8 يوليو 2023

الرجل الذي مات ولم يمت

الرجل الذي مات ولم يمت

هذه سلسلة تسعى لقراءة إرث كنفاني في القصة القصيرة. وتبدأ كل حلقة بموجز للقصة المعنيّة، وتنتهي بهامشٍ يحاور النص ويحاول أن يكلّمه. وقد سبق السلسلةَ تمهيدٌ لمقاربتها وما تحاول أن تفعله. 

حكاية الحكاية
الرجل الذي لم يمت – [1958 / الكويت]

السيد عليّ صاحبُ أرضٍ مقتدر استقر قبل النكبة في قريةٍ بمرج ابن عامر. لا يمارسُ الزراعةَ لكنّه يُضمّن أرضه للفلاحين، وهو شغوفٌ بالمال، ويحب أن يكرّر دوماً ذات العبارة: من لا يملك قرشاً لا يساوي قرشاً. السيدة زينب واحدةٌ من العاملات بأرضه، وهي ربّة أسرة كادحة. يشعر السيد عليّ أمام استقامتها وإخلاصها في العمل بإعجابٍ غريب. يتسرّب خبرٌ حول نيّة مالك الأرض أن يبيعَها لمشترٍ يهودي، فتواجهه زينب، لكنّه يحاول أن يُقنعها بوجاهة الصفقة وكيف أن السعر المعروض سيمكّنه من إكرامها وإكرام بقية العمال. لكن زينب تعود وتحذره من مغبة البيع، دون جدوى. تتمّ الصفقة، فتعود ابنة زينب من حيفا حيث تَدرس، وتحرّض أخاها حمدان على فعل شيءٍ بحق السيد عليّ. يأخذ حمدان بندقية عتيقة ويباغت السيد علي بعدة رصاصات. يُصاب مالك الأرض بطلق في وجهه يتركه بجرحٍ نازفٍ من صدغه وحتى العنق، دون أن يتمكن من معرفة الجاني.

لكن سلاح حمدان ينفجر في يده، ويَلقى الشاب حتفه فوراً. بعد أيام يزور السيد عليّ زينبَ في بيتها، معصِّباً جرحَه بالضمادات، وحاملاً معه رزماً من المال ليُسكت بها غضب فلاّحيه. تشعر زينب بغصةٍ هائلةٍ وكأنّ المال ثمنٌ لابنها، ولا ترفع بصرها صوبه متشاغلةً بالحياكة. يضع عليّ ماله على كرسي ويهم بالمغادرة، فتبدأ أوراق النقد تتناثر مع الريح. بعد عشر سنوات وحصول النكبة، تجمع الصدفةُ السيد علي مع زينب في سيارة أجرة. تنظر زينب في جرحه الغائر وتشعر براحة غريبة أن الرجل لم يمت، وأنه يحدّق كل صباح بندبةِ وجهه الطويلة، ويتذكر الأرض التي باعها. وينتهي النص بخاطرة زينب لنفسها:

"سوف يتيسّر للسيد علي أن يرانا نعود إلى الأرض التي باعها.. سوف يشعر يومها -وهو يحدق بالجرح الطويل المحفور في صدغه وعنقه- أن هنالك شيئاً أقسى من الموت..

أقسى بكثير".

هامش

  • هناك شيء في قصص غسان يشبه خداعات البصر؛ تلك الرسوم التي تبدو أشكالاً بريئة بالنظرة الأولى، لكنّ الذي يحدّق فيها يلمح فجأة شيئاً مدفوناً. لا أتحدث عن الدلالة الروائية أو رموز القصص، فهذه يعجّ بها الأدب وهي ليست خِداعاتٍ بصريةً أصلاً. خديعة البصر شيء آخر، والمدفون فيها ليس مرسوماً بذاته، لكنه يتخلّق وسط الزحام وينبع للعَين فجأة ببركة ما يجاوره. من غرابات هذا المدفون المخادع أنك إذا لمحته فقد لا يعود بوسعك أن ترى سواه ويتحوّل من عَرَضٍ مختبئ إلى مركز يستبدّ بالنظر ويملأ صفحة العين. وكأنه يستخدم ما حولَه حصانَ طروادة يختبئ فيه قبل أن تكسر أنت بابَ الحصان –بطول التحديق فيه- فيَخرج منه شاهراً سيفَه. وليس ظهوره في النهاية ما يثير الدهشة، بل احتجابه في البداية، ثم طغيانه على البصر فورَ انكشافه. هنا يصبح الفاصل بين فعل النظر وفعل الرؤية أحدّ من السكِّين. يتحدّثون في أدبيات اليسار عن التراكم الكميّ الذي يُفضي لتغيرٍ نوعيّ، ولعلّ شيئاً شبيهاً يحصل هنا، حيث التحديق -وهو مراكمة كمّية للنظر- يفضي لرؤية نوعيّة؛ عندما تنظر وتنظر وتنظر، ثم تقرر عينُك فجأةً أن ترى.

  • في المشهد الذي يرسمه غسان ستة أشخاص لا أكثر، لكنّ المدفون بينهم سؤالٌ قديم أتعبَ الملايين؛ سؤال الموت، وهل هو شرٌّ بالضرورة. حتى في تعريفه، أثار الموت لغطاً كثيراً وشقَّ صفوف الأطباء وأعيى معهم أهل القانون. وللمرء أن يتخيّل -والحال هذه- ما فعله السؤال بالفلاسفة والمفكرين. واحدةٌ من المزالق اللصيقة بهذا السؤال هو اللجوء للأضداد، فيُعرّف الموت نقيضاً للحياة. وعلى الفور، يكتشف المرء تورّطه بسؤالٍ أفدح حول ما يُعرِّف الحياة. بوسعك أن تعرّف الظل غياباً للضوء، لكن تعال بعدها لتعرّف الضوء. ستحتاج تضلّعا بفيزياء الإشعاع وتمكّناً من مفهوم التموّج وقدراً وفيراً من الرياضيات قبل أن تكتشف علّة تعريفك؛ أنه لم يعد يشبه شيئاً من الظاهرة كما يُدركها البشر. لا تعتني قصة غسان بالتعريفات طبعاً. هي تعتني بشيءٍ أهمّ بكثير؛ بجدوى الموت وعبثه، وقيمة الحياة ومعناها، ولأي جنبٍ يميل الميزان لو وضعت هذا وذاك على كفّتيه.

  • كثيراً ما أتساءل عن عدد القتلى في أعمال كنفاني. لا أتحدث مجازاً، بل أتساءل بحق عن تعداد الموتى في رواياته وقصصه. كم قَتل غسان؟ عددٌ كبير بالتأكيد، لكن الأقسى من العدد هو أداة الإعدام الروائي. كثيرٌ من الميتات مريعةٌ تماماً، وقِسمٌ وافر منها –وهذا الأسوأ- تَطبعه العبثية الصمّاء. شهيد هذه القصة يلقى حتفه بانفجار سلاحه الذي بيده، فيَقتل نفسه بنفسه من حيث لا يقصد، بينما ينجو المقصود الخائن من كل هذا. كيف تكتب أدباً زاخراً بالمعنى ووفياً لقيمةٍ ومبدأ دون أن تُخبِّئ هذه العاهة الأخلاقية التي يرزح بها الواقع: عبثيته، وتفسّخ المعنى في كثير من مآسيه. إجابة هذا السؤال –بالنسبة لي- هي ما يُعرّف غسان كنفاني ويجعل منه القوةَ الأدبية المدرّعة التي كانَها. لقد تجرّأ غسان على هذا الموضع العسير من كل قضية نضالية، فلا كَفَر بالمعنى ولا أنكر العبث، لكنه جعل أعماله ساحةً مفتوحة لتغلب الأول على الثاني.

  • لكن كيف يفعلها؟ يفعلها بطرقٍ مختلفة في أعماله المختلفة، لكني أحياناً، حتى وأنا أراه يفعلها، لا أفهم تماماً كيف يفعلها. في قصتنا هذه، هناك شيءٌ من الخداع البصريّ في حيلته. في ذات اللحظة التي قضى فيها حمدان، ينحفر جرح بوجه السيد علي، مِن صدغه وحتى العنق. بهذه الندبة التي ينغلق عليها الجرح، ينفتح لغسان أفقٌ للمعنى الذي يريد. في ميزان اللغة وتحت مجهرها، النُّدبة ليست أثراً للجراح وحسب، بل فعلاً متصلاً بالموت. "نُدبة الميت" هو تفجعٌ عليه وحُرقةٌ تغلب النفْس على فراقه، ومن يندب ميتاً فهو يبكيه، ويتحسر عليه منادياً: وافلاناً. هذه الـ "وا" تُصنَّف نحوياً أداةَ نُدبة، وصوتها يكاد يكون صيحة أو نشيجاً، لا مفردةً وكلمة.  كل هذا يجري –بعُرف المعجم- في وجه السيد عليّ؛ على خطٍّ واصلٍ بين صدغه والعنق. لكن الندبة لا تنتهي هنا، فهي أيضا شاهدٌ وأثر. حتى البقع الداكنة في القمر تدعى نُدبته. وفي قصة الرجل الذي لم يمت، تظهر الندبة هكذا: شاهدٌ زرعه شهيدٌ في لحظته الأخيرة بوجه خصمه، وأودع فيها قولَه الأخير.

  • "الرجل الذي لم يمت" عنوانٌ يحكي عن رجلٍ رخيص؛ رجلٍ لا يملك فكرةً كبيرةً في خياله، ولا قيمةً أثيرة بوجدانه. بعد نصف قرنٍ على رحيل كنفاني، يجدر بالمرء أن يتذكر هذا النصّ فهو يرسم نقيضَ كاتبه الأقصى ويكثّف رمزيته. كيف لا وهو الذي سار طائعاً صوب الموت، وصنع من نفسه روايةً تطوي بداخلها كلَّ ما كتب؛ رواية الرجل الذي ملأ وجوه غيره -ممن لم يموتوا- نُدَباً وجروحاً، ثم عانق موتاً باكراً وصار شيئاً لا يذهب.


4 ديسمبر 2022
المونديال في بيت عتابا

 ربما تكون فيديوهات الشاعر اللبناني للزجل والتراث الشعبي سهيل صقر هي الأكثر تداولاً وتفاعلاً على شبكات التواصل الاجتماعي في أيام…