الأسوأ أنّ طرفاً فلسطينياً، أي السلطة، تُساهم فيها.

اقرؤوا المزيد: غزّة: أرض التوت الحزين.

يقول عدد من أصحاب المصانع وتجّار القطاع الخاصّ إنّ السلطة الفلسطينيّة غابت بشكلٍ شبه تام على مدار نحو عقدٍ ونصف عن قضية منعهم من تسويق منتجاتهم في الضفّة. ويُضيفون أنّها تعاملت مع طلباتهم بالحصول على المصادقة من وزارة الصحّة بالمماطلة والإهمال. 

لم تُصدر السلطة الفلسطينيّة موقفاً صريحاً برفض إعطاء هذه المصادقة، لكنها، تحجّجت على لسان دوائرها في ظروفٍ مختلفة بأنّ: الاحتلال وطلباته الكثيرة هي العقبة، وأنّ وقف التنسيق الأمنيّ مع الاحتلال (الذي استمر لبضعة أشهر عام 2020) هو السبب في رفض طلبات أصحاب المصانع على مدى السنوات الماضية. وهو ما عبّر عنه مثلاً عام 2020، وزير الريادة والتمكين آنذاك في حكومة رام الله، أسامة السعداوي، ردّاً على سؤال صحفي. 

أصحاب مزارع الأبقار ومصانع الألبان يتظاهرون للاحتجاج على تفاقم الأوضاع الاقتصادية بسبب الحصار الإسرائيلي على غزّة، مطالبين بمساندة حكومية، 17 يناير 2018. (عدسة: مؤمن فايز / نور فوتو).

وهو أيضاً الموقف الذي تُصدّره دائرة التنسيق والارتباط التابعة للسلطة الفلسطينية عند سؤالها عن الأمر. الموقف نفسه أيضاً، لكن معكوساً، يُردّده الاحتلال في حالاتٍ أخرى، كما الحال مع الدعاوى التي قدّمتها مؤسسة حقوقية إسرائيليّة (جيشاه) بشأن رفض تصدير المواد الغذائيّة المُصنّعة من غزّة، إذ كان جزءاً من ردود الاحتلال يأتي في السياق نفسه: "لم تصلنا طلبات من لجنة الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية".

في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وبعد ضغطٍ من جهات مختلفة، حصل مصنعان للأغذية المُصنّعة في غزّة على موافقة وزارة الصحّة برام الله، "مأرب" و"سرايو الوادية". سُمِح إثر ذلك، لمصنع سرايو الوادية الذي كان يُسوِّق نحو 80% من منتجاتهِ الغذائية في أسواق الضفّة قبل تشديد الحصار، بتصدير شاحنتين فقط من المُسلّيات لأسواق الضفّة، وذلك لأول مرّة منذ 13 عاماً، وفق حديث دائرة العلاقات العامة والإعلام في المصنع لـ "متراس".

مرّة "الحرب".. ومرّة "السلطة"

في المحصلة، أصبح تسويق منتجات غزّة في الضفّة عمليةً غير مجدية اقتصاديّاً في ظل سياسات الاحتلال المكثّفة، وغياب إرادة حقيقية عند السلطة الفلسطينيّة للمساهمة في المجهود الرافض لتلك السياسات. وبالمجمل فإنّ النشاط التجاريّ الطبيعيّ بين غزّة والضفّة الغربيّة قد تغيّر تماماً عمّا كان عليه قبل تشديد الحصار الإسرائيليّ، وقبل مرحلة ما يُعرف بـ"الانقسام"، كما يقول رئيس جمعية رجال الأعمال في غزّة علي الحايك. 

يُضيف الحايك أن السّلطة في رام الله تطلبُ من أصحاب المصانع فتح سجلٍ تجاريّ جديدٍ في الضفّة والحصول على رقم مشتغل مرخّص لديها، لأنها لا تعترف بالفواتير وبالإجراءات الصادرة من غزّة، ويُعلّق "كلّ ذلك فقط لأجل أن يعمل المصنع أو الشركة في الضفّة ويسوّق منتجاته هناك". وهكذا، وجد أصحاب مصانع الأغذية المُصنّعة في غزّة أنفسَهم أمام تحوّل ٍغير مفهوم من جهة السلطة الفلسطينية، فلا "هدف خلف كل هذا التعقيد، سوى عدم الرغبة في تسهيل أو دعم مشاريعهم"، كما يقولون. 

يُضاف ذلك إلى إجراءات العرقلة المعقّدة جداً، التي يفرضها الاحتلال لأجل السماح بتسويق منتج ما خارج غزة، وما يترافق من عدم وضوح وعمومية بالغة في بعض ما ينشره من إجراءات وتعليمات تخصّ هذا المجال. إثر ذلك، تخلّى كثير من أصحاب مصانع الأغذية المصنّعة في غزّة، وغيرهم من المصانع، عن فكرة تسويق منتجاتِهم في الضفّة، خاصةً بالنظر إلى ارتفاع أسعار المواد الخام، والخسائر المتتالية بفعل الحروب، ونقص الإمكانيات اللوجستية بسبب ضعف إمداد الكهرباء. وهو الأمر الذي ينعكس في نهاية المطاف على حالة البطالة في غزّة، والتي وصل عدد العاطلين عن العمل فيها بعد 15 عاماً من الحصار إلى أكثر من 46%، فيما تزايدت معدلات البطالة بين الشباب إلى أكثر من 62%. 

اقرؤوا المزيد: غزّة والصيد المُلغّم.. هكذا نُحاصر في بحرنا. 

لا يمكن قراءة سياسات المنع التي يخنق الاحتلالُ غزّة بها، سوى من المنظور الواضح: أنّها تهدف لتدفيع عموم الناس ثمن خياراتهم النضاليّة واحتضانهم لحالة المقاومة. وأمام ذلك، تُعلّق رغبات وخطّط أصحاب المصانع في غزّة، وأرزاق آلاف العمّال والعائلات، على حواجز مختلفة: بدءاً من سياسات الاحتلال الذي يحكم قبضته على منافذ القطاع من جهة، وصولاً إلى تنكر السلطة الفلسطينية لمسؤولياتها ومساهمتها في كثير من الأحيان في زيادة العراقيل الإسرائيلية. 

وأخيراً فإنّ جانباً من المسؤولية يقع على عاتق حكومة غزّة، خاصّةً فيما يتعلق بضرورة وجود آليات لحماية المنتجات المحليّة، إثر حالة إغراق السوق بمنتجات مستوردة مشابهة ومنافسة، وعدم تقديم حوافز بتخفيض الضرائب المفروضة على المواد الخام وغيره من متطلبات الصناعة الأوليّة.