29 مارس 2019

جرحى المسيرات.. بتر الأطراف مرتين

جرحى المسيرات.. بتر الأطراف مرتين

عامٌ مرّ على بدء مسيرات العودة على السّياج الفاصل شرق قطاع غزّة، عامٌ لم يعرف فيه أكثرُ الجرحى مصيرَ الشّفاء التّام، يدفعون بذلك الفاتورة ضعفين، أولاهما حين تعمّد الاحتلال قنصهم قمعاً وتنكيلاً، ثمّ الأخرى حين تُركوا صرعى جراحهم التي لم تندمل بعد.

على بُعد سبعةِ أمتارٍ من الحد الشرقيّ لمحافظة رفح أُصيب الشّاب باسم عودة (33 عاماً) في يونيو/ حزيران 2018 برصاصةٍ مُتفجرة في ركبته، خلال مشاركته في مسيرات العودة. خلال أكثر من عشرين دقيقةٍ، استغرقتها سيارةُ الإسعاف للوصول إلى المشفى الأوروبيّ في مدينة رفح، كان عودة ينزف الدمّ بشكلٍ حادّ.

أُجريت للمصاب عودة سبعُ عملياتٍ متتاليةٍ، في محاولة لتوصيل الشرايين والأوردة المُصابة بتهتكٍ وقطعٍ كاملٍ، أجراها الجرّاحون في رفح محاولةً للحفاظ على تدفق الدمّ نحو قدمه. في ظلّ الخوف على مصيره الصحيّ، استخرج أهلُ عودة تحويلةً طبيّةً له إلى مصر، انتظروا بعدها عدة أسابيع حتى أُذِن بفتح معبر رفح البريّ. في مشفى الهرم في القاهرة، وبعد أربع عمليات أخرى، قرَرَ الأطباءُ بترَ القدم نهائياً، كعلاجٍ وحيدٍ؛ علاج لم تنتهِ فصولُه بعد.

عاد عودة إلى بيته بقدمٍ واحدةٍ فقط، لتجتمع عليه أسباب الألم وهو الذي فقد قدرتَه على مزاولة صَنعته الوحيدة في النجارة، ومصدر رزقه الوحيد لرعاية أطفاله الثلاثة. انضم، آسفاً، إلى طوابير المحجوبين عن العمل في واقعٍ انسانيٍّ معقّدٍ، تنعدم فيه فرص التشغيل ويتراجع الدعم الماليّ، إلا من بعض اللجان والمؤسسات الأهليّة.

يشاطره الوجع الشّاب صالح الجعفراويّ (21 عاماً)، من مدينة غزّة، وهو الفائز بجائزة أفضل لاعبٍ للتنس على مستوى القطاع. يُعاني الجعفراويّ من شحناتٍ كهربائيّةٍ دائمةٍ في قدمه، تسبّبت فيها أكثر من عشرين شظية أصابت جسدَه، وهي ملاصقة للعصب، لم تُستخرج حتى اللحظة، خشية التسبب بشللٍ.

خلال مشاركته في مسيرات العودة، اخترقت جسدَ الجعفراويّ أربعُ رصاصاتٍ في ثلاث مرات متفرقة، كان آخرها في قدمه مطلع فبراير/ شباط الماضي. تسببت تلك الرصاصات للجعفراوي بإعاقةٍ مؤقتةٍ في مشيته نتجت عن مسامير البلاتين المثبّتة داخل قدمه اليمنى.

عن تلك الإصابات المتتالية، يقول الجعفراوي: "في كلّ جمعةٍ أُصاب فيها، كنتُ أتعهدُ لنفسي بعدم الرجوع لكنني لا أستطيع ذلك، وأغلب الظنّ أنّني لن أمنع نفسي من الذهاب لاحقاً، لأننا جميعاً خرجنا للمطالبة بحقٍ شرعيّ لا لبس فيه". يُدرك الجعفراوي أن إصابته لم تكن إلا سبيلاً لذلك الحقّ، وأنّ حلمه الكبير في فكّ الحصار سيقيم -ولو مؤقتاً- مقام أحلامِه الصُّغرى، حتى لو سارَ باتجاه السيّاج على عكاز.

لم تشفع للجعفرواي شدّة الارتباط بلعبة التنس في الوصول إلى البطولات التي كان يُخطِط لها، ولن يُتوج أولاً على العالم العربيّ في مباريات التنس، كما لن يستجيب لدعوات تمثيل فلسطين في تونس، أو الإمارات، أو البحرين، أو الصين وبقية الدول التي دُعي للمشاركة في بطولات على أراضيها.

مرارةُ القعود دفعت الجعفروايّ للاعتراف: "تأثيرُ الإصابة لن يمرّ عليّ ببساطة، حالياً أستعينُ بأُسرتي في قضاء احتياجاتي، حتى تلك التي تتطلب مني جهداً بسيطاً، ومن المُحال أن أعود للركض في بطولات التنس كما في السابق".

ذلك الفقدان، لم يقطع صوت أغنياتِه التي يبثّها عبر حساباته المشهورة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لسان حاله يقول إن سكنت قدمه فلن يسكت صوته، عدا عن أنّه لم يقطع قدمه عن المشاركة في المسيرات.

بتر الأطراف.. مرتين

يتعمد الاحتلال قنص المتظاهرين في المخيّمات الخمسة لمسيرة العودة وإصابتهم بجروح مختلفة، مُستخدماً بذلك قنابل الغاز الساخنة والرصاص المحرم دوليّاً. في ذلك، يبرز استهداف مفاصل المتظاهرين وأطرافهم السّفلية على وجه الخصوص.
يأتي هذا الاستهداف الممنهج للأطراف السّفلية كوسيلة لتحييد أهم رافد لمسيرات العودة، وهم الشباب، عن طريق إحداث إصابات تؤدي إلى إعاقتهم، وبالتالي إخراجهم من المسيرات وحرمانها من الفاعل البشريّ الأهمّ فيها. عدا عن تحويلهم -بسبب إعاقاتهم- إلى ورقة ضغط اجتماعيّ واقتصاديّ ونفسيّ على المجتمع. كما أن الاستعاضة بإصابة الأطراف السفلية عن القتل يعني تقليص عدد الشهداء، في محاولة لعدم دفع الأمور لمزيد من التوتر والتوجه إلى الحرب.

الطبيب محمد الرنتيسي، استشاري جراحة اليد والأعصاب الطرفيّة، وصف الرصاص المستخدم لإصابة الأطراف السّفلية وغيرها، وهو من نوع طلقات القناصة ذات العيار الكبير، والتي تتميّز بصلابتها ودقة إصابتها للهدف. يقول الرنتيسي إنّ هذا النوع من الرصاص هو "الأكثر خطورة وفتكاً" من بين الأسلحة المستخدمة، ويُعرَف حسب التشخيص الطبيّ "بقدرته على الانشطار داخل الجسم ليقطع الشرايين ويهتك الأنسجة ويفتت العظام".

أما عن طريقة علاجه، يقول الرنتيسي أنّ ذلك يتمّ بالترقيع، أو استئصال الجزء المصاب إن كان في الكبد مثلاً، أو بعضاً منه إن كان في الطحال وغيره، وقد يؤدي لبترٍ في منطقة الأطراف. في حالات أخرى، أدّى هذا الرصاص إلى استشهاد العشرات على الفور، كان منهم الصحفي  ياسر مرتجى الذي استشهد  فور إصابته بعيار ناريّ متفجرّ في البطن.

متطلبات العلاج.. "ايش ولا ايش؟"

مع استمرار مسيرات العودة، يشهد القطاع ازدياداً غير مسبوقٍ في أعداد الجرحى الذين تجاوزت أعدادهم، حسب وزارة الصحة الفلسطينيّة في غزة، حتى أواخر مارس/ آذار الحالي، ثلاثين ألف إصابة، وصلت المستشفيات منها حوالي 16 ألف إصابة. من هذه الإصابات، هناك 136 حالة بتر، منها 122 حالة بتر للأطراف السفلية، و14 حالة بتر للأطراف العلوية.

نوعية الإصابات وحجمها فاقت قدرة النظام الصحيّ الحكوميّ الذي يقدّم الخدمة العلاجيّة للجرحى بشكل مجانيّ وفي ظروف استثنائية، إذ يعاني نقصاً حاداً في توفير العلاجات والمسكنات أو اللوازم الصحيّة للجرحى، وفي المقام الأول يأتي النقص في البلاتين والنقص في مواد تطهير الجروح ومواقع البتر.

في هذا يقول الطبيب الرنتيسي، إنّ الخطر الأكبر الذي واجه القطاع الصحيّ منذ بداية المسيرات كان قلّة الأطباء المتخصصين في جراحة المخ وزراعة الأعصاب والمفاصل الصناعيّة، إضافة إلى نقص أطباء العظام، قياساً بالأعداد الهائلة من الجرحى.

مع ذلك، يرى الرنتيسي أنّ الإصابات التي يتعامل معها أطباء القطاع معقدة جداً، وأنهم وفقاً لذلك يُجرون عمليات معقدة بحكم الخبرة التي تراكمت لديهم بفعل استمرار العدوان. يُضيف الرنتيسي: "حالات البتر لم تتجاوز ما نسبته 10% من حالات الإصابة بالشرايين، وهذا ما لم تستطعه أي مشافي أخرى في الخارج".

لماذا تُحوِّلون إلى الخارج إذاً، يقول الرنتيسي أن "الأعداد المتزايدة للجرحى هي الحَكَم، وتأجيل العمليات الجراحية لبعض الجرحى مدة أشهر وسنوات حتى يأتيَهم الدور، تدفع بعضهم للضغط لطلب التحويلة العلاجيّة إلى مشافي الخارج، لا ينفي هذا أن لغيرهم أسباباً خاصّة ومختلفة".

لكن الرنتيسي يرى أن الحلّ الأنجع يتمثل في تحويل الجرحى -ممن تأجلت عملياتهم بسبب الضغط- إلى المشافي الخاصّة داخل القطاع، حيث تتبنى تكلفتها بعضُ الوفود الأجنبية القادمة ويقوم بإجرائها أطباء أجانب أو فلسطينيون من غزّة.
بحسب شهادة بعض العاملين في القطاع الصحيّ والتأهيل، فإنّ حكايا الوجع تجاوزت مجرد الشعور بالألم لتتسبب في مشكلاتٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ عند بعض الجرحى الذين أصيبوا بحالات اكتئاب، أو إدمانٍ كحلٍّ مسكنٍّ للألم، أو عدم القدرة على النوم، وهم يرون في أنفسهم عالةً على أسرهم التي فقدت المعيل الوحيد بسبب الإصابة والقعود عن العمل.

الهيئة العليا للمسيرات وعبء المتابعة..

تضخّمُ أعدادِ الجرحى في صفوف المتظاهرين، حمّل الهيئة العليا للمسيرات وظيفةَ الرعاية المباشرة لهم، في سعيٍ بديلٍ لتقليص الضرر الذي خلّفه تجاهلُ مؤسسة "رعاية الجرحى وأسر الشهداء" التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي لا تعترف بالجرحى لأسباب متعلقة بموقفها وموقف السّلطة الفلسطينيّة من مسيرات العودة. في ظلّ ذلك، أغلقت المؤسسة فرعها الوحيد في قطاع غزة منتصف فبراير/ شباط الماضي، متوقفةً بذلك عن تقديم خدماتها بشكلٍ كاملٍ لجميع المستفيدين في القطاع.

في محاولة للتعويض، أوجدتْ الهيئةُ العليا للمسيرات حاضنةً مؤقتةً لجرحى المسيرات إلى حين اعتمادهم ضمن كشوف المستفيدين من خدمات المؤسسة الرسميّة. يقول عن ذلك عضو الهيئة أحمد الكرد: "نتابع بشكلٍ يوميّ أسماء الجرحى وحالاتهم بالتنسيق المباشر مع وزارة الصحة في غزّة، بغرض التخفيف عنهم مالياً".

عن ذلك يقول  الشّاب عودة إنّه يتقاضى من الهيئة العليا للمسيرات ما قيمته 600 شيكل (170 دولار تقريباً) كلّ ثلاث شهور، وهو المبلغ الوحيد الذي يستلمه كجريح.

يُضيف الكرد أن الهيئة، وفي ظلّ غياب البدائل، تتكفل بمحاولة متابعة علاج الجرحى حتى النهاية. يقول الكرد: "قدّمنا خدماتٍ علاجيّةٍ لأكثر من عشرة آلاف جريح بتكلفةٍ إجمالية تُقدر بخمسة ملايين دولار في أقلّ من عام، وُزِعت عن طريق البريد الحكوميّ التابع لكل محافظة".

كما صرفت الهيئة النفقات العلاجيّة لتغطية سفر الكثير من الجرحى إلى الخارج، فيما حال الإغلاق المتكرر لمعبر رفح دون خروجهم، كما شكّل  المنع الأمنيّ المتكرر لآخرين من السفر عبر معبر بيت حانون (معبر إيرز) عائقاً إضافياً أيضاً.

في موازاة المتابعة الاجتماعيّة والصحيّة، تقوم المراكز الحقوقيّة في قطاع غزّة بتوثيق هذه الاعتداءات على المتظاهرين، وجمع شهاداتهم، حسب المحامي صلاح عبد العاطي.

لفت عبد العاطي إلى أن التواصل مع بقية الحقوقيين في العالم قائمٌ لتفعيل أدواتهم القانونية التي تجرّم الاحتلال، مستدركاً: "رغم الشراكة القوية بين الإدارة الأميركيّة ودولة الاحتلال، إلا أنّنا استطعنا -إلى حدٍّ ما- أن نكسر حاجز الصمت الدوليّ تجاه الانتهاكات الإسرائيليّة خلال عامٍ دمويّ كامل" .

آخر تطورات هذا المسار القانوني كان التقرير الذي نشرته لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيليّة ضدّ متظاهري مسيرات العودة، مطلع مارس/ آذار الجاري.

قالت اللجنة في تقريرها، التي تشكّلت في مايو/ أيار 2018، إنّ "هناك أسباب معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن الجنود الإسرائيليين ارتكبوا انتهاكات للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان خلال مظاهرات مسيرة العودة الكبرى. ومن الممكن أن تشكل بعض هذه الانتهاكات جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية". وأضافت أن "أكثر من 6000 شخص تعرضوا لنيرانٍ حيةٍ من قناصة عسكريين إسرائيليين".