5 يوليو 2021

دكّان "الجدعنة" بإدارة الورد وإخوانه

دكّان "الجدعنة" بإدارة الورد وإخوانه

كأنّها نبوءةُ 2021، أغنيّة "إنْ أَنْ" لمُغنيي الراب "ضبور" و"شب جديد". نُشرت الأغنية في 30 أبريل/نيسان، حاملةً مضامين وطنيّة ربّما تكون لأوّل مرة بهذا الوضوح السياسيّ عند "بلاتنم" الشركة المُنتجة للأغنية. 

في بداية الفيديو تظهر عبارة "إنْ أَن" مكوّنةً من إسمنت الجدار الفاصل، فيما يبدو أنّها إشارة بأنّ ما قد آنَ أوانُه هو هدّ هذا الجدار الذي يُجزّء فلسطين ويحوّلها إلى شظايا، والمحروسِ بكاميرات المراقبة والأبراج العسكريّة، والذي لا تمنع "إسرائيل" تجاوزه فحسب بل تمنع حتى الاقتراب منه. لكنّ "شبابَ الورد" -كما يظهرون في كليب الأغنية - يجتمعون أمامه يُعدّون الشواء ويطبخون الأفكار غير مُكترثين لوجوده الثقيل. 

النشيد الوطنيّ الفلسطينيّ

كثيرةٌ هي التعبيرات والإشارات التي تبثّها الأغنيّة، لكنّ المَهمّة التي تبدو أنّها أتت لإنجازها مُحدّدة وواضحة. توضّح الأغنيّة تقاسيم وجوه كلٍّ من العدو والصديق: العدوّ هو "إسرائيل" ومِن ورائها "الهَلسات" الذين لا يُعتَمَد عليهم في مواجهتها. أمّا الصديق فهو المقاومة والجدعان شباب الورد الذين يهبّون في الفزعات. 

أماكن تواجد هؤلاء الجدعان عابرةٌ لحدود السجن والجغرافيا التي هندستْها "إسرائيل"، فمِنْ غَزّة المُحاصرة إلى القدس "لا شرقيّة ولا غربيّة" مروراً بسجن "الجلمة" في حيفا، و"نفحة" في النقب، وصولاً إلى أصحاب الورد في الضفّة. 

هكذا، أرست الأغنية قواعد للعلاقة النديّة مع "إسرائيل"، ورسمت ملامحَ شريحةٍ مُجتمعيّةٍ كان لها أثرٌ بارزٌ في المواجهة الأخيرة: شباب البلد، شباب الورد، الدوديم، ولاد القدس، أو من يوصفون مُجتمعيّاً بـ"الزعران".

اقرؤوا المزيد: "شب جديد.. لا تمت قبل أن تكون دوداً".

هذا ما يُمكن القول بأنّ الأغنية تنبّأت به، لذا حلّت أهلاً على كثيرٍ من الفلسطينيين والعرب، ونزلت سهلاً على مسامع أناسٍ لم يكن بمقدورهم من قبل سماع موسيقى الراب أو تقبّل هذه الشريحة المُجتمعيّة أو حتّى سماع الشتائم التي يتلفّظون بها. انتشرت الأغنية على المنصّات الصوتيّة (فتجاوزت مُشاهداتها على "يوتيوب" مثلاً الـ 16 مليون مُشاهدة حتّى نشر المقال)، وتمّ تداولها بكثرة على منصّات التواصل الاجتماعي كـ"التيك توك"، حتّى غدت وكأنّها نشيدٌ وطنيٌّ للهبّة الأخيرة. 

شروطُ الالتحاق

لن تُخطئء "الدود" (ابن العم بالعبريّة) حين تراه، إذ ستعرِفُه من لباسه. يرتدي "الدود" عادةً حذاءً وطاقيّة وبنطالاً رياضيّاً (من نوع أديداس أو نايك أو كولومبيا- نسخة غير أصلية طبعاً)، ويحلق شعره وفقاً لـ"قصة الصحن" التي يُخفَّفُ فيها شعر الرأس من الجوانب إلى درجة صفر، فيما يُترك الشعر في أعلى الرأس أطول من ذلك. 

البعض يُمسك مسبحةً ويرتدي قلادةً، وآخرون يتنقلون بالـ"فسبا" (الدراجة الناريّة، كما يظهر في بداية فيديو الأغنية)، أو بسيّارة من ذلك النوع الذي تقترب أرضيته من الأرض مع "جنطات" مُميّزة، أو يسيرون برفقة كلبٍ مُخيف (ليس من نوع "هاسكي").

عدا عن هيئته، فإنّك ستعرفه من مشيته التي يحرصُ فيها على إظهار "الفخر"، ومن تصرفاته التي يستعرضُ فيها ما لديه من قوّةٍ وسيطرة على الشارع. معظم شباب "الدود" يُدخّنون، وحديثهم شبه الدائم عن السيّارات (لدرجة أنّهم يواسون المُصاب برصاصة مطّاطيّة مثلاً فيقولون له: بالجناح، أي أنَّ الإصابة بسيطة كإصابة جناح السّيارة) ودخول الجيش على البلد والمشاكل، حتّى يبدون كأنّهم يفنون أنفسهم في سبيل البحث عن مغامرةٍ هنا أو طوشة هناك. 

صورة من أغنية "إن أن" على موقع يوتيوب.

ليس من الصعب كذلك أن تُميّز قاموس كلماتهم: "بشرفي"، "بعرض خواتي"، "خال"، "بسيدر"، "ستام"، وغيرها. أمّا على مستوى القيم، فإنّ قيم الشجاعة والقوّة ومواجهة المستحيل والنخوة والجدعنة والرجولة وعدم التنازل هي ما يتبارزونَ عليه بين بعضهم البعض: "إذا فش حجار نضرب بالقلب" و"أنا أجدع شب، خسرت خسرت وما زلت ألعب" كما في أغنية "الشيخ جراح" للضبور. وفي أغنية "إن أن": "بدك جبال وعادي بنهدلك"، "تخاف الليل نضويلك عتمة"، "بندبر حالنا نحلّ اللغز" (في وصف الوضع المُعقّد لأهل القدس)، "ودموع ما تسيل إذا فش مُسيل" (إذ دموعه لا تسقط إلا إذا استدعى ذلك مُركّب كيميائي يُطلقه الجنديّ). 

لهذه الشريحة ملامحُ معيّنة؛ شيفرةٌ تُمكّنك من معرفتهم أو الدخول في جماعتهم. أسلوبهم في الحياة يدور حول موضوعٍ أساسي: الصحاب، والتحضير لليوم الذي يحتاجونك فيه. يقول الضبور: "بالجدعنة أنا فاتح دكّان"، "احنا الجدعان واللي زينا قلال". 

وهنا تحديداً المسألة: أنّ الجهد الذي يبذله الصديق في الوقوف إلى جانب صديقه ليس سهلاً، إذ يحتاج إلى شجاعةٍ ومروءة تكاليفها قد تكونُ باهظة (تشوّه في الوجه، حبسة، وغيرها)، لذا فهي خاصّة بقلائل. وهنا أيضاً يتبارزُ الشباب لتحصيل مكانة في شللهم، عبر تقديم مجموعةٍ من المواقف "المُشرّفة"، فإمّا ينجح ويصير سبعاً، وإما يفشل في هذه المهمّة وينضم إلى جماعة "الهلسات".

السبع والهلس

تُقرّع الأغنية فئةً من الناس، وهي "الهلسات"؛ أي أولئك الذين لا يمكن التعويل عليهم في أوقات الجدّ والحاجة، والذين يبيعون أصحابهم عند أول مفترق طرق من اختبارات الحياة التي تعرضها على الدوام. توبخهم حتّى تُبرز فئةً أخرى مُضادةً لهم وهي شباب الورد: الجداع والسباع، الذين تظهر معادنهم في وقوفهم بجانب أصحابهم في السرّاء والضرّاء، لا لمصلحة مُعيّنة؛ "مهو كلشي باين في المحنة".

لا تجد الفئة الأولى من الناس في مواجهة "إسرائيل"، فيما تنتخي الفئة الثانية وتهبّ للفزعة في باب العامود ومقارعة العدو في الشيخ جرّاح وصدّ المستوطنين في الجامع العمري الكبير في اللد. وكأنّ "الضبور"، الذي عرّفه "شب جديد" برادارٍ للهلسات، يقول لنا بأنّ قيم الجدعنة والرجولة والشرف والمروءة وما شابهها من قيم يتمتّع بها شباب الورد، تظهر جليّاً عند مواجهة الاحتلال. 

رآهم الناسُ في المواجهات الأخيرة، إذ كانوا على كلّ ثغر، وامتلأت منصّات التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لهم وهم يواجهون الجيش، ويُزيلون الكاميرات، ويُشعلون الإطارات ويُشعلون النار في مراكز شرطة الاحتلال ومركباتها، ويستهزئون بالجنود والمُجنّدات. 

اقرؤوا المزيد: "أعمدةُ المواجهة في باب العامود".

هذا الرصيد الذي عند السبع يُمكّنه من الشراء بالدين من دكّان "الجدعنة"، فيما ذلك ممنوع على الهلسات، كما يُحدّد ضبور. لأنّنا نضمن سداد السبع للدَّين الذي أخذه، فيما الهلس شخصٌ غير موثوق. وبقليلٍ من الترميز لهذا الدكّان، فإنّه أيضاً دكّان المُجتمع الذي أعارَ السباع مجموعةً من قيم الشجاعة والمروءة والنخوة، وغرس فيهم حبّ مقدّساتهم وأرضهم، وقد سدّوا جزءاً من هذا الدَّين في المواجهات الأخيرة. 

وبالرغم من الاحتفاء الذي لفّ هذه الجماعة في المواجهات الأخيرة، لما أظهرته من بسالة في المواجهة، وبذاءة أيضاً شفت صدور قومٍ لا يُمارسونها. غير أنّ أفراداً من ذات هذه الجماعة كانت تُراكم طوال الوقت رصيداً سيئاً مُجتمعيّاً، لما يلتصق بها من أفعالٍ كالزعرنة والتحرّش وإثارة المشاكل وإزعاج التفحيط في السيّارات وإطلاق النار ومُمارسة العنف والاستقواء على الضُعفاء في المُجتمع. 

فلسطيني يمارس الباركور خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال في باب العامود بتاريخ 9 مايو 2021. (تصوير MENAHEM KAHANA : AFP)

لكن على ما يبدو أنّ وجود حالة سياسيّة مُشتعلة في البلاد أعاد تصويب الأدرينالين "الفاقع" بهؤلاء الشباب، من أفعال عنيفة موجّهة صوب المُجتمع إلى أفعال عنيفة موجّهة صوب العدو. الفراغ الذي تتركه الأحزاب في الشارع، يملؤه هذا الجيل من الشباب، ويتركون المجال لطاقتهم للتحرّك بدون سرج يضبطها. لم يكن يتوقّع أحد أنّ جريان هذه الطاقة في الشارع ستحوّل "زعران" المدينة وشبابها إلى حرّاسٍ لها يحمونها ويصدّون اعتداءات الإسرائيليين، لأنّ الظنّ كان بأنّها شريحة منزوعة السياسة وليس لها أيّ همّ وطنيّ، باستثناء بعض ردّات الفعل وفورة دم الشباب التي تظهر مثلاً في مواجهات الحواجز العسكريّة.

"بلجان بلجان"

لم يكن ذكر سجني "الجلمة" و"نفحة" أكثر تعبيراً من مشاهد التصوير التي عبّرت عن مكانين وزمانين مُهمّين في القضيّة الفلسطينيّة. أمّا المكانين فكانا السجن، وخارجه. ليس "ديوان الجدعنة"، بما تحويه ساحته من كثافة في حضور قضبان الحديد، إلا رمزيّة للسجن وقد فُتح بابه. فالديوان الذي هو السجن، يجتمع به الجدعان: "رنات على نفحة وكلّه بخش"، "وصحابي ملان في الجلمة، بنجتمع بنعمل غلبة". أمّا الزمانين فكانا الانتفاضة الثانية، واليوم. كان ثمّة نوعين من التصوير، الأول بألوان طبيعيّة تُبيّن أداء كل من "الضبور" و"شب جديد" والتفاف أصحابهم عليهم. أما الثاني فكان بألوان باهتة يُرافقها تشويش في التصوير مع "زووم إن" على وجوه الأشخاص يوحي بتصوير غير احترافيّ، وهو ما يُعطي شعوراً بأجواء كتائب شهداء الأقصى في الانتفاضة الثانية. 

في الأغنية وعي سياسيّ شعبيّ، غير مُحزّب، أي يُمجّد المقاومة مُتجاوزاً لاعتباراتٍ فصائليّة. فلقد نشأ هذا الجيل من الشباب، وقد كان دورُ الأحزاب في تراجعٍ كبير، ولم تعد جهات استقطاب فاعلة. لذا فإنّ التعبيرات السياسيّة والوطنيّة لا تجري من خلال هذه الأحزاب، بل تكون فوقها، فالتركيز على الفعل أكثر من الجهة الفاعلة: المقاومة في غزّة. هكذا أصبحت "حماس" مثلاً، بوصفها حركة إسلاميّة، مُعبّرة عن جماعة لا تستمد قيمها من أيديولوجيا هذه الحركة. 

لذلك ليس صعباً على هذه الجماعة أن تتوحّد في سبيل مواجهة الاحتلال، بغضّ النظر عن الاختلافات الاجتماعيّة أو الدينيّة أو السياسيّة، المهم هو أنّ مقاومة غزّة لم تضع "واطي" لـ "إسرائيل". لذا رأيناهم فرحين باستجابة المقاومة لهبّتهم، لدرجة أنّ كثيراً منهم، وممن ينتمون إلى "فتح"، قد هتفوا للضيف وأبو عبيدة، ورفعوا رايات "حماس" التي لم يستطع أنصارها حملها في مكانٍ كالضفّة. 

وترى كذلك، أنّ هذه الجماعة قد هبّت لنجدة الأقصى، وحتّى أنّ أكثرهم ممن لا يُصلّون يُصبحون كذلك "جكراً" وتحدّياً للاحتلال، بل ودعى جزءٌ منهم إلى المُشاركة في فعاليّات الفجر العظيم التي وصل امتدادها مدن الضفّة والقدس. 

بخ!

"حتموت من الرعب من الأرض نطلع زي جن، بخ!"، "احنا جن منطلع ما بتشوفناش"، يُغنّي كلّ من شب جديد والضبور يصفون جماعتهم مُعتدّين بها. وفي هذا الوصف تناصٌ عجيب مع دور المقاومة في غزّة، التي عُرف عن مقاوميها مُباغتة الإسرائيليين بالخروج من الأنفاق وتنفيذ عمليّات وعمليّات خطف، كما في الأغنية: "في بغزّة رجال تحفر أنفاق، ترجع بشوال وملان أشلاء".

صورة من أغنية "إن أن" على موقع يوتيوب.

وإن كان ضبور وشب جديد يضعان شباب الورد إلى جانب المقاومة في غزّة حين يتشابهون بفعل المُباغتة بالخروج من تحت الأرض، فإنّهما بذلك يضعان طاقيّة النايك أو الأديداس (كرمز لهذه الشريحة) في موازاة اللثام في غزّة، مع اختلاف السياقات والأدوار. إلا أنّ هذه الطاقيّة -بالإضافة إلى مؤشرات أخرى-، وما يحمل صاحبها من هيئة "ولاد القدس"، قد باتت في المواجهات الأخيرة في القدس بحسب ملاحظة البعض، هدفاً لرجالات الشرطة الإسرائيليّة، فيوقفون مُرتديها ليعترضوا طريقه فيسألون عن هويّته، وربّما يُفتّشونه ويلقون إليه تُهمةً لاعتقاله. 

لا تستند شريحة الورد في مواجهتها "إسرائيل" على كتيّب إرشاديّ في النضال والمقاومة، بل كانت قيم النخوة والحمية والشجاعة التي بنتها مُجتمعيّاً، هي ما سندها لاحقاً في مواجهة العدوّ سياسيّاً وفي الميدان. من ذلك ما يُشير له "شب جديد" في أغنية "متكتك": "منحكيش أسماء إذا حدا طلب"، وكأنّ الحثّ على عدم الاعتراف في السجن، في فترة تغيب فيها جلسات التثقيف التنظيميّة، تكون لأسبابٍ مُتعلّقة بالرجولة أكثر منه بالوطنيّة. لذلك نجد تعبيرات "التعليم" على العدو أكثر حضوراً من غيرها: "حفيدي **** بفلاشة"، والفلاشا هم جماعة اليهود الذين في معظمهم أثيوبيون. 

إنّ في طاقيّة الأديداس والنايك وبنطال الكولومبيا المُقلّد، سحرٌ لتجميع هذا الكمّ من الشباب لمواجهة المحتلّ دون درسٍ ثوريّ. يُقاتلون "إسرائيل" لأنّ وجودها يُهين من الرمزيّات التي نشأ عليها الواحد منهم. في المواجهة الأخيرة، ما كان بحوزة شباب الورد من ذخيرة يواجهون بها عدوّهم هو: الفزعة، وقيم أخذ الحقّ بالخاوة لأنّه "مين همي تا يخاووا علينا". 

هذا هو "البلجان" الذي قد تُحيلنا إليه الأغنية وتعد بفعله "بطريقة تليق تفصيل على حدا اللي اعتدى"؛ فتح السجن، محو الجدار، استعادة الانتفاضة الثانية، المقاومة وإعادة فتح ملف الأسرى، حضور "الدود" القويّ وقد تحوّل إلى سلاح نوويّ فتّاك.