9 مارس 2023

البومة التي حدّقت في عين كنفاني

البومة التي حدّقت في عين كنفاني

هذه سلسلة تسعى لقراءة إرث كنفاني في القصة القصيرة. وتبدأ كلُّ حلقة بموجزٍ للقصة المعنيّة، وتنتهي بهامشٍ يحاور النص ويحاول أن يُكَلِّمه. وقد سبق السلسلةَ تمهيدٌ لمقاربتها وما تحاول أن تفعله. 

حكاية الحكاية

البومة في غرفة بعيدة – [1959 / الكويت]

شابٌ أعزب في غرفة متداعية وبعيدة، يُقلّب مجلةً فيلمحُ فيها صورةَ بومةٍ غمرها المطر وتحيطها العتمة، لكنّ عينيها تتوهجان وتمنحان المشهد سحراً غريباً. يشعر بآصرةٍ معها، فينتزع الصورة من المجلة ويصنع لها إطاراً من ورق ويلصقها على حائط غرفته. ومع خفوت الضوء، ينظر للصورة من سريره، فيراها اكتسبت بشاعةً رهيبة؛ وجهُ البومة بدا له قلباً مسطحاً وكأنّ شيئاً داسَه، والمنقار أخذ هيئة المنجل، أما العيون فكانت تحكي غضباً وحشياً وتمزج إحساساً لديه بمن يواجه خياراً بين أمرين: الموت أو الهرب. وتنبعث فيه الذكرى يوم كان طفلاً حين طُلب منه أن يَدفن صندوقَ عتاد خلال هجومٍ دامٍ على قريته. وعلى أزيز الرصاص، يذكر كيف وصل الموضعَ الموسوم وحفر لصندوقه وأودعه، وكيف سمع بتلك اللحظة صيحةً حادةً أعلاه، فنظر فوقه ورأى بومة تبادله النظرات وفي عينيها ذات الوهج الذي في الصورة؛ وهجٌ يحكي توترَ اللحظة التي يختار فيها المرء بين الموت والهرب. كان الطائر بلحظتها يفعل ما يفعله الصبي، ثابتاً في حضرة موتٍ موشِك والرصاص يطير من حوله، ومستغنياً طوعاً عن النجاة. وعلى نحوٍ يشبه العدوى، تزداد جرأة الصبي أمام نظرة الطائر ويتم ما يفعل. ينتبه الشاب من شريط الذكرى وهو الآن بعيدٌ جداً عن قريته وعن الطفل الذي كانه وعن زمن الرصاص، ويعود لينظر في الصورة التي على الحائط وعينيها المحدقتين فيه. وكأن النظرة الآن صارت أقرب للشفقة.

هامش

·      الأمر بديهي بالتأكيد، لكنّ الشكوى تظلُّ واجبة: كم هو صعب أن يفهم المرء نفسَه، وأن يفهمها لوحده دون استعانةٍ (على نفسه) إلا بنفسه! أن يدير عقلَهُ صوب عقلِه، ويطلب من الأول حُكماً صادقاً على الثاني وكأنهما اثنان حقاً. ليس الإشكال نفسيّاً بحتاً، فبعضه هندسيّ أيضاً. كيف لا ونفسُ المرء لا هي أمامه ولا وراءه ولا حوله، وإنما بين تلك جميعاً. في التراث الألماني قصة غريبة عن رجل يدعى مُنشهاوزن، يَسقط في مستنقعٍ وهو راكبٌ على فرسه، فيمدّ يده فوق رأسه ويمسك بخصلةٍ من شعره ويشدُّ للأعلى إلى أن يُخرِج نفسَه بنفسِه سالماً، وفرسُه لا تزال أسفله، قابضاً عليها برِجليه. مِن الطريف أن تسأل الناس عن منشأ الغرابة هنا، وعما يجعل المحال في هذه الأسطورة محالاً. وقد أدركتُ –بالتجربة المباشرة- أن كثرةً يتخيلون المشكلة في القوة اللازمة ومقدارها الذي يفوق مَقدرة البشر. لكن الواقع طبعاً غير ذلك، والاستحالة آتية من غرابة عالم القوى: أن كل دَفعة في هذه الدنيا لا تولَد إلا وعكسُها معها، وأن كل فعلٍ مقرونٌ -غصباً- بردّ فعل. فكلما شدّ الفارس الألماني للأعلى، دفع من حيث لا يدري إلى الأسفل، وظلّ عالقاً في مكانه. ولحسن حظ منشهاوزن، فقوانين نيوتن نادراً ما تعمل في الأساطير.

·        ليس التراث الألماني وحده من التفت لهذا النوع من المعضلات؛ معضلة استدارة الفعل على نفسه وانحباسه في كيانٍ واحد. هذه نفس المعضلة التي تشكّى منها المتنبي وهو يبثُّ قهره ممن فيه الخصام، وهو الخصمُ والحكمُ. في مضمار القضاء والعدالة القانونية، كان سيف الدولة نسخةً حلبية من منشهاوزن. وحتى في عالم النحو واللغة، فلا أعرف حالةً يكون فيها الفاعل المرفوع في محل نصب مفعولٍ به، فهذان كائنان منفصلان حكماً. وقبل هذه الشواهد جميعاً، فقد أعطانا أرشميدس وجهاً فيزيائياً لهذه الفكرة عندما أعلن قدرته على رفع الأرض بأسرها لو أُعطِيَ عصاً بالطول الكافي ومُرتكَزاً من خارج الكوكب. وما يصحّ في عتلة أرشميدس، يصح بأشياء كثيرة أخرى، فالمرء يحتاج ركيزةً خارج الأشياء حتى يكون بوسعه أن يفعل بها ما يريد أن يفعله.

·       يَحكي غسان قصة كوةٍ معتمة تنفتح عَرَضاً أمام إنسان، ليلمح فيها عينين لامعتين ويَدخلها بدافعٍ غريب لا يفهمه، وتفضي به في النهاية لا لداخلها وإنما لداخله. في مطلع الحكاية، يُلصق الشابُّ صورةً على حائط أمامه، ويجعل لها ما يشبه الإطار. ذكّرني هذا بما كُتب مراراً في مضمار الفنون: أن اللوحة الغربية -منذ عصر النهضة- كانت مجازاً لفكرة النافذة، وأن إطارها لم يكن بقصد التأطير وحسب، وإنما تعميقاً بالمعية لفكرة النافذة وإطارها الخشبي. (أليس غريباً أن يخبرنا كنفاني بأن الإطار الورقي كان بُنّيَّ اللون؟) والعلاقة هنا لا تَعسّفَ فيها، فموطن اللوحة هو ذاته فضاء النافذة وشرطها الوجودي: الجدار. في حكاية غسان، يغدو هذا المجاز حيلةً مركّبة، فبعد أن خَنقت القصةُ نفسها في غرفة مصمتة، يعلّق أحدهم صورة أمامه، فيثقب الجدارَ بالورق ويمنح فُسحةً لمكانه الضيق.

·       أشياءٌ غريبة تحصل للعيون في هذه القصة، وتحصل بها أيضاً. ويبدو غسان وكأنه يبحث عن حيلة جراحية تسمح بإدارة عينٍ صوب خلفِها لتبصر صاحبها. ولأن الأمر مستحيل (كاستحالة منشهاوزن)، فهو يستعين بالعيون على العيون، ويجعل من عينيّ طائره شيئاً تائهاً بين العدسة والمرآة؛ شيئاً يُريك ما خلفه، ويريكَ نفسك بذات الوقت. غريبٌ أمر العين. بوابةُ ضوئها ومدخل الصور فيها ليس بياضَها، وإنما سوادُها الدامس وأصغر دائرةٍ فيها. من تلك الرقعة الحالكة، ينفذ العالَم كلُّه إلينا. ولو كان لأحدِنا أن يدخل لجوف عينه وينظر لها من داخلها، لرأى حدقتها السوداء شمساً ساطعة، ولاح له بياض المحيط سواداً دامساً. كم هو مُوحٍ أن هذه الحدقة المعجزة تُدعى في اللغة "الإنسان". أي تسمية هذه، ومن أجدر بها من قبّة العين.

·       مِن أُمّ المفارقات وبوابة الضوء، من حدقة العين، نفذ كنفاني حاملاً معه كل ما يريد، وبتلك العين تحديداً، أعطى شابّه الوحيد مرتكَزاً من خارجه (كعتلة أرشميدس) ليفتح عليه باباً لنفسه. ومرة أخرى، فالقصة كلها تبدو سرداً لما تراه العيون في العيون، ومن منّا لم يرَ السحر الذي تفعله المرايا بنفسها إذا وُضعت أمام بعضها. هكذا يَفرد غسان سطح قصته ويمنحها مساحة تتحرك فيها. لكن هذا لا يكفيه. يحتاج بُعداً ثالثاً يحوّل المساحة به إلى فضاء، ويشد به المربع من وسطه ليجعل منه هرماً. ما يريده ليس عكساً لصورة إنسانٍ وحسب، بل كشفاً للسريرة ونفاذاً للضمير. وحتى يفعل ذلك، يأتي بشيءٍ لا يقل إرهافاً عن العين ولا يقل عنها سحراً؛ يأتي بالذاكرة. الآن تكتمل زوايا الهرم وينهض من مربعه.

·       كالعين تماماً، غريبٌ أيضاً أمر الذاكرة. هذا الأثر المبهم الذي تتركه الأضواء والأصوات في أذهان الناس. تحاول أن تستدعي لحناً قديماً لذهنك، فلا تسعفك الذاكرة ولو بنغمةٍ منه. أما وأنك لا تذكر منه شيئاً، فكيف تعي أصلاً بأنك نسيته؟ ثم تسمع صوتاً عارضاً، فتندلع ذاكرتك باللحن كاملاً. كُتب الكثير جداً في رقدة الذاكرة؛ في نومها العميق، وانتباهتها المفاجئة. ومن أغرب الأمور هو حساسيتها لأشباهها، وكيف تنهض كثيراً -دون دعوة ولا إرادة- لأن شيئاً شبيها ببعضها ظَهَر للعين أو تهادى للسمع.

·       أصعب ما في قصة كهذه لمن يحاول أن يكتبها هو دورانها حول فكرة موغلة في الشيوع، موغلة في القدم، موغلة في الحضور. وعندما تكون الفكرة مكلّلة بهذه الثلاث، فقولها أدباً شديد الصعوبة لأن مزلق الابتذال يحيط بها من كل اتجاه. لكنّ قولَها أدباً يغدو أيضاً شديد الأهمية، تخليصاً لها من رحى التكرار وتجديداً لمعناها الذي يتآكل بالشيوع والكثرة. هل الأديب الحقّ بالنهاية إلا هذا؛ من يضع يده في وحل الشائع العاديّ، ثم يُخرجها بيضاء من غير سوء. يدور الأمر كلّه حول الخوف؛ حول تحمّله والقبول الطوعي باحتمال الفناء، في مقابل التسليم لوطأة الرعب والهرب. كم هو صعب أن تقول شيئاً جديداً عن أمرٍ كهذا وأن تُحبّر نصّه الباهت بوجدان الناس. أَنظرُ فيما فعله كنفاني بهذه القصة، فأرى رجلاً أخذنا عبر حدقة العين، وصنع من قزحية طائرٍ مرآةً لشاب كسير، وهداه من خلالها لذكرىً مدفونة بداخله، وأوقد فيه خياراً قديماً وقف أمامه يوماً بين الهرب والموت، فاختار بلحظتها الثانية، قبل أن ينزلق ببطء ووعيٍ غافلٍ للأولى، وينتهي في غرفة آمنة.. ولكن بعيدةٍ جداً. من أجدر بكتابة كل هذا ممن حدّق في عين الخوف ولم يرمش، واختار الموت على الهرب؟!