في 5 أيلول/ سبتمبر من العام 2003، وفي أحد منازل قطاع غزّة، كان كلّ من الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ومحمد الضيف. مثل هذه المعلومة، لم يكن "الشاباك" ليفوّتها. قصفت طائرات الاحتلال الطابق العلويّ من المنزل بقنبلة تزن ربع طن، تدمّر الطابق بالفعل، لكن قيادة الصفّ الأول من حركة "حماس" كانت في الطابق الأرضيّ، فلم يصبها أذى.
لاحقاً، استُشهد الشيخ والرنتيسي، لكن الضيف (الذي حاولوا اغتياله أكثر من مرّة) لا يزال على رأس عمله. كلها دليل على أنّ سياسة الاغتيالات الإسرائيلية والتلويح بها على الدوام، لا تؤتي أُكلها. لم ينته تنظيم فلسطينيّ باستشهاد قياداته، كما لم تُصِب جميع أطنان المتفجّرات أهدافها.
واليوم، وعلى إثر ما يُنسب إليه من إشعال الضفّة الغربيّة، يلوّح الإسرائيليون لنائب رئيس حركة حماس صالح العاروري، بالاغتيال. يهدّد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو: "من يخطط للمساس بنا، من يموّل وينظم ويرسل الذين يمارسون الإرهاب ضدنا، سيدفع الثمن". يردّ العاروري: "أشعر أنني تجاوزت عمري الافتراضي، ومتى جاءت الشهادة فأهلا بها".
اقرؤوا المزيد: منذ الطفولة وحتى "وحدة الساحات".. من هو صالح العاروري؟
يحاول المقال تقديم عرض لسياسة الاغتيال الإسرائيلية؛ كيف أصبحت سياسة؟ ومتى يلجأ الاحتلال إليها؟ وهل تنجح في تحقيق هدفها؟
العصابة
بدأت عمليات الاغتيال في فترة مبكرة من التاريخ الصهيوني، أي مع بداية تشكّل العصابات الصهيونية. كان محرّكها الأساسي هو ردّ الفعل والانتقام من شخصيّات أضرّت بالصهيونيّة أو وقفت ضدّها. فمثلاً كانت العصابات الصهيونيّة تقتحم البلدات العربيّة وتعذّب الفلسطينيين وتعدمهم، كان منهم الشرطي البدوي عارف العرسان الذي أعدم بالرصاص عام 19161رونين بيرجمان، "قم واقتل أولاً- التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية"، ترجمة: الهدهد للشؤون الإسرائيلية، ص19.. حتّى إنّهم نفّذوا عمليّات ضد شخصيّات بريطانيّة لرفضها هجرة يهود بريطانيا إلى فلسطين.
ربّما لم تأخذ الاغتيالات شكلها المُمأسس، إلا بعد قيام دولة الاحتلال عام 1948. بات الاغتيال أداة تتحرّك وفق أهداف سياسية محدّدة، من قبيل ملاحقة "إسرائيل" للعلماء العرب وتصفيتهم، لإبقاء الدول العربية المحيطة بها ضعيفة علميّاً وعسكريّاً، كما جرى مع علماء التجربة النووية العراقية وعلماء مصريين.
اقرؤوا المزيد: من يهوديّة الذرّة إلى يهوديّة الدولة: العراق: حافة المعجزة
متفجّرات ورصاص وشوكولاتة
بعد انطلاق العمل الفدائي في الستينيات وتوسّع قوة التنظيمات الفلسطينية في السبعينيات، استخدمت "إسرائيل" سياسة الاغتيالات لتحقيق أهداف عدّة، لعل أبرزها كان محاولتها قطع ارتباط فصائل "منظمة التحرير الفلسطينية" بالمنظمات الثورية الأخرى في العالم، مثل "الجيش الأحمر الياباني"، وذلك من خلال اغتيال المسؤولين عن تنظيم هذه العلاقات مثل وديع حدّاد، الذي كانت تربطه علاقات متميزة بمختلف التنظيمات الثورية في العالم واستثمرها في مواجهة "إسرائيل".
كما استهدفت شخصيّات رئيسة في العمل العسكري والسياسي الفلسطيني، فشملت الاغتيالات غسان كنفاني وأبو حسن سلامة وكمال عدوان وخليل الوزير وكثيراً غيرهم من القيادات الفلسطينية. أما طرق الاغتيال، فقد تعدّدت أشكالها: زرع المتفجّرات في سيارة الشخص كما في اغتيال كنفاني في بيروت، أو زرعها في منزله مثل اغتيال محمود الهمشري في باريس، أو استهدافه بالرصاص مثل اغتيال باسل الكبيسي في باريس، أو عن طريق السم كما جرى مع وديع حداد في العراق.
اقرؤوا المزيد: اغتيالات وأسلحة كيماوية
في الغالب، لم تكن "إسرائيل" تعلن مسؤوليتها عن عمليّات الاغتيال. وكانت تطمح في ذلك، إلى تجنّب وقوعها في أزمة دبلوماسية مع الدول التي نفّذت فيها عمليّة الاغتيال، كما في روما وقبرص، وأيضاً لتأزيم العلاقات بين منظمة التحرير والدولة المستضيفة.
قصف الطيران
في الثمانينيات والتسعينيات، سعت "إسرائيل" إلى تصفية كل من له علاقة بالعمل العسكري المسلّح في سبيل إنجاح "مفاوضات السلام"، مثل خليل الوزير أبو جهاد. وفي الوقت نفسه، أصبح المنظور الإسرائيلي متجها أكثر نحو التنظيمات الإسلامية الناشئة مثل حركة حماس و"الجهاد الإسلامي"، فلم يتوقفوا عن تنفيذ العمليات ضد الاحتلال في الأرض المحتلة، وعليه نفّذت عمليات اغتيال ضد شخصيات بارزة مثل يحيى عياش وفتحي الشقاقي، في محاولة لإيقاف سيل عمليّات المقاومة، إلا أنّها أخذت بالتزايد بعد هذه الاغتيالات.
استمرّت الاغتيالات من أجل إيقاف العمليات حتى الانتفاضة الثانية، والتي استفادت فيها "إسرائيل" كثيراً من غياب العامل الدولي الذي كف سمعه وبصره عما تفعله تحديداً بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، إذ عمد الاحتلال إلى تصفية كل قيادات الصف الأول من التنظيمات، سواء السياسية أو العسكرية، فكان اغتيال أبو علي مصطفى والشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة ورائد الكرمي وغيرهم كثير، بهدف وقف الانتفاضة وإحباط العمليات.
ما ميّز الاغتيالات في هذه الفترة، هو استخدام القصف الجوي بكثافة وبصورة متكرّرة. كثيراً ما كان القصف تدميرياً يطال محيط المكان من سكّان وبنايات، بهدف جعلهم يدفعون ثمن أنهم حاضنة للمقاومة. وهو إضافة على ذلك، كان يهدف إلى بثّ الخوف لتحقيق أكبر قدر ممكن من الردع في نفوس المقاومين، غير أن الانتفاضة رغماً عن ذلك استمرّت لسنوات.
ما الذي جرى بعد الانتفاضة؟
بعد انتهاء الانتفاضة، تركّزت عمليات الاغتيال على قطاع غزة، باعتباره الساحة الرئيسة التي باتت تنشط فيها المقاومة المسلّحة وقد تراكمت فيها القوة العسكريّة. خلال الحروب والجولات المختلفة على القطاع (2008 - حتّى اليوم) تمكن الاحتلال من اغتيال بعض قادة المقاومة، مثل: أحمد الجعبري ورائد العطار وبهاء أبو العطا وجهاد الغناّم. كذلك استمرت الاغتيالات في الخارج، فاغتيل محمود المبحوح في دبي عام 2010، واغتيل عام 2016 محمد الزواري في تونس وعمر النايف في بلغاريا.
أما الضفة الغربية، فشهدت خفوتاً في عمليات الاغتيال بعد الانتفاضة، في حين أن الذي تبقّى منها كان حصيلة مطاردة واشتباك بين المقاومة وقوّة الاحتلال. عام 2010 اغتيل نشأت الكرمي، وعام 2014 اغتيل مروان القواسمي وعامر أبو عيشة، وعام 2017 اغتيل باسل الأعرج، وعام 2018 اغتيل أحمد جرار وأشرف نعالوة، وعام 2019 اغتيل عمر أبو ليلى. هذه بعض الأمثلة، المشترك فيها هو تنفيذ الاغتيال عبر قوة إسرائيلية خاصة تتسلل إلى مكان فيه مُطارَد نفذ عملا عسكريّا.
بعد معركة "سيف القدس" عام 2021، بدأت مرحلة جديدة عنوانها تشكّل الخلايا العسكرية، بدأت بـ "كتيبة جنين" و"كتيبة نابلس"، ثمّ تدحرجت إلى أريحا وطولكرم وطوباس وغيرها من المناطق. وفي ظل ارتفاع وتيرة العمل المقاوم في الضفّة، عادت الاغتيالات مرة أخرى. لعلّ أكثرها وضوحاً كان اغتيال الثلاثة: أدهم مبروكة (الشيشاني) ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط، خلال تجوّلهم في سيّارتهم نهاراً وسط مدينة نابلس، إذ كان اغتيالهم بهذه الطريقة المبالغ فيها محاولة من الاحتلال للقضاء على حالة آخذة بالتشكّل ويخشى توسّعها. وقد كان اغتيال تامر الكيلاني عبر تفخيخ درّاجة ناريّة مرّ بجانبها في البلدة القديمة، حدثاً استثنائيّاً عاد بالناس إلى سياسة التفخيخ في الانتفاضة الثانية.
اقرؤوا المزيد: "لا تُطلقوا رصاصكم في الهواء".. من هي كتيبة جنين؟
كذلك، اغتال الاحتلال الشبان الثلاثة: صهيب الغول، ومحمد عويس، وأشرف السعدي، بقصف من طائرة مسيرة خلال تنفيذهم عملية إطلاق نار بالقرب من حاجز الجلمة، وبحسب بيان الجيش فإنّ هذه عملية القصف الجوي الأولى التي ينفذها منذ عام 2006 في الضفة الغربية.
كالعادة، كان الهدف من مثل هذه الاغتيالات ردع جيل من الشباب عن المقاومة وتخويف الناس من الالتفاف حولها. وكالعادة، لم ينجح الأمر بالنسبة إلى "إسرائيل"، بل اتسعت رقعة المواجهة في الضفّة…
تاريخٌ من الفشل
يظنّ البعض - ممن يؤمن بأن "إسرائيل قوة لا تهزم" - أن مجرّد صدور قرار الاغتيال، يعني موتاً حتمياً، ولكن التاريخ وأحداثه يكذّبون هذا الظن. أمثلة ذلك كثيرة، لعلّ أبرزها فشل "إسرائيل" في الوصول إلى منفذي عملية "أولمبياد ميونخ" عام 1972، وقد اغتيلت شخصيات فلسطينية لا علاقة لها بالعملية لتغطية فشلهم، على حد وصف أحد المسؤولين في العملية.
فشل آخر منيت به "إسرائيل" عند محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن عام 1997، فعلى الرغم من نجاح تسميم مشعل إلا أن المنفذين قُبض عليهم، فدخل الاحتلال في أزمة دبلوماسية مع الأردن، أسفرت عن تسليم الترياق لإنقاذ مشعل والإفراج بصفقة تبادل عن الشيخ أحمد ياسين.
كذلك، فشل الاحتلال الإسرائيلي في محاولته اغتيال المسؤول العسكري للجهاد الإسلامي أكرم العجوري في سوريا عام 2019.
إلا عاد وحضر…
إذاً، يهدف الاحتلال من خلال سياسة الاغتيال إلى ضرب التنظيم أولاً، وتحقيق الردع بوقف العمليّات ثانياً. لكن الذي جرى أنّ التنظيم الذي يتعرّض لاستهداف كان يزداد قوة وتأثيراً، وأنّ اغتيال شخصيّات مثل أبو علي مصطفى ويحيى عيّاش كان يجرّ على "إسرائيل" عمليّات إضافيّة ونوعيّة.
اقرؤوا المزيد: قبل الشهادة بقليل
وفي مشهد الضفّة الحالي، لم ترتفع وتيرة عمليّات الاغتيال إلا وارتفع مقابلها العمل المقاوم. اغتيال جميل العموري كان سبباً في استمرار كتيبة جنين وتوسّعها، واغتيال ابراهيم النابلسي كان سبباً في التحاق العديد بركب المقاومة. وبحسب إحصائية مركز "معطى"، فقد شهد النصف الأوّل فقط من عام 2023، أكثر من 6700 عمل مقاوم، منها أكثر من 840 عمليّة إطلاق نار، قتل فيها 26 إسرائيلياً وأصيب أكثر من 240.
معنى ذلك، أنّ "إسرائيل" لم تغتل شاباً إلا عاد وحضر في وصية شهيد لاحق!