21 فبراير 2023

شيءٌ لا يذهب: هوامش على قصص كنفاني القصيرة

شيءٌ لا يذهب: هوامش على قصص كنفاني القصيرة

ما يلي دهليز متعرّج يُفضي بنهايته لتجربة في قراءة قصص كنفاني القصيرة. أول الدهليز رأيٌ في النقد، وأوسطه كلام في القصة القصيرة، وآخره بيان عمّا نحاول أن نفعله. ثمّ نختم بهامش عن استحالة نجاحنا فيما نحاول أن نفعله، ولماذا نحاول –رغم ذلك- أن نفعله.

عنوان السلسلة مستعار من قصة لكنفاني أنجزها في مطلع مسيرته بدمشق؛ مسيرتِه التي أتمّت الآن نصف قرن وما زالت -كأشياء قصته- عصيّة على الذهاب.

ماذا حلّ بالنقد؟ رثاءٌ على هيئة شتيمة

·      هل يمكن للحنَك أن ينكسر تثاؤباً؟ هذا هاجسي كلما أمسكتُ كتابا في النقد الأدبي واستجمعت شجاعتي لفتح دفّتيه. أبالغ طبعاً، فأحناك البشر لا تنكسر بهذه السهولة. لكن ليس من مبالغة في فداحة السأم الذي يأتي به أكثر النقد المعاصر. لم يكن الأمر دوماً كذلك. تُمسِك "رسالة الغفران" وتقلّبها بين يديك، وسريعاً تدرك أن كثيراً من هذه المعلقة النثرية عملٌ في النقد الأدبي. يبدو أبو العلاء المعرّي كيميائياً أحياناً، وخياطاً أحياناً أخرى، ويَبقى بينهما شاعراً على الدوام: يسكب أدباً على أدب، ويشعل ناراً تحتهما ويقاطع إرث سابقيه بخيوط موهبته، ويَحيكُ من بينهما شيئاً يُغري بالطرب. ماذا حصل من وقتها؟ يصعب الجزم، لكن قناعتي أن الثورة العلمية لعبت دوراً أساسيّاً في قتل النقد، وتواطَأ فيها علماء الطبيعة والرياضيات لتخريب واحدةٍ من أجَلّ فنون الإنسان؛ النقد الأدبي. أحدّق في نصٍّ لناقد عربي بارز عن رواية معاصرة، وأتساءل –بعيون ناعسة- عما يحاول الرجل أن يفعله. لا أتحدث عما يحاول أن يقوله (فهذا ثانوي)، وإنما عما يحاول أن يفعله، فهذا أهم بكثير. وأجد نفسي غالباً ما أصل إلى نفس الاستنتاج؛ أنه يُعلمن الأدب، لا بمعنى العَلمانية المشتقة من العَالَم، وإنما العِلمانية المشتقة من العِلم. لكن لماذا؟ لماذا يفعل ذلك؟ ليست هذه "اللماذا" من باب السؤال، فهي لِمَاذةٌ كَذوب، وقائلها مطمئنٌ لجوابها. لقد هزّ النجاح المدوّي للعلوم الطبيعية كيانَ الإنسان، وكما تُقلِّد الأمم المغلوبة أممَها الغالبة، أخذت الفنون والصنائع تقلّد الصنعة الغالبة، وصار لدينا نماذج نقدية ومناهج تحليلية، ولم تعد تجزم تماماً إن كان ما تقرأه نقداً أدبياً أم تحليلاً ميكانيكياً لمسألة في الفيزياء الحركية. ثم أتت الرياضيات طبعاً، وصار لدينا نقد حسابيّ، يعدّ الكلمات ويقارن نسبها ويُجدول تعدادها ظناً من الناقد أنه أصبح بذلك خوارزميَّ الأدب، وابنَ هيثمِ الرواية. لا نمارس هذا التهكم إلا بحذر، ففي نيّتنا أن نعود لابن الهيثم كثيراً فيما نكتبه هنا.

·       قيل في الأدب قديماً إنّه الشيء الذي يقول أشياءً لا تقال إلا صمتاً. وأذكر أنّي قرأت العبارة صغيراً وأعياني فهم المقصود. ولليوم، لا أعرف تماماً كيف يمكن للمرء أن يَشرح عبارةً كهذه ولو لنفسه، فهي تحمل شيئاً من جنس الأدبِ الذي تحكي عنه، وتبدو وكأنها تضرب بنفسها مثلاً وتحاول -هي الأخرى- أن تقول شيئاً لا يقالُ إلا صمتاً. لست أدري، لربما أن العبارة تحكي عن إرهاف المعنى الذي يطلبه الأدب؛ إرهافٌ يجعل قول المعنى مستحيلاً بأي طريقة أخرى، أنه لا يُلخَّص ولا يُبسَّط ولا تُعاد صياغته إلا وقد مات شيءٌ فيه. ولو كانت ملخصات الروايات تحكي فعلاً ما تحكيه الروايات، فأيُّ هدرٍ مؤسف للورق ستكونُه الآداب كلها. هناك شيءٌ مرهف يشي به الفنّ دون أن ينطق به. أتخيل الأديب –في معركته صوب هذا المرهف الدقيق- كمن يستخدم قلماً مبرياً لا ليكتب نصاً، بل ليُخرج رمشاً من عين طفل. ليس الخوف طبعاً أن يتوه عن الرمش فلا يجده، ولكن أن يفقأ عين الصبي. وقناعتي أن الأديب يصل دوماً لمبتغاه، لكنه يفشل غالباً عندما يأتي ليمسك بالمبتغى، فيتكسّر في يديه. ويصعب عليك أن تلومه. يحصل في الصباحات الباردة أن يتجمّد الندى على الورق وبتلات الزهور. وهذا الصنف من الجليد هو الأقرب بذهني لمبتغى الأديب؛ كيف تمسك ندىً منجمداً كهذا دون أن ينكسرَ أو يذوب على أصابعك؟ ومن هو الأديب الحق في النهاية إلا هذا: من يمسك للناس أشياءً لم يتخيلوا يوماً أن لها مَمسكاً أو سبيلا.

·       من يدرك الأدب بهذا النوع من الحساسية سيجد في النقد المعلمن ضيفاً ثقيلا على القراءة؛ ضجيجاً يحفّ محاولة مرهفة لقول شيءٍ لا يقال إلا صمتاً، وَضَوءاً ساطعاً يريد صاحبه أن يرى به شعاعاً خافتاً. كيف تأتي بمسطرة من حديد لتقيس بها شيئاً من صنف البخار والأثير؟

·       على مقلبٍ مضادٍ للنقد العلماني، نملك صنفاً آخر من النقد، يعرف حدود نفسه وطبيعةَ المادة التي يباشرها، ويدرك عبثية المساطر والمناقل أمام السديم الذي يحاول تلمّسه. نقدٌ لا يقارب مادته إلا بشيء يشبهها، ويحوِّل ممارسته تعميقاً للأدب الذي يتناوله. نقدٌ لا يُعرّي النص –تحت مسمى تفكيكه- ليحدّق في جسده ويرقّم جمالَه، بل يحادثه من خلف حجاب ويزيده إيحاءً.

·       أواخر القرن التاسع عشر، كتب صُعلوك المسرح الإنجليزي، أوسكار وايلد، حوارية متخيلة عن الناقد بوصفه فناناً، وسخِر ممن يجعلون النقد تحقيقاً جنائياً ويجهدون لكشف التناص والسرقات واتهام ذاك بالنقل عن هذا، وهذا بالنهب من ذاك. ورأى في النقد الحق أسمى الفنون على الإطلاق لأنه يسمح برؤية العنصر المخاتل السحري في العمل الأدبي؛ العنصر الذي –بتعبيره الملعوب- لا يستطيع الفنانُ أن يُعلّمَه، ولا يمكن للطالب أن يُقلّده، ووحدَه الناقد الحقّ من يقدر أن يُدركَه. 

عن القصة القصيرة

·       في عائلة الأدب الكبيرة، تظهر القصة القصيرة وكأنها بطّة سوداء؛ أخٌ أصغر أنجبته أمه على كِبَر وأتى بعاهة جسدية وتعلّم من يومها الانطواء. ينظر لإخوته الكبار، فيرى الشعر ديواناً للعرب، والمسرح أباً للفنون، والرواية ذروةً لآداب الشعوب. لا يُكرَّم كثيراً، فالأضواء مشغولة بأشقائه العمالقة. لكنه، بوقفته في آخر الصفّ ولزومه الزوايا واجتنابه الأضواء اكتسب خصالاً لا يكسبها إلا أولئك بالتحديد؛ اللازمون الزوايا وأواخر الصفوف، والمحبّون من الضوء أخفَتَه. صار واحداً من أولئك الذين تنشدّ لهم بلا سبب واضح، وتُدهَش بهم إذا عرفتهم، وتحبهم سريعاً. صار يشبه قصصه.

·       لمن لا يعرفونها تماماً، فالقصة القصيرة تبدو لهم روايةً موجزة. ولمن يعرفونها بالمقابل، فالقصة القصيرة لا هي قصةٌ ولا هي قصيرة. يقال إن همنغواي تحدى رفاقاً له أن يؤلّف قصة تبكيهم بشرط ألا تزيد عن ستّ كلمات. فكتب إعلاناً من سطرٍ واحد عن حذاءٍ للبيع يخصّ رضيعاً لم يلبَسه قطّ. في هذا الصنف من الأدب، لا يملك الكاتب وقتاً كثيراً. عليه أن يُركّب مقدحاً نارياً في بضع جُمَل، ويضمن اندلاع النار بصدر قارئه قبل نفاد السطور. على عكس البطل السينمائي الذي يبحث عن سلكٍ يقصه في قنبلة فيمنع انفجارها في الثانية الأخيرة، فإن أديب القصة القصيرة يواجه تحدياً أصعب بكثير: أن يأتي بشيءٍ عاديٍّ لا بارودَ فيه ولا أسلاك، ثم يجد فيه خيطاً لو قطعه لانفجر الشيء، وفقدَ عاديته للأبد. غوغول فعلها بمعطفٍ ممزّق.

·       إن ما يصنع الفارق بين الرواية والقصة القصيرة يتعلّق بطبيعة الإنسان وبحر الأمزجة التي يتقلّب فيها، وبسعة وعيه وحتى بحاجته للراحة والنوم. هذا كله يلوّن تجربة قارئ الرواية، فيعايش بدايتها بغير ما يلقى نهايتها، وتمتد في خياله على خطٍّ طويل. شامة القصة القصيرة هي وحدانيتها ورميُها بكل ما لديها في نافذة وعيٍ واحدة. ويحب خبراء هذا اللون من الأدب أن يردّدوا قولاً موحياً عن قصصهم: أنها لا تقال بأكثر مما قيلت، ولو زيدَ عليها لانفرط السحر. وقد كَتب مشعوذ القصص القصيرة، إدغار ألن پو، عن شيءٍ موازٍ من عالم الشعر، عندما قال بأن القصيدة إذا تجاوزت مائة بيتٍ تكسّرت تحت وزن نفسها، وانفرطت قصائدَ شتى.

بيان الغاية

·       ما سيَتلو هذا التمهيد سيكون تجربة مع أعمال كنفاني القصيرة. لن تتضمن التجارب دراسةً للأعمال ولا محاولة لتحليلها ولا تشريحها، وإنما للحديث معها.. للحديث مع إرث غسان. أبحث عن صورة أفضل لتوضيح الأمر فأجدني أقترب من حواف العلمنة التي ذممتها، وأوشِك أن أقترف الإثم الذي عِبتُه على غيري. في كتابه عن المناظر، يطرح ابن الهيثم مجموعة تجارب لفهم طبيعة الضوء، ويقترح لهذه الغاية غرفة معتمة توضَع فيها آنيةٌ ملوّنة أمام شعلة نار، ثم يدرس التقازيح التي ترتمي من خلفها، وكيف يلتئم فيها لونُ النار بلون الزجاج. وينبّه في شروط إجراء هذه التجارب ضرورة "ألا يشرقَ ضوءٌ قوي من جهة أخرى، بل يكون في ظلٍّ رقيق". على نحوٍ شبيهٍ وموازٍ، سنضع قصص غسان "في ظل رقيق" ثم نلعب بأوانٍ شتى أمامها، ونرى حينها كيف ينكسر الضوء، وأي ظل ترمي على الجدار. تبقى شفاعتي من هذه "العلمنة" الظاهرة أن الأواني التي سأستخدمها ذاتيّة بالكامل، وليس في تجاربنا سمة موضوعية أو علمية على الإطلاق. نحن لا نقترح هنا منهجاً دقيقاً في قراءة العمل الأدبي، وإنما مقاربة ذاتيّة ستُنتج أشياءً مختلفة باختلاف صاحب التجربة. هذا طلاقٌ بائنٌ مع العلم وكفرٌ حميدٌ بعقيدته.

·       إن أعمال غسان مَنجَم قصصي لرجل دفع حياته ثمناً لفكرة برأسه. وأُدرِكُ أن سدّ فوهة المنجم وتحويله مزاراً مسألةٌ مغرية، بل وتبدو صوناً لذكرى الرجل وإرثه. لكن التساؤل واجبٌ أيضاً، فأيهما أوفى حقاً للذكرى؛ أن نصنع مزاراً، أم أن نستخدم المنجمَ منجماً بحق، ونجر ما فيه من معادن وخامات للسطح، وأن نحاول صُنع شيءٍ بها؛ شيءٍ نصفُه منها ونصفه منا؟ ليست غايتي أن أقول شيئاً عن القصص، ولكن أن أقولَ شيئاً بها. والرهان الصعب هو أن ينجح هذا "القول بها" في أن يشيَ بالنهاية قولاً عنها. يمكن للمرء أن يقرأ كلاماً كثيراً عن العربية، تعداداً لمناقبها وخصالها. ويمكن له بالمقابل أن يقرأ قصيدة لأبي تمام أو خطبة لابن ساعدة، فيشعر بمناقب العربية شعوراً، وتشرق خصالُها فيه. هذه الثانية هي ما نريد.

هامش

·       يعاني بياننا السابق تخمةً في المجاز. الاعترافُ واجبٌ بهذا. ودون تملص من المسؤولية، فجزء من السبب يعود لطبيعة ما يحاول البيان قولَه، ولتحايله المستمر للبوح بشيء –هو الآخر- لا يقال إلا صمتاً. جزء آخر من السبب يعود لاستثنائية غسان كنفاني. يتحدثون في مضمار النقد عن "موت الكاتب"؛ عن ضرورة تنحية المؤلّف عن وجدانك عندما تواجه نصوصَه، وعن ضرورة إماتته بذهنك كلما قرأتَ له، فلا يتلوّث الأدبيُّ بالشخصي. لكنك أمام رجل كهذا تدرك كم هو صعب أن تُميت القتلى. لقد دُفع كنفاني دفعاً صوب عالَم الغيب، وبقدر هائل من العنف. يقال بأن يده وُجدت على سطح مبنى مجاور بعد أن حملها عصف الانفجار. أما الصبية التي ساقَها القدر لتكون جنبه بلحظتها فلم تملك أملاً بالنجاة. ماذا تفعل نهاياتٌ كهذه إلا أن تمنح أصحابها خلوداً وجدانياً وبقاءً مُزمناً في خيال الناس؟!

·       كيف تُنحّي كلّ هذا لتفتح حواراً مع نصّ أدبي؟ وحتى لو نحّيته، فكيف تحاور نصّاً قصصياً من الأساس؟ لقد تعكّزنا على صورٍ من مناظر ابن الهيثم في كسر الضوء وألاعيب اللون والظلال، ولكن كيف يُترجم هذا، عملياً، بالحبر والورق؟ إن مجازات كهذه ترفع طموح المرء وتُؤَمّله بمستوى من الوضوح لن تبلغه تجربتنا أبداً. وبهذا المعنى، فنجاحها مستحيل. ورغم ذلك، فلا أجد في الأمر مدعاةً للتردد. إن النزول بهذا المنجم الكنفانِيّ ليس تجربةً في قراءة أثر الرجل وحسب، بل كرامة وجدانية، وأقرب ما يبلغه إنسانٌ من الشهيد.. وأشيائه التي لا تذهب.

القصة الأولى: البومة التي حدقت في عين كنفاني.
ا
لقصة الثانية: يوم انطوى العالم في حذاء.
ا
لقصة الثالثة: لؤلؤ في الطريق: ما الذي كان كنفاني يبحثُ عنه؟
ا
لقصة الرابعة: الرجل الذي مات ولم يمت.