13 نوفمبر 2021

لماذا تُزعِجهم البسطاتُ؟

لماذا تُزعِجهم البسطاتُ؟

على شاطئ بحر غزّة، حيث فرش بائعو الذرة والشاي بسطاتهم لكسبِ أرزاقهم، صارت "الواجهة البحريّة" معلّبةً إذ صمّمت بلديّةُ غزّة "أكشاكاً بنمطٍ متناسقٍ وحديث" ومتاحة للإيجار مقابل مبلغٍ يصل إلى 2500 دولار سنويّاً. برّر أحمد أبو راس، نائب رئيس بلديّة غزّة، هذه الخطوة بأسبابٍ مثل "توفير الاستقرار الاقتصادي للبائعين، والحفاظ على جمال الواجهة البحريّة".

ليست غزّة وحدها في ذلك. ملاحقةُ البسطات والباعة المتجوّلين ظاهرة في كلّ فلسطين على اختلاف الجهة التي تُدير المدن. بلديّات الضفّة الغربيّة تحتَ حكومة السّلطة الفلسطينية تتبع ذات الممارسات، وكذلك بلديّة الاحتلال في القدس، وأيضاً في الداخل الفلسطينيّ المحتل تُمارس البلديّات الدورَ ذاته بحمايةٍ من شرطة الاحتلال. فبينما ينادي أحد الباعة في نابلس على بسطته، يداهمهُ مسؤول من قسم الحراسة والتفتيش في البلديّة "ليُنظّم المدينة" و"يُزيل التعدّيات". في الوقت ذاته تُزال بسطة في الخليل، لتنتقلَ مع بائعها إلى مساحة "سوق الخضار الجديدة" التي حدّدتها البلديّة. أما في القدس والمدن المحتلّة عام 1948 فتفرض السلطات غراماتٍ عاليةً ومصادرة للبضائع، ويصل الاحتكاك حدَّ الاعتداء على البائعين واعتقالهم.

فلسطيني يبيع الذرة والمشروبات الساخنة على شاطئ غزة، 8 تشرين الثاني 2021 تصوير سامح رحمي.

مشهدٌ واحد في كلّ الأزقّة؛ سلطات تفرضُ هيمنتَها وعضلاتِها على الحيّز العام، تتذرّع بتنظيم المدينة والاقتصاد، لتحافظَ على وهم سيادتها من خلال ملاحقة الناس على لقمة عيشهم، وتصميم "واجهةٍ" حضاريّةٍ لواقعٍ غارقٍ بالفقر والفجوات وجرائم الاحتلال وحصاره وسيطرته.

من يحكم المدينة؟

منذ مطلع القرن العشرين، طبّق الاستعمار البريطانيّ مبادئ "التخطيط الحضريّ" على المدن المستعمرة، ووظّف هذا التخطيط في خدمة مبادئه الاستعماريّة وترسيخ سيطرته على مستوياتٍ عدّة، منها الأمنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. يُحدِّدُ تخطيطُ المدينةِ الغرضَ من كلِّ مساحةٍ في المدينة، ويُحدِّدُ مواقع حدوث الأنشطة المختلفة داخلها، وبالتالي يفرض طرق تنقّل الناس ويُعيد صياغة تجاربهم وممارساتهم اليوميّة، ويُعيد رسمَ علاقاتِهم الاجتماعيّة وعلاقتَهم بالحيّز العام. صياغة الحيّز العام، قوننتهُ وتنظيمه بهذه المفاهيم السلطويّة القمعيّة، تجذّرَ وتواصل في هذه المدن والدول حتّى بعد تحريرها.

في فلسطين، خضعت المدن الفلسطينيّة عبر تاريخها الحديث لعدد من خطط التنظيم الحضريّ التي تبعت في كلّ مرحلة تاريخيّة سلطةً مختلفة. المشترك بين كلّ تلك الخطط هو كونها لم تعكس أبداً حاجات ورغبات الفلسطينيين وطبيعة حياتهم ومجتمعهم، إنما استُخدمت دائمًا كوسيلةٍ للضبط الأمنيّ أولاً وهندسة المجتمع ثانياً.

بمنطق التخطيط الحضريّ وحجّة تنظيم المدينة، التي لا تملك السلطاتُ الفلسطينيّة سيادةً حقيقيّةً على قوانينها، تفرض السلطات المختلفة في فلسطين سيطرتها على الحيّز العام بلعب دور الجهة المنظّمة والمخلّصة من البسطات التي تمثّل "الفوضى" و"الاعتداءات على الأرصفة والشوارع". تُزيل السلطاتُ البسطات أو تُقصيها من الشوارع والأرصفة إلى ساحاتٍ أو أسواق شعبيّة تقوم هي بتحديدها، لحصر عمليّة بيع أصحاب البسطات فيها، وكجزءٍ من تنفيذ التنظيم.

قبضة على الاقتصاد

إضافةً لتنظيم المدينة والسيطرة على من يتواجد في الحيّز العام وكيف، تحاول السلطات أن تفرض هيمنتها على النشاط الاقتصاديّ، وملاحقة الأنشطة غير الرسميّة، أو ما يُسمّى بالاقتصاد الموازي، أي "جميع الأنشطة الاقتصادية الذي يقوم بها عمالٌ أو وحدات اقتصادية لا تشملها – قانونياً أو في الممارسة العملية – الترتيباتُ الرسمية بصورةٍ كافية أو على الإطلاق".

ظهرت قضية الاقتصاد غير الرسميّ وإشكالاته مع ظهور الدولة الحديثة بشكلها البيروقراطيّ في نهاية القرن التاسع عشر في غرب أوروبا والولايات المتحدة. انتشارُ الاقتصاد غير الرسمي يعني بالنسبة للدولة الحديثة غيابَ السيادة وضعفها، كما تعتبره باباً "للفساد" وهو ما يعني بالحقيقة انعدامَ قدرة الدولة على مراقبة حركة الأموال.

اقرؤوا المزيد: "أمام المولات والهراوات.. ماذا تبقى لأصحاب البسطات؟"

باستخدام هذا المنطق يتمّ إجبار الباعة المتجوّلين الذين يشغلون أجزاءً من الحيّز العام دون خضوعٍ لتنظيم السلطات في مختلف المدن الفلسطينيّة على تسجيل بسطاتهم قانونياً بالحصول على رخصة من البلديّة، أو باستئجار مساحاتٍ مُحدّدة منها لمُراقبة النشاط الاقتصاديّ. وإن لم يقم أصحابُ البسطات بذلك يكون للسلطات الحقّ في فرض مخالفاتٍ مادّيّة عليهم. وجود البائع الذي ينادي على البسطة يعكس بالنسبة للدولة عاملاً غير تابعٍ لنظامها ومؤسّساته، تصبح السيطرةُ عليه وعلى بسطتهِ إثباتاً لسلطتها على المساحةِ، وعلى الواقفِ في تلك المساحة. وبالرغم من كون السلطات في فلسطين تعملُ في مناطق تعاني من نسبٍ عالية من البطالة وأوضاع اقتصادية متدهورة، إلا أنّها تلاحقُ البسطات بمنطق الدولة الحديثة ذات السيادة من "تنظيم الاقتصاد". 

وكما يُغذّي إقصاءُ البسطة من الشارع وَهْمَ سلطةٍ غير موجودة، فكذلك يُغذّي تنظيمُ الاقتصاد ومأسسته وَهْمَ سلطةٍ على اقتصادٍ متدهورٍ وسيادةٍ على دولة حديثة ذات نظام اقتصاديّ. أما في القدس والداخل المحتل فإنّ الهيمنة الاقتصاديّة هي وسيلة أساسيّة لدى "إسرائيل" لابتزاز الناس والضغط عليهم ماديّاً، ومراقبة حركة أموالهم وأوضاعهم الاجتماعيّة عن كثب، وتحويل أموالهم (المُنظّمة في البنوك) أداةَ ضغطٍ مركزيّة.

بائع يبيع المعكرونة سريعة التحضير لأطفال المدارس في مخيم جباليا للاجئين. تصوير أحمد زاكوت.

واجهة حضاريّة؟!

تتذرّع السلطات في فلسطين عند إزالة البسطات بحجّة الحفاظ على وجه المدينة الجماليّ أو الحضاريّ، وبذلك تُسيطر على شكل الموجودات في الشارع. الفصل بين "الحداثي المتحضّر" و"التقليدي" كان ولا يزال جزءاً من الرؤية الاستعماريّة التي تدّعي قدومها إلى يبابٍ فوضويّ لتجلب إليه التحضّر والتنظيم. في فلسطين، تملك السلطة تعريفاً واحداً لمعاني "التحضّر"، وهي تلك المُستَعارة من شكل المدينة الغربيّة الحديثة التي تُهيمن فيها الدولة على كل تفصيلٍ في الشارع. تؤدّي السلطاتُ في فلسطين دورَ الحفاظ على "جمال المدينة" بتوحيد وتحديد شكل البسطات في الشوارع، وإزالة البسطات التي تبدو أحجامها وألوانها وأشكالها المختلفة غير "متناسقةٍ" أو "فوضويّة".

اقرؤوا المزيد: "المول ضدّ البسطة.. هذا الطريق آخرته لحن حزين".

تعكسُ "الفوضى" أو "غياب النّظام" غياب وجودِ منظّمٍ ما، ويصبح إبقاءُ تلك البسطات المتناثرةِ تحدّياً لسلطةِ المنُظّم. ويبدو إخفاء البسطات كلّياً أو جزئياً إخفاءً لما تعبّر عنه البسطة مرئيّاً من فقر وعمالة غير رسميّة لا تتّسق مع المدينة "المتحضّرة". تُصبح البسطة على رصيف شارعٍ ما تمثيلاً لقضايا اجتماعيّة وسياسيّة تبدو الطريقة الأسهل للتعامل معها هي إزالتها أو زجّها في ساحةٍ واحدةٍ بعيدة عن الأعين.

تُسيطر السلطات بذلك على الحيّز العام عبر تشكيله بالطريقة التي تُناسب تعريفها وتعكس مبادئها. حتّى وإن كان واقع المدينة لا يعكس الحيّز الذي تحاول السلطة خلقه، إلّا أنّه يُفرض بقوانين تحكم ما نرى ونسمع حين نمشي في شوارعنا ومن أين نشتري ما نحتاج. لا يُعبّر وجه المدينة "الحضاريّ"، كما تفرضه السُّلطة، عن الظروف القاهرة التي نعيشها في مدننا المحتلّة والمنهوبة، بل تحاول إخفاء الكارثة واستعراض "دولانيّتها" و"سيادتها" الوهميّة في ظل الاحتلال.

 *يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" منذ يناير/ كانون الثاني 2021.