26 مايو 2020

موسيقى للتمرّد على إيقاعات السُّلطة

موسيقى للتمرّد على إيقاعات السُّلطة

مثلما تتحكّم السلطة بتصميم الحيّز العام وحركة الناس فيه، فإنّها تستحوذ على الفضاء المسموع أيضاً؛ تطمس أصواتاً وتفرض أخرى. في هذه اللحظة العصريّة، تتحوّل الموسيقى ملاذاً فرديّاً يعزلنا عن محيطنا، وتقطّع أوصالنا الاجتماعيّة. يستعرض الكاتب ألكسندر بليت في هذا النَّص، والذي ترجمه حمزة بن جعفر، دور الموسيقى في لحظة الانفجار الثوريّ، إذ تندفع صوتيّات المنتفضين لاحتلال الحيّز العام، وتصبح أداةً أخرى للسيطرة على الشوارع والتماس السلطة، كاسرةً طوق العزلة التي يفرضها الإنسان المعاصر على نفسه، مغترباً في شوارعه. 

-----------------

ما جدوى الموسيقى؟ إنه سؤال صعب. مع أنّ الموسيقى تسري في مجريات حياتنا اليومية، فإنّنا قلَّما نتصدى للسؤالين: ماذا تفعل الموسيقى؟ وما الوظيفة التي يمكن أن تقدّمها للبشر؟ نغضُّ الطرف عن هذيْن السؤاليْن غالباً، متخلّصين منهما بيسر، بينما نضع السماعات على الآذان لنباشر السير إلى العمل. نشكّل عالمَنا المصغَّر الخاص الذي يبقينا في مأمن من الآخرين ومن قضايا العالم. إنّها "مكرمة جهاز الأيباد الأوديبيَّة على المستهلك، تحوّطه بجدار عازل يصدّ عنه الاجتماعيّ"، حسب وصف مارك فيشر في كتابه "الواقعيّة الرأسماليّة".

بالرغم من ذلك، توجد لحظات معينة لا يتمّ فيها الاعتراض على هذه الإجابة فقط، بل يتمّ نسفها من أساسها أمام أنظارنا. يحصل ذلك عندما تتحرّك الجماهير، مبصرةً الأغلال التي تصفدنا، حتى يصير مجرّد ذكر اسم مكانٍ معينٍ حافزاً لاستنفار صور التمرّد والثورة في الأذهان.1من المترجم: يُلمح الكاتب إلى مقولة روزا لوكسمبورغ: "من لا يتحرّكون، لا يبصرون أغلالهم". هونج كونج، ولبنان، وكاتالونيا، وتشيلي، وهايتي، والعراق؛ كلّها بلدان اجتاحت ميادينَها وشوارعها احتجاجاتٌ مليونيّة، قادتها جماهير رافضةٌ لسياسات التقشف معدومة الأفق، ورافضةٌ للقمع والفساد. إنّ هذا الأفق رماديّ، وعصيّ على التوقّع، وترزح فيه الحياة تحت الرأسماليّة، ومحصّلته هي فسح المجال لنشوء أنماط جديدة من التفاعل مع الآخرين، ومع العالم من حولنا.

إنّ للمدن إيقاعاتها كما يحاجُّ هنري لوفيفر. إنَّ تدفق الجماهير وانحسارهم في المجالات العامة والخاصة، والشكل الذي يُخضَعون فيه للضبط والتشكيل، وتحديد من يُؤْذَنُ لهم العبور إلى هذه المجالات ومتى، يعكس كلّه أنماطاً من الاستغلال. من هذا المنطلق، تكتسب أشكال توظيف الصوت والموسيقى أو إقصائهما حسب ما تستدعيه مساعي المدينة النيوليبراليّة لإحكام سيطرتها على الفضاء والحيّز، أهميَّة شديدة. سواء كان ذلك بحظر أنشطة التكسّب من الغناء والموسيقى على الطرقات (Busking)، أو ببثّ الموسيقى الكلاسيكية عبر المكبِّرات لطرد الموسيقى غير المرغوب فيها. يظلّ ثابتاً أنّ الحيّز يتغيّر بفعل الصوت.

وللسبب نفسه، يكون الأمر بالغَ الدلالة عندما تزيح الجموع إيقاع المدينة -المفروض عليها- لصالح إيقاعها الجمعيّ. حين يستحوذ من يقبعون في القاعدة على قدرٍ وافٍ من السُّلطة، يغلب الحسّ الاجتماعيّ للموسيقى على شعورنا اليوميّ بالعزلة. تتلطَّف معالم المدينة وزواياها لتتسربل في حلةٍ أرهف وأكثر ديمقراطيَّة. يُمكننا أن نرى ذلك ونسمعه في موسيقى الانتفاضات الجارية في العديد من البلاد.

هايتي: كرنفالٌ ومقاومة

تحتلّ هايتي مكاناً مركزيّاً في المِخيال الراديكاليّ، إذ شهدت ثورة العبيد الأولى، والتي كُلَّلت بالنجاح. تابعت هايتي مذ ذاك حركاتٍ احتجاجيَّة متواصلة على مرّ القرن العشرين، كانت ضدّ قادة فاسدين وضدّ الاحتلال الأجنبيّ. ومن أكثر ما اشتهرت به هايتي أيضاً الديكتاتوريّون المدعومون من الولايات المتحدة الأميركيَّة، والذين راكموا ثرواتهم وثروات أتباعهم على نحوٍ فاحش.

كشف تحقيقٌ حكوميٌّ حديثٌ ضلوعَ الرئيس الهايتيّ الحاليّ، جوفينيل مواز، في قضايا اختلاسٍ لقروض مموَّلة من خلال البرنامج الفنزويليّ بيتروكاريبي (Venezuelan Petrocaribe program). كما أسهمت معدلاتُ البطالة العالية، وجمود الأجور في ظلّ غلاء تكاليف العيش، في زيادة احتقان الوضع الاجتماعيّ في هايتي، لتندلع حملة واسعة من الإضرابات والمظاهرات الحاشدة عبر أرجاء البلد منذ فبراير/شباط  المنصرم، قُتِل على إثرها على الأقل تسعةُ مواطنين وجُرِح الآلاف.  لكن في خضم هذا العنف الضارب، حظيت هايتي بأيام احتفاليّة أيضاً.

كان يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأوّل يوماً مشهوداً. يومها كان العديد من الموسيقيّين ومغنيّ الراب وفنّاني الاستوديوهات هم القائمون الأساسيّون على تنظيم إحدى المظاهرات الشعبيّة الحاشدة في بورت-أو-برانس ( Port-au-Prince). كان يوماً أشبه ما يكون بكرنفال هايتي السنويّ، كما وصفه بعض المراسلين.

ينطوي هذا التوصيف على معنى عميق الدلالة؛ يتمّ الاحتفالُ بكرنفال هايتي السنويّ في الأسابيع التي تسبق ماردي غرا (ثلاثاء المرافع)، كما هو الشأن في الكثير من دول الكاريبي.2إضافة المترجم: ثلاثاء المرافع أو الثلاثاء البدين، وهو اليوم الذي يسبق بداية الصوم الكبير في المسيحيّة. منذ أن نُظّم أولُ احتفال رسميّ بالكرنفال في السَّنة التي أعقبت انتصار ثورة العبيد، تكرّر استياء البروتستانت المحافظين وسخطهم عليه، لما ينطوي عليه من بذاءة، وانفتاحٍ جنسانيّ، ولما يحفل به من ازدراء للسُّلطة، وسطوةِ تقاليد الفودوعلى الاحتفالات.3إضافة المحرر: الفودو: Haitian Vodou: اعتقادٌ يزواج بين الديانات الإفريقية والكاثولوكية، ويشيع فيه السّحر والخرافة.

من المناسب أن نتذكّر في هذا المقام أغنية "Jojo Domi Dey- انتهت اللعبة يا جوجو"، وهي الأغنية ذائعة الصيت في الحركة الاحتجاجية الراهنة، التي استَحضَرَت واستثمرَت هذه الروح الكرنفاليّة الشعبيّة. تندرج الأغنية في صنف إيقاعات الرابوداي (Rabòday)، حيث تمتزج الموسيقى الإلكترونية وإيقاعات الفودو التقليديّة في توليفة يلتقي فيها العصريّ الفائق مع التراثيّ القديم في هجنة توليديّة، وهي الخلطة التي لطالما كانت محرّك عمل للموسيقى الشعبيّة. على الرغم من كون الأغنية مقوماً ثابتاً في الكرنفالات السابقة، إلا أنّه جرت إعادة تأويلها بين المحتجين، لتكتسب معانيَ جديدة توحي بالاستخفاف بالسُّلطة والتمرّد عليها.

 

لبنان: ارْقص لأجل حريتك

ارتأى رئيس الوزراء اللبنانيّ، سعد الحريري، أن يحفظ ما بقي من ماء الوجه بقراره التنحي عن السُّلطة، بعدما دخلت البلاد في طور ثوريّ مفتوح. لم يكن هذا التنحي مقنعاً وكافياً في نظر الحركة الاحتجاجيَّة، تلك التي تطوّرت من  احتجاجٍ على الضريبة المفروضة على تطبيق الـ"واتساب". سرعان ما تحوّلت الحركة إلى تمرّد ثوريّ واسع النطاق ضدّ اللامساواة المتنامية، وضدّ الطائفيّة التي ترعاها الحكومة.

إنّ أجندة الحركة الثوريّة في لبنان هي إعادة تشكيل كلّيّ للبلد، كما توضح الرسوم الجرافيتيّة التي تزيّن جدران العاصمة. بيروت هي المدينة التي يشار إليها غالباً بأنّها "باريس الشرق الأوسط". من المعلوم أنّ ثروات هائلة تدفقت إلى المدينة في العقود الأخيرة، كما هو الشأن في معظم المدن الكبرى. لكنّ هذه الثروات المتدفقة دائماً ما كانت تنتهي في جيوب الطبقات الأعلى. في السنوات الأخيرة، أتت سياسات الخصخصة المستعرة على المجالات العامة، فيما تم تكثيف الاستطباق (Gentrification) في الأحياء وأُغلِّقَت المنشآت الأيقونيّة في وجه العموم. 4الاستطباق: هي عملية إحلال طبقي عمراني تستهدف تأهيل الأحياء الشعبية باستدراج المقاولات والاستثمارات، بشكل يغري الفئات الميسورة المتوافدة على حساب الطبقات الدنيا من ساكني هذه الأحياء التي تستبعد إلى دوائر أبعد.

لذا فإنّه من المفهوم أن تثير المحاولات الجارية لاسترداد هذه المجالات العامة البهجة في النفس. في لبنان كما هايتي، ضمّت الاحتجاجات موسيقيّين ومنسّقي الأغاني (DJs)، ممن تناوبوا على الشاحنات المكشوفة لتصدح ساحات الاحتجاجات وشوارعها بالموسيقى الشعبيّة. من طرائف الاحتجاجات في لبنان كان الفيديو الشهير الذي يُظهر بعض المحتجّين متحلّقين حول سيّارة يركبها طفل صغير بجانب أبيه وهم يردّدون أغنية الأطفال "Baby Shark"، حتى يُهدئوا من روع الطفل المذهول. إنّ هذا الفيديو شاهدٌ حيّ لجميع الآباء حول العالم أنه لا مفر أبداً من لعنة هذه الأغنية. فوق ذلك كله، يجعلنا هذا الأمر ندرك جيداً مدى قدرة الجماهير على استيفاء مقتضيات التضامن الجديدة، التي فُرضت عليهم بموجب الانتفاضات الشعبية، بشكلٍ مبدعٍ ومرح.

شَبَّهَت العديد من التقارير مزاج الاحتجاجات في لبنان بالمهرجانات الموسيقيّة. إنّه وصف أخّاذ، ليس فقط لأنّ لبنان تزخر بفعاليّات الموسيقى الإلكترونية الراقصة، بل لأنّه يذكّرنا أيضاً بتاريخٍ طويل من انخراط الموسيقى الإلكترونيّة والرايفز في الحيز العام، بما يسمح بإعادة تمثل جماعيّ لهذا الحيز، بعد أنْ مسخته النيوليبراليّة إلى خرابة معدومة النفع.

أما في طرابلس، فقد أضحت شرفة إحدى الشقق منصةً موسيقيَّة، فيما صارت الشوارع المقابلة لها -حيث اعتاد الناس المرور إلى وجهاتهم غير آبهين ببعضهم- مسارح يتشاركون عليها الرقص. ما كان يوماً ما حيّزاً مطوقاً بحدود المحظور، جعلت منه الاحتجاجات فجأة مُتَنَفَّساً ومسرحاً للترفيه عن المتظاهرين.

https://twitter.com/arabnews/status/1185641698019414017?ref_src=twsrc%5Etfw%7Ctwcamp%5Etweetembed%7Ctwterm%5E1185641698019414017&ref_url=https%3A%2F%2Fjacobinmag.com%2F2019%2F11%2Fmusic-uprisings-haiti-lebanon-chile-protests

تشيلي: أغانٍ جديدة، استُجدّت مرّة أخرى

في البدء كانت مغنيّة الأوبرا. مع توسّع رقعة انتشار الاحتجاجات بسانتياغو، التي تطوّرت من حركة احتجاجيّة طلابيّة تتحدى الزيادات المفروضة في أسعار النقل إلى إضرابات ومواجهات في الشوارع، أطلّت أيلين جوفيتا روميرو برأسها عبر النافذة لتبدأ الغناء، غير مبالية للأمر العسكريّ القاضي بحظر التجوال. أمّا الأغنية، إن كنت تتساءل ما هي، فكانت رائعة المناضل الشهيد فيكتور جارا "El Derecho de Vivir en Paz- الحق في العيش بسلام".

بعد مرور أسبوع، احتلّت حشود مليونيّة شوارع تشيلي، فيما انبرى آلاف المغنيين وعازفي الجيتار لتأدية الأغنية ذاتها. عقب ذلك، احتشدت فرقة أوركسترالية كاملة قبالة كنيسة "Basílica de los Sacramentinos" لتقديم الأغنية الشهيرة " El Pueblo Unido Jamás Será Vencido"، وهي من كتابة وأداء رفاق فيكتور جارا في مجموعة "Nueva Canción- الأغنية الجديدة" سيرجيو أورتيغا وفرقة Quilapayún.

https://www.youtube.com/watch?v=LoKEnMENZn4&feature=emb_logo

لا شكّ أنّ لهذه العروض الموسيقيّة رمزيّة مهيبة الوقع، لكن أهميّتها لا تنحصر فقط في هذا الجانب، خاصّة أن مجموعة "الأغنية الجديدة" كانت حركة موسيقيّة اشتراكيّة بوضوح لا لبس فيه. تصدياً لما اعتبره مناصروها غزواً ثقافياً محدقاً يقوده الغرينغو (Gringo)، سعت مجموعة "الأغنية الجديدة" إلى ابتداع نهج بروليتاريّ لاتيني منحاز للتعاطي مع الموسيقى الشعبيّة، في مقاربة قوامها مشكلٌ من الأغنية الفلكلوريّة الشعبيّة، والروك السايكدليك، والأناشيد الوطنيّة الكفاحيّة.5يحيل اسم الغرينغو إلى الأجانب على الثقافة اللاتينية، وبالأخص إلى مواطني الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. كان الهدف هو استثمار وتطويع التجارب المتعددة والمتناثرة للتابعين (Subaltern) لصياغتها في سردية يكون فيها المستقبل لهم وفي حوزتهم.

 بالاعتماد على ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في تشيلي والعالم كلّه، يمكن فعلاً أن تكون هذه العروض الموسيقيّة العامة قصة نجاح لحركة الأغنية الجديدة ولو جاءت متأخرة قرابة خمسين سنة.

كثيراً ما يُنظر للمقهورين والمضطهدين، في التيار الثقافي السائد، على أنّهم متخلفون وخارج التاريخ، وإذا ما استجلبوا للحاضر فإنما على مضض ومع شيء من الامتعاض. يتحقق "التقدم"، في أحسن الأحوال، على مستوى يفوقهم؛ وفي أسوأها، ينفيهم التقدم خارج حدوده. كان أوغيستو بينوشيه على علم بذلك، فأقدم على قتل فيكتور جارا مع آلاف آخرين من التشيليين، في سبيل إرساء نظامه العسكريّ، عقب الانقلاب الذي قوّض المشروع التشيلي الاشتراكيّ لسلفادور أليندي. لقد ذهب استبداد نظام بينوشيه إلى أبعد ما يمكن تصوره حين مُنعت أنواع عديدة من الآلات الموسيقيّة التراثيّة والأصيلة.

رغم الوضع القائم، فإنّ للحركات الديمقراطيّة الشعبيّة طريقة للكشف عن مدى راهنيّة الماضي، ولإعادة تقديم ما كان رازحاً تحت القمع والنسيان، ووضعه في مقدّمة الأحداث. في هذا السياق، لا تتوخّى الأغاني المُجدَّدَة إعادة تقديم الزمن الماضي، بل إنّها تعيدُ رسمَ تاريخٍ جديدٍ وتستشرف مستقبلاً آخر جديداً، ينبلج عنه أفق نستعيد فيه السيطرة على إيقاعات حيواتنا، مهما بدا هذا الاحتمال ضئيلاً.