23 سبتمبر 2023

المصانع تبلع ما تبقى من أراضي ترقوميا

<strong>المصانع تبلع ما تبقى من أراضي ترقوميا</strong>

تقع بلدة ترقوميا، إلى الغرب من مدينة الخليل، وتبلغ مساحتها ما يقارب 21 ألف دونمٍ، سُرق منها حوالي ألفي دونم لصالح المستوطنات القريبة (تيلم وأدورا). إلى وقتٍ قريب كانت الغالبية العظمى من سكان القرية تعتمد على الزراعة مصدراً للرزق، إلا أن العمران زحف على الكثير من الأراضي الزراعيّة في البلدة، وتحوّل الكثيرون للعمل في الأراضي المحتلة عام 1948.

عدا عن الزحف العمرانيّ نتيجة زيادة عدد السكان، فإن زحف المصانع في منطقة وادي القلمون يُهدد نسيج البلدة وما تبقى من طابعها القروي، إذ بُني فوقها عدد من المصانع، ضمن خطّة أكبر لإنشاء منطقة صناعيّة فلسطينيّة، باستثمارات وجهود دوليّة ومحليّة، باسم "منطقة ترقوميا الصناعية".

اقرؤوا المزيد: "لعلم اشتية: مصانع الضفة تفتح أبوابها للاحتلال".

تضع هذه الخطة مصالح رجال الأعمال وكبرى الشركات والمصانع الفلسطينية كأولوية على التطوير الزراعي لتلك الأراضي في ترقوميا، وعلى حقوق الناس في أراضيهم الخاصّة. وتتلخص مصالح تلك الشركات في كون ترقوميا الأقرب إلى الخطّ الأخضر، وعلى أراضيها يقع حاجز ترقوميا العسكريّ التجاريّ، أحد أبرز منافذ نقل البضائع من وإلى الضفة الغربيّة، مما يوفّر على المصانع تكاليف النقل من مسافاتٍ بعيدة، ويسهّل عملية التجارة، خاصة إذا كانت تلك المصانع مشتركة في برنامج (المنسق) المسمّى "باب لباب".

منظر عام لوادي القلمون وتظهر فيه بعض المصانع وقد تسللت إلى الأراضي الزراعية وبين البيوت. عدسة: مؤيد طنينة.
منظر عام لوادي القلمون وتظهر فيه بعض المصانع وقد تسللت إلى الأراضي الزراعية وبين البيوت. عدسة: مؤيد طنينة.

القصة من البداية

بدأ الحديث عن بناء منطقةٍ صناعيّة في ترقوميا عام 2007، وذلك بعد توقيع اتفاقٍ ثلاثيّ في العاصمة التركية أنقرة، بحضور الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، ورئيس دولة الاحتلال آنذاك شمعون بيرس، والرئيس التركي آنذاك عبد الله غول. 

قضى الاتفاق بإنشاء منطقة صناعيّة فلسطينيّة إسرائيليّة مشتركة في ترقوميا بمشاركة مستثمرين من تركيا ومن مناطق أخرى حول العالم، وهو المشروع الذي قال عنه خالد العسيلي، رئيس بلدية الخليل آنذاك، ووزير الاقتصاد لاحقاً، إنّه مشروع "لا يعترف بالحدود بين الدول". 

من جهةٍ أخرى، صرح وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك في فترة قريبة من تاريخ توقيع الاتفاق قائلاً: "نعمل سوياً مع سلام فياض في إطار مشاريع اقتصادية مثل المنطقة الصناعية في ترقوميا".

كان أول المصانع التي أنشئت في المنطقة، مصنع للباطون، وذلك قبل الاتفاق بسنة. يقول الناشط المجتمعي في ترقوميا، وخبير التنمية المحلية لؤي قباجة: "من لحظة بناء أول مصنع في العام 2006، وأنا أحاول بكل الطرق إيقاف بيع الأراضي، دون تجاوب فعليّ من المسؤولين في البلدية". 

الزيارة الأولى لخالد العسيلي كوزير للاقتصاد للمنطقة رفقة محافظ الخليل وطاقم هيئة تشجيع الاستثمار، في أيار 2019.

ويُضيف: "رئيس البلدية في ذلك الوقت حرَض الناس على رفع أسعار الأراضي طريقة لمنع بيعها وإبعاد المصانع، إلا أنّ رجال الأعمال كسبوا الرهان، مستغلين حاجة الناس للمال، فدفعوا أضعاف الأسعار الطبيعية للأراضي، وبدأت المصانع بالانتشار".

وهكذا شيئاًَ فشيئاً بدأ توسع بناء المصانع على حساب الأراضي الزراعيّة وبعض المنازل في ترقوميا. في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2012 افتتح وزير الاقتصاد الوطني جواد ناجي، 3 مصانع بقيمة 18 مليون دولار في منطقة ترقوميا الصناعية، وظلّت السلطة تروج للمنطقة بهدف جذب المستثمرين من الدول المانحة. ثمّ جاءت دفعة أخرى للتقدم بالمشروع عام 2018، بعدما وقع صندوق الاستثمار الفلسطيني ووزارة الاقتصاد الوطني، عقد امتياز مدينة ترقوميا الصناعية، بتكلفة 160 مليون دولار.

منطقتان صناعيتان لا واحدة!

وبينما تكبر منطقة ترقوميا الصناعية شيئاً فشيئاً، نمت بالقرب منها، وعلى بعد ما يقارب الكيلومتر الواحد، منطقة صناعية أخرى تسمّى منطقة جمرورة الصناعية. (هامش: جمرورة:  هي خربة تقع شمال غرب ترقوميا، مساحتها 3784 دونم، منها 400 دونم لترقوميا، وتشترك بلديات بيت كاحل وبيت أولا وتفوح في ملكيتها، ويسيطر على جزء من أراضيها، الكسارة الإسرائيلية، وهي أراضٍ زراعية. ) تضم هذه المنطقة عشرات المصانع، وقد صدر بخصوصها في الأول يوليو/تموز 2019 قرارٌ من مجلس الوزراء باعتبارها منطقة صناعية خاصة.

ورغم الأمر الواقع، ورغم قرار مجلس الوزراء، فإنّ كثيراً من الأراضي هناك ما زالت بملكية خاصة، وما بيع منها أقيمت عليها مصانع بدون تراخيص واضحة. يقول بهجت جبارين، المدير الحالي لسلطة جودة البيئة في بيت لحم، والذي كان سابقاً مديراً للسلطة في الخليل، "المنطقة (قاصداً المنطقة الصناعية في جمرورة) مصنفة عالية القيمة الزراعية، وغالبية المصانع لم تأخذ تراخيص سوى مصنع أو مصنعين". وبحسب جبارين، فإن الإدارة السيئة من البلديات، أوصلت للمصانع ماء وكهرباء، مما ساهم في ترخيصها، وأن أصحاب المصانع يضغطون بهذه الطريقة على الحكومة للتعامل مع وجودهم بمنطق الأمر الواقع.

ويقول العضو السابق لبلدية ترقوميا -لمدة 15 عاماً- فخري طنينة، إن عملية بناء المصانع كانت تتم بشكل تدريجي مدروس ومخطط، تبدأ "ببركسات" صغيرة، وبعد أن يأخذ المصنع الترخيص من البلدية يتمدد. وعن إمداد المصانع بالماء والكهرباء، يوعز طنينة السبب إلى  أن البلدية تريد بهذا فرض سيادتها الأراضي بسبب النزاع بينها وبلدية بيت أولا على الأراضي، خاصةً أن بيت أولا يمكنها أن تعطي هذه المصانع ما تريده وبذلك تفقد ترقوميا سيادتها على أرضها، بحسب طنينة.

المصنع أهم من بيت يأوي الأولاد!

منتصف تموز/ يوليو 2019، قدّم محمد فطافطة، الذي يملك أرضاً مساحتها 18 دونماً في منطقة جمرورة،  اعتراضاً لدى وزارة الحكم المحلي على قرار مجلس الوزراء باعتبار المنطقة صناعية. يقول: "هذه أرض زراعية، لماذا يريدون بناء مصانع عليها؟".  حتى اللحظة لم يصله رد، لكنه يقول: "سيكون للعائلة كلام آخر إذا تم التعدي على الأرض". 

أما إبراهيم طنينة (35 عاماً) فقد اضطر لبيع أرضه وبيته بسبب هذا التمدد الصناعي. يقول إنه بدأ ببناء بيته عام 2006 وسكنه بعد زواجه عام 2013. بدأت شركة لتشكيل المعادن ببناء مصنعها بالقرب من بيت طنينة عام 2014، ثمّ جاء ممثلون عن أصحاب المصنع، بعرض مالي لشراء الأرض في محيط المنزل، وهو ما رفضه إبراهيم في ذلك الوقت.

"كانت الحفريات في محيط المنزل متواصلة، متجاهلين الحدود بيني وبينهم، وكأن رفض بيعي الأرض أعطاهم الرخصة للاستيلاء عليها". كما يروي طنينة. توجه إبراهيم للمسؤولين أكثر من مرة، للتوقف عن التوسع هذا، وفي كل مرة تتم المماطلة، بكلمات مختلفة. 

"بدأت جدران المنزل بالتشقق جراء الحفر والبئر باب المنزل تدمر، فكرت بالذهاب للمحاكم، كنت أقول أن الأمر سيطول ولن أحصل على حقي، بالنهاية قررت بيع المنزل"، بحرقة قالها. وبحسب إبراهيم، فإن أصحاب المصانع تعمدوا تقديم عرض مالي منخفض، حوالي 100 ألف دينار، لأنهم يعلمون بأني سأبيع لا محالة". 

الحكومة.. بابا حاضر غايب

أما عبد الناصر إغريب، فلا يبتعد بيته سوى أمتار قليلة عن مصنع للخشب، يقيم في منزله منذ عام 2013، "منزلي مرخص زراعي وليس سكني، لأن هذه المنطقة غير صالحة لأمر آخر غير الزراعة، كما أخبرتني البلدية". بدأ إغريب، برفع الشكاوى منذ البداية، قدّم شكوى ضد مصنع الخشب، ردت البلدية الشكوى بدعوى أن هذا مستودع وليس مصنع. الشكوى الأخرى بعدها بسنوات لوزارة العمل، بسبب تواصل العمل في المصنع ليلاً نهاراً، فيأتي وفد من الوزارة للتفتيش، بعد أن "تُبلغ الوزارة أصحاب المصنع بقدومها، بالتالي يرتبوا أمورهم أنه لا عمل ليلاً هذا اليوم، وأظهر أني كاذب، بالتالي لا يتم التعامل مع شكواي"، كما يقول. "هم يريدون ترحيلي من منزلي بالضجيج والضرر، ولكن أنا إذا رحلت، ما الذي سيحصل ببقية الناس؟".

في السياق ذاته، يقول الناشط لؤي قباجة، إنه يتعرض للضغط من الأجهزة الأمنية الفلسطينية لوقوفه في وجه توسع المصانع، وكانت في كل مرة تلصق له تهمة أنه يعمل لجهات هدفها "زعزعة الأمن في الضفّة"، وذلك لمناصرته لقائمة الإصلاح، المحسوبة على حركة "حماس"،  في الانتخابات المحلية لبلدية ترقوميا 2005.

ويروي قباجة أنه في العام الماضي (2022)، أنجزت طالبة إعلام تحقيقاً صحفياً عن الأضرار الصحية الناجمة عن المصانع في تلك المنطقة، وخلال عملية التقصي، طالبها أشخاص من الأجهزة الأمنية بالابتعاد عنه وعن المعلومات التي يُقدّمها بدافع "النصيحة".  

"الكلمة لرؤوس الأموال"

وبينما الأمور كذلك، تحاول مؤسسات السلطة تقديم مخطط هيكليّ للمدينة الصناعية في ترقوميا، لتذليل العقبات أمام أصحاب المصانع والمستثمرين، كما عيّنت مديراً للمدينة الصناعية ليتحدث عنها أمام المستثمرين بهدف جلب التمويل. 

بالتوازي مع ذلك، لا تتوقف عروض شراء الأراضي من أصحاب المصانع للمُلاك الأصليين للأراضي سواء في ترقوميا أو جمرورة، إلا أن الغالبية ما زالت ترفض ذلك وما زالت صامدة في وجه التوسع الصناعي. 

ومن نجح في شراء أرض من أصحاب المصانع فإنه يعمد إلى التحايل على مجالس البلدية المُتعاقبة، فبعضهم مثلاً يُقدّم طلباً ترخيص مصنع على مساحة ألف مترٍ مثلاً، ثم يبنيه على مساحة ألفين وخمسمئة مترٍ. 

وهو ما صرح به مثلاً أكرم شاور، صاحب أحد الشركات والمصانع القائمة في ترقوميا، في لقاء تلفزيوني بتاريخ 3 أغسطس/آب 2019، عندما قال: "شرينا الأرض قبل خمس سنوات، وبدأنا العمل فيها البنية التحتية، اجتنا وزارة الحكم المحلي، وخبرتنا إنه هاي أرض خضراء وممنوع البناء فيها، كنا شاريين الأرض وعاملين البنية التحتية كاملةً، واحنا كملنا وما ردينا عليهم".

يلخّص فخري طنينة: "الحكومة أقرت منطقة صناعية خاصّة، ولكنها لا تمتلك كل الأراضي ضمن المخطط، كيف للحكومة أن تقر منطقة صناعية خاصة وهي لا تملك كل الأراضي هناك؟". ثم يقول: "الكلمة العليا في هذه البلاد لرؤوس الأموال وليس للحكومة أو أي أحد آخر".



19 أبريل 2021
البكاء على أطلال الحارة

حتّى تَصِفَ المكانَ الضيّقَ الذي نشأتَ فيه، عليك أن تستخدم كلمة "الحارة"، فهي أصدقُ تعبيراً من كلمتي الحيّ أو المنطقة.…