2 يوليو 2022

"أم النصر".. ادفعْ أو لِترحَل!

"أم النصر".. ادفعْ أو لِترحَل!

عصر الخميس 9 يونيو/ حزيران 2022، اقتحمت الأجهزة الأمنيّة التابعة لحكومة غزّة قريةَ أم النصر، شمال القطاع، فيما قالت إنّه لإخطار إحدى العائلات هناك بإخلاء منزلها تمهيداً لإزالته بذريعة "التعدي والبناء على أرضٍ حكوميّة دون ترخيص". لحظات قليلة حتى تطور المشهد إلى اشتباكاتٍ دامية إثر استدعاء الشرطة لجرافة لهدم المنزل، الذي أصر ساكنوه على البقاء فيه وعدم مغادرته، وبعد شد وجذب بين أهالي القرية وقوات الشرطة، فتحت الأجهزة الأمنية النار وسُجلت 6 إصابات في صفوف الأهالي.

احتل هذا الاعتداء مساحة واسعة في الرأي العام المحلي في غزّة، وأحال إلى قضية أكبر تتعلق بالنزاع المستمر بين حكومة غزّة من جهة وبين عدد من العائلات الفلسطينية من جهة أخرى حول ملكية الأراضي التي يعيشون فوقها منذ عقود. وجلّ هذه الأراضي "المتنازع عليها" هي أراضٍ حكومية في الأصل ولكن منحها ياسر عرفات لهم في فترة رئاسته للسلطة الفلسطينيّة، لكن دون أن ينقل ملكيتها في السجل العقاري (الطابو)، ولذلك لا يملك الأهالي أوراقاً ثبوتيّة تحفظ حقّهم، فيما تُطالبهم حكومة غزّة الحالية بإخلائها. 

كيف بدأت قرية "أم النصر"؟

في نهاية التسعينيات، أُعلن عن مشروعٍ إماراتيّ لإنشاء مدينة باسم "مدينة الشيخ زايد"، بالقرب من بيت لاهيا، وكانت تلك المدينة جزءاً من مشاريع إسكانية عديدة موّلتها دولٌ عربيّة وأخرى أوروبيّة، كالحي النمساويّ في خانيونس. كان الهدف من تلك المشاريع توفير المسكن للآلاف من عناصر منظمة التحرير الذين عادوا إلى القطاع بعد اتفاقية أوسلو. وُزّعت الكثير من هذه الوحدات السكنية بنظام القرعة أو المحاصصة، وكانت الأولوية في ذلك لموظفي السلطة وتحديداً عناصر الأجهزة الأمنيّة، كجزءٍ من "التزام" السلطة تجاه كوادرها الذين عادوا من الخارج. 

مشهد من حياة العائلات في القرية البدوية "أم النصر"، قطاع غزّة، المصدر: شبكة الإنترنت.

أمام هذا الواقع، تقدّم عدد من العائلات التي لم يحالفها الحظُّ في الحصول على شقق في تلك المشاريع بطلبٍ لرئيس السلطة آنذاك ياسر عرفات، للمطالبة بإنصافهم أو تعويضهم بما يؤمن لهم مسكناً. استجاب عرفات لذلك ومنحهم قطعة أرض حكوميّة بمساحة تُقدّر بـ 800 دونم، تقع على بعد 3 كيلومترات إلى الشرق من مدينة الشيخ زايد، وكان ذلك تحديداً في العام 1997. 

بُنيت على هذه الأرض ما أصبح يُعرف بـ"قرية أم النصر"، أو "القرية البدويّة"، وهي تقع في أقصى الشمال الشرقي لمحافظة بيت لاهيا، وتعتبر بمثابة أكبر تجمعٍ للبدو داخل غزّة، يعيش فيها اليوم أكثر من 6 آلاف شخص، أغلبهم من قبيلة الترابين. وبعد عامين بات للقرية مجلس بلديّ، ولاحقاً أُضيفت بعض المرافق الخدماتيّة الأوليّة بما فيها مدرسة للمرحلة الابتدائية ومستوصف طبيّ.

أرادت السلطة الفلسطينية، في ذلك الحين، من خلال اختيار هذه القطعة من الأرض، إنشاء جدارٍ بشريّ لوقف تمدد المستوطنات، وذلك كتجربةٍ مشابهة لإنشاء مدينة الزهراء التي كان أحد أهدافها وقف التوسع في مستوطنة نتساريم، أكبر مستوطنة إسرائيلية في القطاع آنذاك. إلا أنّ قرب القرية من المستوطنات الإسرائيلية ومن الشريط الحدوديّ أبقاها ضمن بناءٍ بدائيّ، فقد بُنيت من مبانٍ صغيرة من الحجارة وألواح الزينكو والكرميد، إذ لم يكن بإمكان شركات المقاولات الدخول بمعداتها لبناء مساكن من الباطون أو رصف الطرق بالأسفلت بسبب ظروف الانتفاضة الثانية. 

استمر حال القرية على ما هو عليه حتى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزّة عام 2005، وصولاً إلى حالة النزاع مع حكومة غزة الحالية والمتمحور حول تحديد ملكية أراضي القرية.

حملة "تصويب" بالسلاح؟!

في 23 مايو/ أيار 2022، أطلقت سلطة الأراضي في قطاع غزّة (دائرة حكومية موكل إليها متابعة ملف الأراضي) حملةً لما أسمته "تصويب الأوضاع القانونيّة للأراضي الحكوميّة في قرية أمّ النصر"، وأعلنت أنَّ الهدف "إزالة التعديات على الأراضي الحكومية ومخالفة ممن ينتهك قواعد البناء بشكل غير قانوني أو البناء دون ترخيص". يندرج ضمن هذه الحملة عرض "التسوية" الذي قدّمته سلطة الأراضي وهو قائم على تخيير سكان القرية بين البقاء في منازلهم الحالية عبر تثمين قطعة الأرض ودفع قيمتها المتفق عليها للحكومة، ومن ثمّ نقل ملكيتها بشكلٍ رسميّ عبر أوراق الطابو، أو بين طردهم منها.

مشهد الجرافة التابعة لأمن حكومة غزّة تهدم أحد المباني في قرية أم النصر، مطلع يونيو 2022. (الصورة انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي)

حين منحت السلطة الفلسطينيّة بقيادة أبو عمار هذه الأرض للعائلات، لم يحصلوا منها على قسائم قانونيّة أو ورقة تنازل لإثبات ملكيتهم لهذه الأراضي، وكان ما مُنح وقتها، وفقاً لسمير أبو خوصة، أحد سكان القرية، هو حق الانتفاع بالسكن لا بالتمليك، أي لا يحق للمستفيدين التصرف بالأرض بالبيع أو الشراء أو التوسع العمراني. 

اقرؤوا المزيد: "لماذا تزعجهم البسطات؟"

يقول سمير: "سعينا منذ سنوات وجود السلطة الفلسطينية في القطاع ما بين العام 1997-2007 إلى الحصول على ورقة تنازل من السلطة بشأن ملكية الأراضي ونقلها لنا، إلا أن البناء العشوائي غير المنظم في القرية وقربها من الشريط الحدودي كان عائقاً في تحديد قسائم الأرض لكل مستفيد، ورغم ذلك حصلنا على وعود من السلطة الفلسطينية بألا يتم المساس بسكان القرية أو ترحيلهم أو إزالة مبانيهم إلا عبر تعويض بوحدات سكنية أخرى، إلا أن ما تقوم به حكومة غزة حالياً يهدف إلى جني الأموال عبر إجبارنا على شراء الأراضي من الحكومة بسعر لا يتناسب مع قيمة الأرض". 

يُذكر أن غالبية العائلات في قرية أم النصر تعيش أوضاعاً معيشية صعبة، فبيوتهم من الزينكو وتوجد بالقرب منهم العديد من المكاره الصحيّة.

أم النصر.. وأخواتها

لكن أم النصر ليست وحدها، فما تعيشه العائلات فيها يتكرر في أحياء أخرى في قطاع غزّة يعيش أهلها نزاعات مع الحكومة حول ملكية الأراضي والبناء فوقها. فقد خلّف الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة عام 2005 أراضٍ شاسعة أُقيمت عليها مستوطنات وثكنات عسكريّة إسرائيليّة بإجمالي 35 ألف دونم، كانت تشكل ما نسبته 10% من مساحة قطاع غزة، وهذه الأراضي بما نسبته 95% هي أراضٍ حكومية، باستثناء 5% تم تسوية أوضاعها ونقل ملكيتها للأهالي الذين ثبتت ملكيتهم لهذه الأراضي. 

تعني هذه النسبة الكبيرة (95%) أنّ كثيراً من القضايا والنزاعات قد تنشأ بين الحكومة والعائلات على ملكية هذه الأراضي، على غرار ما حدث في أم النصر، خاصّة أن تلك الأراضي لم تُترك خالية، فعقب الانسحاب بدأت ظاهرة ما تُسمّى بـ"العشوائيات" بالانتشار داخل القطاع. والعشوائيات هي الأحياء التي ظهرت بعد مسارعة بعض العائلات إلى التوسع عبر وضع اليد على أراضي المستوطنات، مستغلين حالة الفوضى التي جاءت ضمن المرحلة الانتقالية المتسارعة زمنياً ما بين انتهاء الوجود الإسرائيلي في القطاع، مروراً بالاقتتال الداخلي بين حركتي "حماس" و"فتح"، ولاحقاً خضوع القطاع للحصار الإسرائيلي منذ عام 2007 حتى هذه اللحظة. 

يبلغ عدد تلك العشوائيات 30 عشوائية، وهي عبارة عن أحياء متناثرة الأطراف تتركز في مناطق غرب مدينتي خانيونس ورفح، والجزء الشرقي من شمال قطاع غزّة، أشهرها حي البراق والبطن السمين في مدينة خانيونس، والجورة في دير البلح. سُوّيت ملكية بعض هذه الأراضي بين سلطة الأراضي والعائلات عبر دفع ثمن قطعة الأرض للحكومة، التي تقوم بعد ذلك بالتنازل عنها ضمن ورقة طابو، ولكن غالبية هذه الأراضي لا تزال عالقة حتى هذه اللحظة.

ويذكر أن الأراضي في قطاع غزّة تُقسم من حيث ملكيتها إلى أراضٍ حكوميّة، وأراضٍ مملوكة للأهالي وهي تعرف بـ"أراضي الطابو"، وأراضي الوقف التابعة لوزارة الأوقاف، وأراضي المندوب1أراضي المندوب هي أراضٍ أقيمت عليها مستوطنات منذ عهد الاستعمار البريطاني، وكانت مُصنّفة على أنها أراضي مشاع. بعد انتهاء الاستعمار البريطاني أقامت فوقها عائلات فلسطينية من البدو والرعاة، ومن ثم اشترى بعضهم تلك الأراضي بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، وطُوبت بعضها بأسمائهم، فيما بقيت بعض المشاكل على بعضها الآخر إذ يملكون حق الانتفاع بها دون بيعها.. وإجمالاً فإن ما دون أراضي الطابو التي تبلغ مساحتها 184 ألف دونم من أراضي قطاع غزّة، تعتبر ملكيةً حكوميّةً أو أراضٍ مُتنازع عليها ما لم يتم إجراء تسوية لتحديد مُلكيتها.

اقرؤوا المزيد: "المُحرّرات.. حين صارت الأرض راتباً لموظفي حكومة غزّة".

ولذلك، فإنّ قصة أم النصر تتكرر في أكثر من مكان في القطاع، إذ تُخطر سلطة الأراضي العائلات في الأحياء العشوائيّة بهدم منازلهم أو إلزامهم بدفع مخالفات نظير البناء والتوسع في أراضٍ مملوكة للحكومة، بسبب مخالفتهم والتوسع في البناء دون ترخيص. لكن الفارق بين ما يجري منذ سنوات وما يجرى في قرية أم النصر هو أن الطبيعة القبلية والبدوية، هي من أثارت هذه القضية وأكسبتها تفاعلاً شعبيّاً واسعاً، إذ يتكلم سكان القرية بلسان واحد، ويعبّرون عن تضامنهم بشكلٍ جماعيّ.

جزء من مشاهد الدمار في المباني التي خلّفتها حملة سلطة الأراضي التابعة لحكومة غزّة على أراضي أم النصر، مطلع يونيو 2022. (الصورة انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي).

كلمة أخيرة

في الختام، لا شكّ أن الحكومة في غزّة قد وقعت في خطأ لا يغتفر عبر معالجتها لملف يمتد لأكثر من ربع قرن بقوة السلاح، حتى لو كانت منطلقات هذا الإجراء "سليمة" من الناحية القانونية، وحتى لو تراجعت عن ذلك وقررت "محاسبة المخطئين". ولا يغيب في تحليل الموقف أنّ المستهدفين هنا في هذه الحملة هم من الفئات المهمشة والأكثر تضرراً في القطاع، بحكم أوضاعهم المعيشية الصعبة أصلاً. وفي ظلّ ذلك تستدعي الضرورة والمصلحة الوطنية والظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعيشها القطاع رسم سياسة واستراتيجية واضحة المعالم وحساسة لأحوال الناس، ولا تزيد من أعباء الحياة الصعبة عليهم وتثقل كاهلهم فوق ثقل الحصار ومصاعبه.

وهذا الخطأ يُضم إلى خطأ آخر وقعت فيه حكومة غزّة عام 2013 عندما أطلقت مشروعاً لتوزيع الأراضي الحكومية على موظفيها مقابل التنازل عن مستحقاتهم (وهو ما عُرف بأراضي المحررات)، وهو المشروع الذي خلق حالة من التوتر بين الناس والحكومة، الذين رأوا بأن "حماس" تكرر ما انتهجته حركة "فتح" من توزيع الأراضي الحكومية على المحسوبين عليها. وهذه السياسة في التعامل مع الأراضي الحكومية وإغفال أحوال الناس تنضم إلى سياسات أخرى في التعامل مع أصحاب البسطات والفلاحين والسياسة الاقتصاديّة عموماً في القطاع. 

لذلك، فإن السؤال اليوم هو عن قدرة الحكومة في غزة وجديّتها في التفكير بما يضمن صمود الناس، وصمودها هي أيضاً، بعيداً عن الحالة السائدة من غياب الاستراتيجية واللجوء إلى "الحلول السريعة".