10 أبريل 2023

لؤلؤ في الطريق: ما الذي كان كنفاني يبحث عنه؟

لؤلؤ في الطريق: ما الذي كان كنفاني يبحث عنه؟

هذه سلسلة تسعى لقراءة إرث كنفاني في القصة القصيرة. وتبدأ كل حلقة بموجز للقصة المعنيّة، وتنتهي بهامشٍ يحاور النص ويحاول أن يكلّمه. وقد سبق السلسلةَ تمهيدٌ لمقاربتها وما تحاول أن تفعله. 

حكاية الحكاية

لؤلؤ في الطريق – [1958 / الكويت]

مجموعة أشخاص، يبدون متعبين ومنهكي الأرواح، يجتمعون لاحتفالٍ جافّ برأس السنة، وأمامهم شرفة تطل على لسان من لهب في الأفق البعيد لبئرٍ نفطي. يتقدم أحدهم فجأة، ويُدعى حسن، ليسرد قصةً كان طرفاً فيها. يَحكي عن صديق قديم له (سعد الدين) وقد أتى من بلدة بسيطة محاولاً أن يشقّ طريقه في هذه المدن الثرية ويذوق معنى النجاح. لا يحمل سعد مؤهلات تساعده، ولا ما يكفيه من شهادات. يحاول حسن أن يقنع صديقه الريفي أنه بلا أمل هنا، وأن مَرضَه القلبيّ المزمن لن يحتمل ضغط الحياة الخانق في مكان كهذا ولا قسوة العيش فيه. لكنّ سعد يرفض التراجع، ويخشى عيون الناس في بلدته إن عاد خائباً إليهم. 

ويمضي هكذا، إلى أن يوشك على الإفلاس، فيقرر أن يمارس مقامرة أخيرة قبل أن يستسلم ويعود، ويقول لصديقه حسن إنه يؤمن بأن خلف تلك السماء إلهاً ما، وأنه لا بدّ سينجح ولو في اللحظة الأخيرة. وينتهي الاثنان أمام بائع محّار بإحدى الأسواق، فيقرّر سعد أن ينفق ما تبقى معه لشرائها، إيماناً منه أن إحداها ستحمل لؤلؤةً تؤذِن بخلاصه. وتفشل محاولاتُ صديقه لتثبيطه وإقناعه بضآلة احتمال النجاح. تتم الصفقة، ويشرع البائع -بطلب من سعد- في شقّ أصداف المحارات. ويتصاعد التوتر، والمحارات تنجلي فارغة، واحدة تلو الأخرى، إلى أن يصل الدور على المحارة الأخيرة. حينها، يُثبّت حسن عينيه على وجه صديقه، ويرى الاضطراب الخانق الذي يستولي عليه، ثم يراه فجأة وقد سقط أرضاً ولفظ أنفاسه. يختفي البائع وسط ما حصل، ويظل حسن حائراً في ما كانت تلك المحارة الأخيرة تحمل داخلها، وهل مات سعد حسرةً لمّا رآها عاقراً، أم فرحاً عندما لمح درّةً فيها.

هامش

  • ليست هذه المرة الأولى التي ينثر فيها غسان لؤلؤاً في كتاباته ويستخدمه أداةً قصصية. بظاهره، يبدو اللؤلؤ كرة لمّاعة من الكلس يتقزح فيها الضوء وتخاطُ بها القلائد. لكن قيمته لا تنتهي هناك. في هذه الدرّة من الثقافة والتاريخ بقدر ما فيها من عالم الجواهر، ويندر لرمزٍ بهذا الصغر أن يتكوّر على كل تلك الدلالة. لا يعلم أحدٌ يقيناً –ولا حتى تخميناً- كم من البشر قضوا غوصاً لجوهرة البحر هذه، لكن المؤكد أن في ذمة اللؤلؤ أرواحاً بغير عدّ، وأنه فطر من القلوب أكثر بكثير مما زيّن من الصدور. قدرٌ كبير من القيمة يأتي من الندرة طبعاً، لكن الندرة هنا لا تشبه سواها. ليس هذا معدناً يُطلب في المناجم ومغارات الجبال، بل بدعة طبيعية تطرأ في المحار، ولا يُكشفُ عنها إلا بقتل الكائن الذي يحتويها وشَقِّ صدغيه. وحتى تكتمل مسرحية البحر هذه، فلن تجد بين آلاف المحارات إلا واحدة بلؤلؤة وازنة. ولهذا يدعوها غسان في قصته محقاً "يانصيب" البحر. ما أبلغها من تسمية. وإمعاناً في الفرادة لربما، لا يبدو في العربية شبيهٌ لبنية هذه الكلمة إلا في 3 أمثلة، إحداها البؤبؤ (وهو أصل الأشياء)، وإحداها الجُؤجؤ (وهو صدر الأشياء). لكن ها نحن نحكي عن اللؤلؤ أكثر مما نحكي عن النص، ولا أملك شفاعةً لنفسي بذلك إلا أن كاتبنا كثيراً ما يأتي لقصصه بأشياء مترعةٍ بالدلالة، فيحيل النص أكبر من حجمه ويقول بها أشياء من دون أن يقولها.
  •  كيف يموت غوّاصو اللؤلؤ. طرقٌ كثيرة طبعاً، لكن واحدة من أهمها هو عارضٌ يدعى داء الغوّاص، يحصل بصعود السبّاح لسطح الماء. ولاعتبارات حيوية تنشأ حينها مع تغيّر الضغط، تتخلّق فقاعات غازية في الأوردة تعيث خراباً في رئة الغواص وقلبه إلى أن تقتله. لعله ثأرٌ رمزي مترعٌ بالصدفة: لؤلؤٌ هوائي يجتاح الدم (على هيئة الفقاع) ويخنق صاحبه من داخل شرايينه.

  •  كيفما نظرت لفيزياء هذا الحجر النفيس، وجدت ألغازاً موحية. حتى ميلادُه يسترعي تأملاً كثيراً، فمُضغته الأولى ليست من داخل المحار نفسه، بل من شائبة تنفذ من خارجه وتستقر بين فكّيه، لتبدأ عملية طويلة لا تزال بعض تفاصيلها لغزاً حتى اليوم، يتراكم فيها صلصالٌ دريٌّ على المضغة الدخيلة، وتتحول الشائبة بخاتمتها لؤلؤةً تامّة. هذا حجرٌ نفيس بنَسَبٍ وضيع. ومن اللافت بهذا السياق أن فكرة المصدر الخارجي لتشكّل اللؤلؤ فكرة قديمة، وتُروى عن ابن عباس نظرية قدّمها بزمانه عن هذا الحجر عندما قال: "إِذا أَمطرت السماء، فَتَحَتِ الأصداف في البحر أفواهها، فما وقعَ فيها من قَطْرِ السماء.. فهو اللؤلؤ". هل كان يعلم المحار أي كارثة وجودية ستجلب عليه هذه الحالة النادرة، وكيف سيفنى بالملايين طلباً لحَصوةٍ لمّاعة لا تظهر فيه إلا ما ندر.
  •  في ظاهرها، ليست هذه قصة من قصص النضال أو القيم الوطنية الكبرى، وإنما مأساةُ رجلٍ أدمن الأمل وسار فيه حتى نهايته المرّة. والمرارة هنا تفيض باكراً جداً وقبل الخاتمة السوداء بكثير، فَاسْم الرجل بذاته، "سعد"، يقدح سخرية قاسية من اللحظة الأولى؛ سخرية تشتد كلما تعثّر وانسدّ الطريق من أمامه. خلف هذه الواجهة الفردية لقصة رجل تائه، هناك آصرة مكتومة تشد الحكاية لقضية كاتبها الأكبر، وتمنحها ظلاً يفوق قامتها الظاهرة. 

  •  يبدأ غسان قصته بمشهد للأفق وقد لمعت فيه شعلة من بئر نفطيٍّ بعيد. ويمارس عبر تلك الشعلة ألعاباً مجازية وبلاغية شتى. وكما بدأ منها، يعود لها قرب النهاية. لا يحتاج الأمر قفزةً كبرى في التحوّل بين النفط واللؤلؤ، فعدا عن "الكنزية" التي تطبعهما، فهما عنوانان في تاريخ الخليج العربي؛ الخليج الذي كان يكتب منه غسان في وقتها. لقد انتهى زمن اليانصيب البحري، وانفتح بئر ناري للثروة من نوعٍ آخر تماماً، وبشروطٍ وظروف مختلفة. يبدو سعد كمن يأتي من عالَم سابق ويحاول أن يجد له مكاناً في عالمٍ جديد، ولكن بأدواته السابقة وبراءته التي لا يرأف لها أحد.

  •  يكتب غسان عن "بطولة الذين أتوا من بعيد كي يعيشوا، فماتوا من فرط ما تاقوا إلى العيش". وتظل النهاية غامضة بعد كل ذلك؛ هل من فرط الكآبة مات بطلنا البائس، أم من فرط نقيضها؟ هل كانت آخرُ المحارات عاقراً، أم أنها حملت كنزها المأمول؟ لا يبدو هذا غموضاً مُصمّماً للإثارة، بقدر ما هو مصمم لتعميق المرارة والإيحاء بعبثية الفارق في رحلة أملٍ كاذب تستنزف أصحابَها إلى أن يستوي تحققُ الأمل وضياعه، ويذوي الخلاص في الخسارة.