27 مارس 2023

يوم انطوى العالم في حذاء

يوم انطوى العالم في حذاء

هذه سلسلة تسعى لقراءة إرث كنفاني في القصة القصيرة. وتبدأ كل حلقة بموجزٍ للقصة المعنيّة، وتنتهي بهامشٍ يحاور النص ويحاول أن يكلّمه. وقد سبق السلسلةَ تمهيدٌ لمقاربتها وما تحاول أن تفعله. وهنا تجدون الحلقة الأولى عن قصة "البومة في غرفة بعيدة".

حكاية الحكاية 

كعك على الرصيف – [1959 / الكويت]

تبدأ القصة مع مُعلّمٍ غاضب، ينظر لطفلٍ يمسح الأحذية بإحدى شوارع دمشق. ليس هذا لقاءً بين غريبين، فالمعلّم يذكر كيف لقي نفس الفتى قبل عام بنفس المكان عندما مسح له حذاءه. ويروي الأستاذ على امتداد القصة ما حصل من وقتها، وصولاً لهذا اللقاء الثاني (والعاصف) الذي يوشك أن يحصل. حميد، وهو اسم الصبي، طفلٌ يعاني ظروفاً قاهرة لكنه متكتمٌ عنها. يكتشف المعلّم يوماً أنَّ حميداً صار تلميذاً بصفّه، فيتملّكه خوف أن يَذكر الفتى وجه معلّمه وكيف مسح يوماً حذاءه فينكسر إحساسه بالكرامة أو يُضنيه الخجل. لكن الطفل يبدو غافلاً تماماً عن ذاك اللقاء السابق، ولا يبدو متذكِّراً أنّه مسح يوماً حذاءَ أستاذه. وتثور عاطفة دافئة من المعلم تجاه الفتى، لأنه يُذكّره بطفولته عندما كان مضطراً –هو الآخر- أن يمارس عملاً شبيهاً؛ يُكرِمه بالدرجات، ويتحيّز له بالتصحيح، ويتخلّى عن حياده المفترض، ويحاول تدريجياً -وبحذرٍ شديد- أن يَنفذ لعالَمه المغلق. هكذا، ترتسم عند المعلم صورةٌ عامّة عن حياة هذا الولد؛ عن أبيه الميّت، وأمّه الوحيدة، وعن عمله في بيع الكعك على قارعات الطرق وبوابات السينما. ثم تحصل سلسلة أحداث تُميت الشفقة بصدر المعلم تجاه حميد، ويتملّكه غضب هائل عندما يكتشف أنَّ أباه حيٌّ، وأنّه كان يكذب في تفاصيل كثيرة عن نفسه. حينها، تصل القصة للمشهد الذي بدأت منه، أي عندما يلمح المعلم تلميذه في الشارع مجدداً وهو يجلس أمام صندوق مسح الأحذية، فيتقدّم صوبه ويُمسِكه في نوبة غضبٍ عارمة ويهزّه في الهواء وهو ينعته بالكذّاب. ويسرد الطفل وقتها حقيقة ظرفه؛ كيف أنَّ أخاه مات سحقاً بين دفّتي مصعد، وكيف أنَّ أباه فقد عقله بعد أن شهد الحادث ورأى رأس ابنه يتدحرج أمامه، وكيف بات حميد يدّعي موت أبيه حتى لا يبوح بجنونه، وكيف أنَّ أمه ميتة على خلاف ما قال، وأنّ عجز الأسرة عن مستلزمات الجنازة أجبرتهم أن يُخفوا موتها عمّن حولهم. يهدأ المعلم ويطلق الصبيّ من بين يديه، ليأخذ حميد بمسح حذاء معلّمه، وتنتهي القصة بملاحظة يبديها الصبي عن حذاء أستاذه لينكشف أنه كان عارفاً دوماً بلقائهم الأول، وذاكراً له تماماً. 

هامش

●      هناك قصص تُشبه الخطوط، وأخرى تشبه الدوائر. الأولى -وعلى عادة الخطوط- تبدأ من مكان وتنتهي بآخَر، ويقرؤها قارئها تحت غواية السؤال: (ماذا سيجري يا تُرى). أما الثانية فتبدأ من آخِر مشهد فيها: تُخبر القارئ في سطرها الأول ما هو مكتوبٌ في سطرها الأخير، ثم تَمضي لتروي قصة خاتمتها المكشوفة، وكيف حصلت. وبدلاً من سؤال (ماذا سيجري)، يمضي القارئ هنا بدافع سؤالٍ آخَر: (كيف جرى ما جرى). "كعك على الرصيف" توشك أن تكون من صنف الدوائر لولا شيء واحد، فغسان لا يبدأ من النهاية تماماً، بل قبلها بقليل، ويرسم مشهداً يسبق النهاية بدقيقة أو اثنتين، ثم تبدأ بعدها القصة. وهكذا يشحن الجوّ بالسؤالين: ماذا سيجري، وكيف جرى ما جرى.

●      ربما لا تكون معجزة الأديب خلقَ الدهشة من اللاشيء، وإنما انتزاعها من شيءٍ مُمعن في العادية، فهذه الثانية أصعب بكثير. لا شيء يفوق الرتابةَ وزناً ولا ثقلاً، ومن يحاول رفع أنقاض العاديّة عما يراه الناس يحتاج موهبةً أشبه بجرافةٍ صناعيّة. وما حِرفة الكاتب المُجيد في النهاية سوى هذه: أن يفرك الأشياء الصغيرة ليُخرج منها وحوشاً أو يُخرج منها ملائكة. وعلى خلاف الصورة الأسطورية المعتادة، فإنَّ غسان لا يستدعي وحوش قصته بالمسح على المصابيح ولا الخواتم، وإنما بالمسح على واحدٍ من أحط الرموز في ثقافتنا الشعبية؛ بالمسح على الأحذية. ويوكِل المهمة الصعبة لطفلٍ يُطلقه بشوارع دمشق ولا يملك بمواجهة الدنيا إلا صندوقاً ومِمسحة. "كان الحذاء بالنسبة لي هو كل الكون: رأسه وكعبه قطبان باردان، وبين هذين القطبين كانت تتلخص دنياي". ليس العنف القصصي هنا في تفخيم الوضيع ولا توسعة الرديء، وإنما في العكس؛ في خنق الرحابة تحت أقدام الناس، والتذكير بالنسبية الطاحنة للوجود، وكيف يرتسم أفق الإنسان بحدود معاناته. ليس أسهل في هذا العالم من وصف السماوات العُلا والأفق الرحب ومراتب الألوان. الصعب الحقيقي هو وصف صبيٍّ مضرّجٍ بالأسود وظهره محنيّة على أقدام الناس.

●      في قصة المعلم شيءٌ قد يعرفه كثيرون، لكنه –بذات الوقت- نادر الحصول، وقد لا يَعبُر حياة المرء إلا مرةً: ذاك الغريب الذي بالكاد تعرفه، لكن وجدانك يخفق لتفصيل صغير فيه؛ تفصيل يمسّ شيئاً بماضيك أو ركناً عزيزاً من نفسك، أو أمراً غير ذلك يعوص عليك فهمه. بهذا الوجدان القلق، يظهر معلّم القصة وقد تداعت أسوار خياله أمام مُلَمّعِ أحذيةٍ صغير، واستبدّ بذهنه ولدٌ غارقٌ في مأساته المكتومة. في تكوّم الصبي على صندوقه الملطخ، والعرق الذي يخطّ جبهته، يجد معلمنا نفسه أمام مرآة عَرَضية تحكي له طفولته هو، ويحصل لقاءٌ مستحيل، لا بين رجلٍ وطفل، بل بين الرجل والطفل الذي كانَه. هذه مرآةٌ لا تريك الصورة وحسب، بل تأذن لك أن تحاور من فيها وتُربِّتَ على أكتافهم إن شئت. تصبح الأحداث هنا أشبه بالحلم. ماذا يقول المرء للطفل الذي كانه لو كُتب له أن يلقاه؟ ليس عند المعلم حكمةٌ يسكبها على حميد، بل عطفٌ مكبّلٌ بالخوف؛ بالخوف على إحساس الصبيّ بالكرامة وشعوره بالانكشاف.

●      سطراً بسطر، تزداد عُقدة هذه القصة توتراً وتداخلاً. لا أقصد عقدة الأحداث فهذه مسألة ثانوية، وإنما أقصد عُقدةَ العُقدة، والسؤالَ الذي يغشى النصّ دون أن يَظهر علناً، وهو -للمفارقة- سؤال يبدو وكأنّ غسان يطرحه على نفسه قبل أن يطرحه علينا: كيف تَكتب عن البؤس؟ كيف تمشي على حافته الضيقة دون أن تزلّ قدمك، فتَنشر عدمية صمّاء وأنت تصوّر واقعاً موغلاً بالبشاعة، أو تفعل ما هو أسوأ، فتُزوِّر البؤس وتجعل فيه جمالاً ملفّقاً ليس فيه؟ ويبدو المعلّم في تقلباته وكأنه يستكشف شقّاً مكمّلاً للسؤال السابق: كيف تقرأ البؤس؟ كيف تحتمله؟ وكيف تراه في حقيقته دون أن يكسرك ويكسر فيك معنى الأشياء؟

●      لا يُجمّل غسان شيئاً في مأساة صبيّه، لكنه يبحث عن زاويةٍ صعبةٍ وعسيرة المأتى.. زاويةٍ ينظر منها ليرى في البؤس -على قسوته- صمتاً نبيلاً ومعنىً خافياً. هذا هو أديب القضية الحقّ، الذي يَطوف بالمعاناة ويبحث للناس عن مكانٍ يرون منه الألم بأصدق صورة له، وأنبل وقعٍ ممكن له بالنفس. أكاد أرى الصورة بعيني وغسان يمد يده إلينا ويأخذنا مكاناً لم يكن يخطر لنا ببال، ثم يؤشر بسبابته ناحيةً ما، فنرى شيئاً كنّا نظن أنّا نراه دوماً، فإذا بنا نراه وكأننا لم نره من قبلُ يوماً. ليس هذا أديباً حقّاً وحسب، بل هو نقيض الأديبَين الزائفَين: أديب "الواقع كما هو" الذي ليس سوى آلة تصوير صمّاء، وأديبُ الدعاية الثورية الذي يُجمِّل بالكذب، فيَقتل المعنى ابتذالاً.

●      على أرجوحة كنفانيّة بامتياز، يتقلّب المعلم بين مزاجين. الأول، تعلّقٌ عارمٌ بإنسان صغير تبدو معاناته تذكيراً للأستاذ بطفولته. كانت تلك المرحلة التي يروي فيها المعلم ما يراه في تلاميذه: "عالماً من البؤس المكوَّم، ولكنه بؤس بطل". ثمّ ينقلب الأمر، وتبدأ صِدقية الطفل بالتشقق، وتأخذ النار التي أوقدها بصدر معلمه تخبو، إلى أن ينهار كل شيء فجأة. هذا طفل يحترف الكذب، ويجيد التلاعب على وتر الشفقة. وينفجر المعلم غضباً على الخديعة التي عاشها وهو يرى المعاناة التي تخيلها مختلفةً عمّا ظنّها. في هذا التحول بين المزاجين تحوّلٌ بين قراءتين للمأساة: الأولى تتوهّمها على غير حقيقتها لكن على نحوٍ يُسهّل احتضانها، والثانية تنقم عليها لأنها لا تشبه سواها وتعجّ بالبشاعة ويغرق أصحابها بالكذب.

●      على الخط الفاصل بين هاتين القراءتين، يروي الطفل معترفاً قصةَ مأساته التامة بعد أن وصل حبلُ الكذب لآخره وهو معلَّقٌ بين يديّ مُعلّمه الغاضب؛ عن أخيه الذي قُطع رأسه في ميتةٍ عبثيّةٍ بمصعد، وعن أبيه الذي فقد عقله عندما رأى المشهد، وعن أمّه التي ماتت دون أجرة كفن أو شاهد قبر. حينها فقط، يبلغ غسان زاويته الأثيرة والأخيرة، ويصنع لحظةً يذوي فيها الغضب، ويتكشّف حميد قصةَ معاناة لا تشبه إلا نفسها، ومضطرةً للتسوّر بالكذب. وبذلك، يفتح غسان نافذةً ثالثة على المعاناة: لاحتضانها في حقيقتها المريعة، وفرادة شكلها الذي لا يشبه شيئاً عرفناه من قبل. هذه هي اللحظة اليسوعية التي يمدّ فيها المرءُ يده على المجذوم، بعد أن عافه الجميع وهجروه، ليمسح عليه ويبسم بوجهه.

●      في القصة خيط رفيع يشدّ المعاناة بالمعنى. وتَشابُه الكلمتين ليس عفوياً بالتأكيد. في العربية، تأخذ لفظة المعاناة دلالات عديدة، فمعاناة الأمر هي مكابدته، وهي مداراته، وهي معالجته، وهي مُلابسته. وبالمثل، تحمل "المحنة" معنيين: البليّة، ودلالة الكلام. فمحنة الشيء معناه، ومحنة المرء مصيبته. وبهذه الدلالات جميعاً، فنَصّ غسان هو معاناةٌ للمعاناة؛ ملابسةٌ لها، مداراةٌ لها، ومعالجةٌ لها. وهي تلمُّسٌ لمحنة المحنة، وسعيٌ لاحتضان الرزيئة وضحاياها.

●      يترزّق حميد من بيع الكعك أحياناً، ويأخذ عمله هذا وجوهاً مأساوية عدة. ويصعب ألا تفكّر لماذا تَبلور عنوانُ القصة من هذا التفصيل تحديداً. لا يتعلق الأمر بِنيّة غسان، فهذه في عوالم الغيب الآن، وإنما في ما يبعثه الأمر بوجدانك وفي النبض الذي تَجُسّه في النص بعد أن سكن نبضُ كاتبه. تخطر ببالي أشياء مختلفة، لكنّ أمراً واحداً يحضرني أكثر من سواه؛ كيف ينصهر الإنسان في حدود مأساته ويغدو متعرّفاً بها بل وحتى مشابهاً لها؟ بهذا المعنى، فالعنوان تسميةٌ رديفةٌ لحميد، ورمزٌ له، وليس إلا مجازاً موجعاً عن بطلها الصغير: كعك على الرصيف.



3 سبتمبر 2022
ماذا نفعل في موسم الصعود على الجثث؟

كالانهيارات الجليدية التي تتراكم وتتضافر تشقّقاتها لسنواتٍ قبل أن تُعلن عن نفسها بالشظايا الضخمة المتناثرة والقرقعات الانفجارية التي تصمّ الأذان،…

18 أبريل 2019
حِرفَة اليد وصَنعة الروح

تتناول هذه المادّة العمل اليدويّ من زاوية فلسفيّة ونفسيّة وإدراكيّة، ثم اقتصاديّة. وكاتبُها ماثيو كراوفورد Matthew B. Crawford بات اليوم…