23 نوفمبر 2019

عمّال الضفة في الداخل

"الناس بتشتغل عشان تتزوّج، احنا منتزوّج عشان نشتغل"

"الناس بتشتغل عشان تتزوّج، احنا منتزوّج عشان نشتغل"

هناكَ رجلٌ واحدٌ في مركز الصورة يحملق في عدسةِ الكاميرا من بين عشراتِ العمَّال المحتشدين في ممرٍّ ضيِّق على حاجزٍ عسكريّ إسرائيليّ قرب بيت لحم، جنوب الضّفة الغربيّة. نُشرَت هذه الصورة قبل عامٍ تقريباً ضمن قصَّةٍ صحفيَّة عنوانها: "هي ليست حياة". وكما نعلم غالباً، فإنّ السيناريوهات المحتملة لحياةِ هذا الرَّجل، التي ليست كالحياة، محدودة.

مع ذلك، إلا أنّ هذا الرَّجلُ يُعدُّ "محظوظاً" لأنَّه سيعبرُ الحاجز، أو ربَّما لن يفعل اليوم بالذات، ولكنْ مجرَّد أنَّ يقفَ في هذا الصفّ المزدحم الخانق، لعدة ساعات منذ الفجر، يعني أنَّ لديه تصريحاً، مثله مثل  93 ألفَ عاملٍ وعاملة من الفلسطينيين الذين يشتغلون داخل الأراضي المحتلّة عام 48.1يتعلق هذا الرقم بالعام 2018، وفقاً لجهاز الإحصاء المركزيّ الفلسطينيّ، وصل عدد العمال الفلسطينيين في المستوطنات في الضّفة وفي أراضي الـ48، خلال الربع الأخير من عام 2018: 131 ألف عامل، منهم 71% يحملون تصاريح إسرائيليّة.  لكن كيفَ حصلَ على هذه البطاقةِ الذهبيَّة التي تخوّله لعبور الحاجز؟

هناك احتمالاتٌ هنا أيضاً، لا شأنَ للحظِّ بها. يدفعُ العمَّال آلاف الشواكل لسماسرةٍ فلسطينيّين، وللمقاولين الإسرائيليِّين، ليجدوا فرصتهم في العمل، غالباً في ورشاتِ البناء والمنشآت الصناعيَّة، ويدفعوا المزيد لسلَّة الخدمات الاجتماعيَّة الإسرائيليَّة، التي لا تعودُ عليهم بأيّ نفع، كما يدفعون بدل الاشتراك في "الهستدروت"، أي الاتّحاد العام لنقابات العمَّال الإسرائيليَّة، والذي لا يقوم بالحدّ الأدنى من مسؤوليَّاته اتجاه العمَّال الفلسطينيِّين، ثمَّ تنهبُ شركاتُ التشغيل الإسرائيليَّة أتعابَ العمَّال بعد سنوات.

السماسرة

جلسَ محمد العطاونة، سكرتير في الاتحاد العام لنقابات عمَّال فلسطين، عام 2016 مع صحفيّ من وكالةِ معاً، وقاما بحسبة بسيطة -على نفس القعدة- ليجدا أنَّ مجموع ما يدفعه العمَّال للسماسرة شهريّاً يصل إلى 150 مليون شيكل (أكثر من 43 مليون دولار)، وذكر العطاونة حينها أنَّ الاتحاد طالب بمحاسبة السماسرة على استغلالهم، ولكن لم يتحقق ذلك بعد.

وفي آواخر الشّهر الماضي، صرّح وزير هيئة الشؤون المدنيَّة، حسين الشيخ، أنَّ حرباً مفتوحة للقبض على سماسرة التصاريح قد بدأت- مجدداً- لأنَّ السماسرة مجموعة مشبوهة ومأجورة وتستغل حاجات الناس مقابل المال، على حدِّ قوله.

في السياق ذاته، أعلنت سلطة النقد الفلسطينيَّة، في سبتمبر/أيلول 2018، أنَّ أجور العمَّال الفلسطينيّين ستُحوَّل عبر المصارف الفلسطينيَّة، عوضاً عن أن يتلقوْها نقداً من المشغِّل مباشرةً، لكنَّ ذلك سيُطبَّق على العمَّال من حملةِ التصاريح فقط. سيساهمُ هذا القرار في تخلّص السلطة من فائض عملة الشيكل، وستستفيدُ المصارف من الرُّسوم الناتجة عن إدارتها آلافَ الحسابات الجديدة، بينما سيحمي العامل أتعابه، ومقابل ذلك كلّه، سيصبح من الأسهل على السُّلطة الفلسطينيَّة أن تفرض الضرائب على هؤلاء العمَّال.

رجال في شمس الضفّة

عودةً للعاملِ في الصّورة، ماذا لو تحقق الكابوس، وخسرَ تصريحَ العمل؟ سينضمّ إذاً إلى عشراتِ آلاف الفلسطينيِّين الذين يعملون دون تصاريح، ولن يبقى أمامه أيّ خياراتٍ سوى "التهريب". قد يبدو التهريبُ كمجموعةٍ من الرِّجال يركضون في أرضٍ قاحلة جنوب بلدةِ الظاهريَّة، بين سياجيْن فيهما فتحةٌ تتسِّع لإنسانٍ واحد، يحملونَ حقائبَ صغيرة على ظهورهم. أقدامهم وأعينهم مصوَّبة نحو نقطةٍ آمنةٍ على الجانبِ الآخر، خوفاً من أن تمرَّ مركبةٌ عسكريَّة إسرائيليَّة ويتمّ اعتقالهم جميعاً. أو قد يبدو التهريبُ كتسلّقِ سلالمٍ للقفزِ عن جدارٍ ارتفاعه ثمانية أمتار، أو كعاملٍ حبسَ أنفاسَه في صندوق سيَّارة خلفيّ، ضامّاً ساقيْه على صدره لساعات. 

إمَّا ركضاً، زحفاً، قفزاً، اختباءً، المهمّ أنَّه سيمرّ، وسيجدُ مشغِّلاً سيستغلُّ عملَه دون أيِّ تبعاتٍ تُذكَر، ولأنَّه لن يستطيعَ المخاطرةَ بالدّخول والخروج يوميّاً، ولا أن يدفعَ للمهرِّبين والسائقين كلّ يوم، سينامُ في الورشة.

يقولُ عادل، عاملٌ عشرينيٌّ من بلدةٍ غربَ رام الله، إنَّه اضطر لخوضِ رحلِ التهريبِ هذه لمدّة أربع سنوات، وكان في الغالبِ يأخذُ الطريقَ الأولى، ركضاً بين السياجيْن قرب الظاهريَّة. يظنُّ أنَّه محظوظٌ لأنَّ قوات حرس الحدود الإسرائيليَّة لم تُلقِ القبضَ عليه ولا مرَّة، وهذا يعني أنَّه استطاعَ الإفلاتَ من رعبِ الاعتقال، أو من عقابٍ فوريٍّ يصفه عادل: "أيّ شخص كانوا يمسكوه، يضلوا يضربوه لحدّ ما يبطّل يقدر يوقّف على رجليه".

خلال تلك السنوات، عمل عادل في ورشةِ بناءٍ قربَ مدينةِ الرملة وقضى لياليه فيها. بعد 12 ساعة من العمل الشاق يومياً، يبحثُ هو وعمّالٌ آخرون عن فراشٍ في الطرقاتِ، قد رماه أحدٌ ما، ليناموا. ثمَّ أصبحت الأمور أسوأ. انتهى العملُ في الورشةِ في الرَّملة، فانتقل عادل إلى ورشةٍ في بلدة ملَبِّس المهجرة، التي أُقيمت عليها مستوطنة بتاج تيكفاه، ولم يكنْ هناك متسَّع للعمّال ليناموا فيها؛ "أحكيلِك النوم وين كان؟ بجبل، بحرش، على الأرض، بدون بطانيات، ولا فراش".

عادل، وأبوه الذي يعملُ في ورشاتِ البناء أيضاً، كانا يقضيان شهريْن أو ثلاثة بعيداً عن بيتهما في القرية. لم يكنْ قد أتمّ من العمرِ اثنين وعشرين عاماً، حين تمَّ إجراءُ تعديلٍ على قوانين تصاريح العمل الإسرائيليّة عام 2015، وتم وفقها تغيَّر السنّ القانونيّ لاستصدار التصاريح للمتزوجين من 26 إلى 22 عاماً.

إذاً، يشترطُ الاحتلالُ أنْ يكونَ العامل متزوّجاً، وقد تخطى سنّ الـ22 عاماً، ولا يسري عليه أيُّ منعٍ أمنيّ، ليحصلَ على تصريحِ عملٍ قانونيّ. "بتتوقعي كم أخذ معي وقت لحتى خطبت؟"، لم ينتظر عادل طويلاً، وتزوَّج حال تغيير القانون. يقول: "بعد التَّصريح، حسّيت حالي إنسان".

أهمّ ما تغيَّر في حياةِ عادل، بالنسبة له، هو عودتُه إلى سفرةِ والدته، التي غابَ عنها طويلاً ولم يذُق طعمها سوى مراتٍ معدودة خلال العام، وامتلأت معدته عن آخرها بالمعلَّبات في الورشة.

ليس من السَّهل على العمّال اللّجوء للزواج لتمكينهم من الحصول على تصاريح عمل، وهناكَ من يستغلّ ذلك. يقول عادل إنَّه سمعَ مراراً عن أشخاصٍ يبيعون تصاريح تتضمَّن عقودَ زواجٍ مزيَّفة، وهذا أمرٌ مطروح في العديدِ من القرى، ويتداوله العديدون، مع تفاصيل متفرِّقة حول كلفةِ هذه العقود، التي قد تصل إلى 13 ألف شيكل (3690 دولاراً أميركيّاً)، ولكن لم يكن عادل، ولا غيره من العمّال الذين قابلناهم، على استعدادٍ لمشاركةِ أيّ معلوماتٍ تتعلَّق بهذه القضيَّة، خوفاً من فقد تصاريحهم. تماماً كما كان من المحرج مشاركة قصصهم حول الاضطرار للزواج في سنٍّ مبكّرة، من أجل الأسبابِ ذاتها. لكن أحد العمال، في "فضفضة" سريعة على قناته على موقع "يوتيوب"، لخّص القصة بالقول: "الشاب فينا بده يشتغل في إسرائيل عشان يتزوج، وإسرائيل بسلامتها بتعطيش تصريح إلا للي متزوج، هات حلّها".

رقعة التأثير

ارتفع عدد العاملين في "إسرائيل" من 121 ألف عامل إلى 131 ألفاً خلال العام الماضي فقط، إضافةً إلى زيادةٍ كبيرة نسبتها 59% في عدد العاملين داخل المستوطنات، وفقاً لمقارنةٍ بين تقريريْ الإحصاء للربع الأول لعام 2018، والربع الرابع للعام ذاته، ما يعني أنَّ الاحتلال يشجّع زيادة هؤلاء العمَّال، ولا يمانع تقديم تسهيلاتٍ من وقتٍ لآخر.

وغالباً ما يسحبُ أرباب العمل التصاريح من هؤلاء الذين يبدون أيَّ معارضة اتجاه انتهاكاتِ الشركاتِ والمصانع الإسرائيليَّة. إضافةً إلى أنَّ التصاريحَ تشكّل أداةَ ضبطٍ للعامل نفسه، وللشعب الفلسطينيّ بأكمله، فكلّما تصاعد العمل المقاوم، يلغي الاحتلالُ عدداً من التصاريح كعقوبةٍ جماعيَّة. ضمن مادةٍ نُشرتْ على متراس، يستعرضُ كاتبها باسل رزق الله عدَّة أمثلة على ذلك، أحدها يتمثل في سحب الاحتلال 1000 تصريح عمل من أفرادِ عائلة أبو عرام من يطا- الخليل، بعد تنفيذ إسماعيل أبو عرام عمليَّة طعنٍ ضدّ مستوطن. 

أنْ يصبحَ ألفٌ عاطلين عن العمل، يعني أنَّ الاحتلالَ يفتعلُ موقفاً يُلام به إسماعيل على فعلِه المقاوِم، ويعزله واضعاً على كتفيه مسؤوليَّة لقمة العيش الثقيلة، أمام كلِّ أبناءِ عائلته، ما يهدفُ بالمحصِّلة لردعِ الفلسطينيِّين عن المقاومة، أو عن تشكيل حاضنةٍ اجتماعيَّةٍ للمقاومين.

كلُّ ذلك ليس مجرَّد مشاهد صعبة، إنَّما مجتمعٌ جديدٌ يتشكَّل ويؤثِّر على الحياةِ في عشراتِ القرى والبلدات الفلسطينيَّة، حيث العملُ في المدن المحتلة عام 1948 هو الخيار الأرجح للشباب حال إنهائهم امتحاناتِ الثانويَّة العامَّة، حتى لو عنى ذلك تكبَّد عناء التصاريح والتهريب والتعرَّض للاستغلال وإهمالِ إجراءات السلامة، وانتهاء الحياةِ- التي ليست كالحياة- بخبرٍ قصيرٍ تكرَّر 68 مرَّةً خلال العام: "وفاة عاملٍ في حادثِ عملٍ بالداخل إثر سقوطه عن علوّ".