12 أغسطس 2020

البالونات الحارقة.. إيلام الاحتلال بأقلّ التكاليف

البالونات الحارقة.. إيلام الاحتلال بأقلّ التكاليف

في السّادس من أغسطس/آب الجاري عادت البالونات المتفجّرة والحارقة للانطلاق من قطاع غزّة نحو أحراش وحقول مستوطنات الغلاف، وتسبّبت باندلاع 12 حريقاً على الأقلّ، تضرّرت منها نحو ألفي دونم من الأراضي الزراعيّة. ردّاً على ذلك، أعلن جيشُ الاحتلال ليلة العاشر من الشهر الجاري، إغلاق معبر كرم أبو سالم حتى إشعار آخر، باستثناء دخول الوقود والمساعدات الإنسانيّة، وقصف بعض المواقع.

يأتي قرار استخدام سلاح المعابر من جديد تطبيقاً لتهديدات أركان حكومة الاحتلال نتنياهو-غانتس "بأن غزّة ستدفع ثمناً باهظاً وتتلقى ردّاً قوياً إذا تواصل إطلاق البالونات"، حسب تعبيرها، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار توصيات الجيش بعدم الانجرار إلى جولة تصعيدٍ جديدة. وفي المقابل، يستمر تذمر مستوطني الغلاف من الردّ الإسرائيليّ "الباهت" في الأيام الماضية، ومطالبتهم بميزانيات دفاعيّة إضافيّة لمشاريع منظومة الليزر المضادّة للبالونات الحارقة. 

اقرأ/ي أيضاً: "المسموح والممنوع.. معابر تحاصر غزّة".

استئناف إطلاقِ البالونات الحارقة والمتفجّرة للمرة الأولى منذ يناير/كانون الثاني 2020، يفتحُ البابَ مُجدداً للوقوف على هذه الظاهرة، ومحاولة فهم هذا السّلاح البدائيّ، والسؤال عن جدوى وصحّة توظيفه لتحقيق المزيد من "التسهيلات". إذ من المعروف أن البالونات تضغط على الاحتلال من أجل استعجال صرف المنحة الماليّة القطريّة، ودفع عجلة المشاريع الإنسانيّة في إطار تحسين ظروف القطاع، بمقابل إيقاف مسيرات العودة ووسائلها الخشنة، كما نصّت التفاهمات التي حظيت برعاية قطريّة ومصريّة. 

المشي على حدِّ السّيف 

قاد اشتدادُ الحصار على غزّة وانهيار الأنفاق، وتغيّر المشهد الإقليميّ، وتعثّر المصالحة، إلى تدهورٍ ملحوظٍ على الأوضاع المعيشيّة في القطاع، وصولاً إلى حرب عام 2014، والتي كان كسر الحصار أحدَ أهدافِها المُعلنة. وعلى كثرة المدخلات والمجاهيل، وتعدد المعطيات، وظروف الإقليم، لم تجد معادلة كسر الحصار حلّاً ناجعاً طوال 52 يوماً، بذلت فيها غزّة ومقاومتُها كلَّ ما في جعبتها. 

شكّلت تلك الحرب لحظةً لاستخلاص العبر والتأمل مطولاً في الاستراتيجيات والبدائل، وتبعها توجهٌ غير مُعلن نحو التروي واتباع سياسة النَّـفَـس الطويل في قرار الاشتباك المسلّح المباشر مع الاحتلال. 

مزارع "إسرائيلي" يحاول إطفاء حريق في حقل قمح بالقرب من مستوطنة ناحال عوز، نجم عن بالونات حارقة معبأة بالهيليوم. 15 مايو 2019.

تمرُّ السّنوات؛ حصارٌ يستمر ويشتدّ، وحاضنةٌ شعبيّةٌ نازفة ومُستنزَفة، ومحيطٌ إقليميّ مُعادٍ في أحسن الأحوال. وما بين المطرقة والسِّندان، وفي ظلّ الحقيقة الراسخة بضرورة إحداث تغيير ولو بالحدّ الأدنى المقبول شعبيّاً ووطنيّاً، قادت سياسةُ المشي الحذِر على حدّ السّيف إلى انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار، وما تبعها ميدانيّاً من وسائل مقاومة شعبيّة تنوّعت في أساليبها وأسلحتها. 

اقرأ/ي المزيد: "مسيرات العودة.. عن الإرادة والمُمكن".

البالونات المتفجرة، العبوات الناسفة المحلّقة إلى البلاد 

من أشهر هذه الوسائل وأكثرها حضوراً وفعاليةً وحداتُ "الطائرات الورقيّة والبالونات الحارقة". بدأت  هذه الوحدات نشاطَها الميدانيّ في الأيام الأولى لمسيرات العودة بشكلٍ فرديّ وغير مُنظّم. لاحقاً تشكّلت وحداتٌ مُتخصّصةٌ من الشّباب الفلسطينيّ في غزّة، بعضهم ينتمي إلى التشكيلات الرديفة شبه العسكريّة لفصائل المقاومة، وحملت عدة مسميات، مثل: "أبناء الزواري"، و"برق الجهادية"، و"فرسان العودة".

نشطت هذه الوحدات باستخدام وسائل الاحتجاج الخشنة، في قرعٍ مُستمرٍ لجدران الخزان، وإرباكٍ متواصل لجيش الاحتلال ومستوطنيه. وبما هو دون الراجمة والصّاروخ من العتاد، حوّلت هذه الوحدات حدودَ غزّة مع الأرض المحتلة إلى ساحة حربٍ لا تخبو فيها أصواتُ الانفجارات وألسنة اللهب.

عكّست هذه النشاطات الميدانيّة نصّ المعادلة: "لا حرباً شاملة ولا هدوءً مجانيّاً"، وهو تأرجحٌ في حقل ألغام اللاسلم واللاحرب، في محاولة للتأثير على الكيان عبر خاصرتِه الضعيفة، وخطِّهِ الأول؛ مستوطنات ومدن غلاف غزّة. 

يمكن تقسيم أسلحة هذه الوحدات إلى ثلاثة "أجيال" أو مراحل. في البداية، استخدم الشّبانُ الطائرات الورقيّة الحارقة، والتي كانت أدت إلى إحراق المحاصيل الزراعيّة والأحراش الملاصقة للسياج الفاصل تماماً، إذ أنّ المدى الذي كانت تصلُ إليه محدودٌ.

اقرأ/ي المزيد: "مقذوفات النّار واللهب.. في معنى "لنهدينهم سُبلنا"".

في المرحلة الثانيّة، استخدم الشّبانُ البالوناتِ الحارقة، والتي استكملت عمليات الحرق والإتلاف للحقول، ولكن بمدى أوسع، وزخمٍ أكبر في الإطلاق، وغزارةٍ في الانتشار. كما أنّها وفرّت أماناً أكبر للشبان، إذ لا يستلزم إطلاقُها الاقترابَ من السّياج.

شبان يُحضّرون بالونات متفجرة قبل إطلاقها باتجاه السياج الحدودي.

ثالثاً، جاءت البالونات المتفجرة، كوسيلةٍ أشدّ عنفاً وصخباً، وكتطويرٍ على آلية عمل البالونات الحارقة.. لكن، مع حلول فصل الشّتاء وهطول الأمطار، تعذّر نقلُ كتل اللهب إلى الأحراش والحقول، فظهرت البالونات المتفجِّرة.

تتركب هذه الأداة من إسطواناتٍ صغيرةٍ من غاز الهيليوم، وبالوناتٍ مطاطيّة أو واقيات ذكريّة، وشحناتٍ ناسفة مجهّزة مسبقاً، وفتيل إشعال، ومترٍ من حبال النايلون، وتحتاج مجموعة إطلاق تتكون من شابين إلى ثلاثة. 

يقوم أحدُ الشّبان بتعبئة البالونات بالغاز، وفي نهاية كلِّ حزمةٍ من البالونات، تُربطُ شُحنٌ ناسفةٌ عبر حبل، ثمّ يُشعل الفتيل المؤقت، وتطلق الحزمة لتحلق مع الهواء إلى خلف الحدود. بعد مرور الوقت المُعين تصل شعلةُ الفتيل إلى نقطة تُشعل فيها الحبلَ المتصل بالعبوة فتقطعه، وتُشعل أيضاً فتيلاً آخر للشحنة الناسفة كي تنفجر بعد سقوطها إلى الأرض.  

وبالحديث عن "غاز الهيليوم"، كان جيش الاحتلال قد أصدر قراراً بتقنين دخوله إلى غزّة بعد انتشار ظاهرة البالونات الحارقة، فقام شباب الوحدات بإنتاجه محليّاً. وشيئاً فشيئاً طوّر الشبانُ بالونات تحمل في ذيلها رأسَ قذيفة R.B.G أو قذيفة هاون، بعد إجراء تعديلٍ طفيفٍ على صاعق انفجارها، ليتحوّل من ميكانيكيّ يعمل بالاصطدام، إلى فتيلٍ مُشتعل. 

بالون مع هديّة سماعة صوت

في تطويرٍ آخر للبالونات المُتَفجِّرَة، اهتدى بعضُ الشّبان إلى صنع مُجَسمّاتٍ من الورق المُقوّى أو الفلين تأخذ شكلَ الطائرات المُسيَّرَة؛ ربطوها بحزم البالونات، وزوّدوها بأجسامِ إنارةٍ تعملُ بالبطاريات، وأحاطوها بأوراق الألمنيوم وشرائح المعدن، لتأخذ في عين الناظر من بعيد شكلَ الطائرة المُسيَّرة المُحَلِقَة في السّماء، أو لتظهر على رادارات جيش الاحتلال فتحقق نوعاً من الإرباك له. 

ومن طرائف الميدان، أن ربط بعض الشبان بحزم البالونات سماعاتِ صوت تبثُّ نغمةَ صفارات الإنذار، كجزءٍ من الحرب النفسيّة على مستوطني الاحتلال وجنوده.

وبالحديث عن الحرب النفسيّة والإرباك، فقد شكّلت هذه البالونات، على بساطتها، كابوساً وقلقاً لمستوطني غلاف غزّة، في أسدود وعسقلان وسديروت. كما أنّها أدّت إلى استنزاف قوّات الجيش والشرطة ووحدات هندسة المتفجرات، التي عليها ملاحقة كلّ حزمة بالونات "مشبوهة" أو متصلة بجسمٍ مشبوه يتم الإبلاغُ عنها. يرافق هذا إغلاقٌ للطرق والمفترقات، ومنع دخول للمناطق التي سقطت فيها البالونات، وأحياناً إيقاف لحركة القطارات، كما حصل في سديروت. 

آثار البالونات الحارقة في أحد المزارع الإسرائيلية، مايو 2019، AFP

يكلّل ذلك كلّه عجزُ الوحدات التقنيّة والشركات الأجنبية التي استعانت بها وزارة الأمن الإسرائيليّة للوصول إلى حلول تقنيّة فعّالة للتصدي لهذه الظاهرة. عدا أن منظومات المراقبة والإنذار ومنصات الليزر المخصصة لإسقاط البالونات لا زالت قيد الاختبار والتطوير والدراسة، ولم تَـثبُت فعاليتها أو تُقدِّم حلّاً ناجعاً حتى اللحظة، حتى وصل الأمر إلى أن ينشغل جنود جيش الاحتلال في مواقعهم المنتشرة على طول الحدود مع غزّة بمراقبة السماء وأحياناً إطلاق النار المباشر لإسقاط البالونات.

عودٌ على بدء 

خسائر بشريّة كسرت حاجز الـ300 شهيد وعشرات آلاف الجرحى، مظاهراتٌ أسبوعيّة على حدود القطاع مع الأرض المحتلة، ووسائل مقاومة شعبيّة وُصِفت بــ"الخشنة" قادت إلى جولات اشتباك وتصعيد محدودة. وهو مشهدٌ قاد في العام 2019 إلى التوصل إلى تفاهمات للتهدئة برعايةٍ قطريّةٍ ومصريّةٍ وأُمميّة. 

اقرأ/ي المزيد: "جرحى المسيرات.. بتر الأطراف مرتين".

نصّت تلك التفاهمات على وقف مسيرات العودة الحدوديّة والوسائل الخشنة، وفي مقدمتها البالونات الحارقة، مقابل تعهدٍ إسرائيليٍّ ودوليٍّ بتخفيف الحصار وإدخال المنحة القطريّة، وبدء مشاريع خلق فرص عملٍ في القطاع، وإعادة الإعمار وتطوير البنية التحتيّة في قطاعات الصحّة والكهرباء والصرف الصحيّ. 

إلا أن الاحتلال تذرّع بالوضع السياسيّ المهتز وجولات الانتخابات المتتاليّة، وعدم وجود حكومة ذات أغلبية وقرار، ليبرر تلكؤه في تنفيذ التفاهمات. قاد ذلك إلى استئناف إطلاق البالونات المتفجرة في الشتاء الأخير، والتي وصلت ذروتها بتاريخ 13/2/2020 والذي رصد فيه الاحتلال إطلاق أكثر من 80 حزمة من البالونات في يومٍ واحدٍ. كما قاد تأثر عموم المنطقة بالمنخفضات الجويّة، إلى وصول حزم البالونات المتفجرة إلى مناطق لم تصلها من قبل، منها سقوط حزمة بالونات متفجرة تحمل رأس قذيفة R.B.G  في مفترق "سيدي بوكير" 60 كيلومتراً عن غزّة.

واليوم تعود البالونات الحارقة والمتفجرة مستغلة حرارة آب اللهاب، مذكرة الاحتلال مجدداً بأن الوقت يمضي دون أي إنجازٍ يذكر، بينما يسارع الأخير وعبر الوسطاء لنقل رسائل تبرئة وتهديد مزدوجة، بأن تداعيات انتشار وباء كورونا تعيق الجهود الإسرائيلية للترويج للمشاريع المدنيّة في قطاع غزّة كما ذكر موقع والا العبري.  

سارعت الوساطات الدوليّة لتطويق المشهد، فتوقف إطلاق البالونات المتفجرة، وبالمثل توقفت الغارات الجويّة على مواقع المقاومة. ولم تكد تمر أسابيع حتى انشغلت المنطقة بتفشي وباء "كورونا" ودخلت التفاهمات مرحلة الجمود مجدداً رغم تشكيل حكومة وحدة في كيان الاحتلال.  

البالونات.. على طاولة التفاهمات

أثارت  الفعالية التي أثبتها سلاح البالونات انتباهَ "حماس" إلى ضرورة استغلالهِ كجزءٍ أساسيٍّ على طاولة التفاهمات وانتزاع المطالب من الاحتلال عبر الوسطاء. لذلك، عمدت الحركة وغيرها من الفصائل إلى المساهمة في تغطية احتياجات وتكاليف الوحدات الميدانيّة المُطلقة للبالونات، سواء عن طريق تقديم بعض الوسائل القتاليّة شبه المنتهية الصلاحيّة من قذائف وقنابل يدويّة وعبوات ناسفة صغيرة، أو تقديم الخبرة العسكرية والكوادر البشريّة.

شيئاً فشيئاً، أصبحت الحركة مُتحكمة في توقيت استئناف أو إيقاف إطلاق البالونات، وما يتبع ذلك من استئناف لقنوات التهدئة ودعواتٍ لضبط الميدان، واستخدام ذلك في انتزاع بعض المكاسب المؤقتة كاستئناف إدخال المنحة القطريّة. 

ورغم أنّ "حماس" والفصائل الأخرى لا تتبنى إطلاق البالونات بشكلٍ مُعلّنٍ، وتصفُ الأمر بـ"المقاومة الشعبيّة غير المُنظَّمة"، إلا أنّ ما سبق يُظهر كيف عملت على تحويلها من سلاحٍ فرديّ وشعبيٍّ متاحٍ إلى سلاحٍ تكتيكيٍّ تنظيميّ يخضع استخدامُه للتقييم والمراجعة والضبط. في الوقت ذاته، كانت البالونات جزءاً من معادلة أوسع، جعلت جيش الاحتلال يحجم عن استهداف خلايا إطلاقها، والاكتفاء بالاستهداف التحذيريّ لها من الجو، منعاً للانجرار نحو تصعيد عسكريّ.

هنا يبرز السؤال: هل كان ضبطُ سلاح البالونات تنظيميّاً وإخضاعُهُ للتكتيك المرحليّ خطوةً صائبةً أم خاطئة؟ من جوانب الإيجابية الواضحة في ذلك أنّها حمت سلاح البالونات من الاستنزاف وساهمت في تسريع استجابة الاحتلال لبعض المطالب المرحلية والمؤقتة تحت الضغط المباشر، وإبقائه تحت ضغط هذا السلاح كلما دعت الحاجة، دون تدحرج الأمور إلى مواجهة مباشرة. كما أنّها أبقت المناورةَ مع الاحتلال في ظلَّ حالة اللاحرب واللاسلم، وهو ما قد يكون أكثر جدوى ومنفعة وفق التوجه الحالي للمقاومة في غزة.

في الوقت نفسه، فإنّ إبقاء البالونات ضمن العمل الشعبيّ الحرّ المُتَحلل من أي ارتباطاتٍ تنظيميّة، يُـتـيحُ له أن يتطوّر أكثر فيما لو كان ضمن إطار الفصائل. كذلك فإنّ إبقاءَ نشاط البالونات شعبياً يُتيح للفصائل حريّةَ المناورةِ والانفلاتِ من أيّ قيود أمام الوسطاء، خاصّةً في ظلّ المماطلة الإسرائيلية. لكنّ طبيعة المشهد والميدان في غزّة أثبتت مع الأيام أنّ القرار والسيطرة أمام الاحتلال والوسطاء يتحملها طرفٌ واحدٌ، أي "حماس". وكما تم إلزام "حماس" بضبط العناصر التي كانت تطلق الصواريخ على مستوطنات الغلاف بشكل فرديّ، فلن يكون إلزامها بضبط المشهد في حالة البالونات بعيداً عن التكرار مجدداً. يقود ذلك للاعتقاد بأن "حماس" قررت مبكراً احتكار القرار وضبط البالونات لقطع الطريق على أي تدخلات.

وعلى أية حال، يبقى السؤال حول جدوى توظيف نشاطات المقاومة الشعبيّة والمُنظمة في بوتقة التفاهمات والهدوء قائماً وشرعيّاً، خاصّة أن ذلك يساهم في اختزال صراعٍ تحرريّ إلى حدوده الدنيا المُتمثلة في الحصول على المساعدات والتخفف من أعباء الحصار.