22 سبتمبر 2020

"المول" ضدّ البسطة.. هذا الطريق آخرته لحن حزين

"المول" ضدّ البسطة.. هذا الطريق آخرته لحن حزين

في مايو/أيّار من هذا العام، وفي ذروةِ ضائقةٍ ماليّة، اعتدت الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيَّة وسط مدينة الخليل على أصحاب البسطات بالضرب، واعتقلت عدداً منهم. هذه الواقعة لم تكن فريدةً من نوعها، فلا يمرُّ عامٌ دونَ تناوب مؤسّسات السلطة على "بهدلة" أصحاب البسطات، بينما تشجّع المستثمرين على بناءِ المزيد من المولات والمجمّعات التجاريَّة.

لا يقتصر طردُ الأمنِ والبلديّات لأصحاب البسطات على محافظة الخليل، فالأمر ذاته يحدث في مُحافظاتٍ أخرى من شمال الضفّة إلى جنوبها مثل: طولكرم، جنين، رام الله، بيت لحم. أمّا ردّ فعل أصحاب البسطات، فلقد تنوّع بين من اشتكى من هذه السياسة الجائرة ونظّم وقفاتٍ احتجاجيّة، وبين من ذهبَ به الظلمُ إلى محاولةِ إحراق نفسه

مقابلَ ذلك، تدعم السُلطة أصحابَ المولات حين تُشجّعهم على الاستثمار في الضفّة الغربيّة، مُبرّرة أنّ ذلك من شأنه النهوض بالاقتصاد الفلسطينيّ. يظهرُ ذلك مثلاً في تصريح رئيس الوزراء محمد اشتيّة عند افتتاحه "لاكاسا مول" في ضاحيّة الريحان شمال مدينة رام الله، فقال: "ندعو رجال الأعمال الفلسطينيين في الشتات القدوم إلى فلسطين والاستثمار فيها، والحكومة ستُقدّم كلّ التسهيلات لهم وستعمل على تذليل كلّ العقبات أمامهم، من أجل خدمة وطنهم فلسطين". 

بلازا مول في مدينة رام الله- تصوير جمال عاروري، المصدر: Getty Images

اقرأ/ي أيضاً: أمام الـ"مولات" والهراوات.. ماذا تبقى لأصحاب البسطات؟

مُنذ ما يُقارب العقد، بدأت المولات بالظهور في الضفّة الغربيّة، مع تركّز مُعظمها في مُحافظة رام الله والبيرة. من ضمنها مثلاً: بلازا مول، لاكاسا مول، بيرزيت مول، رام الله مول، الهيبرون سنتر (الأخير في الخليل). وعلى قلّتها نسبيّاً، فإنّها آخذة في الانتشار، فهناك عدّة مولات قيد الإنشاء، منها: "سما مول" في الخليل، و"سيتي مول"  في نابلس، وتاج مول في جنين، وسنترو مول وتاج مول في رام الله.

الجسمُ المعادي

وجودُ البسطة في الشارع يغنيها عن دفع الأرضيّات والضرائب، ولذا لا تستند على وثيقة قانونيّة تُثبت "أحقيّة" وجودها بالنسبة للجهات الرسميّة. أمّا السوق الذي تتواجد فيه البسطة، فهو عشوائيّ، يُسبّب "تلوثاً بصريّاً وسمعيّاً وبيئيّاً" بالنسبة للـ"واجهةِ الحضاريَّة" للمدينة. كما أنّه مليء بالفُقراء، فيفضح تقصير الحكومة تجاههم. أصحابُ البسطات هم غالباً: عُمّال مياومون، لم توفَّر لهم الوظائف، لا يملكون مهارات السوق الحديث، أو خرّيجو جامعات لم تحتويهم المؤسسات، وأسرى ومناضلون سابقون ممنوعون أمنيّاً من العمل في أراضي الـ48، مرضى وشباب وعجائز، عازبون يطمحون للزواج ومُعيلون يسعون لسدّ جوع أولادهم. 

على خلاف "المول"، ليس لهؤلاء من مكانٍ في اهتمام السلطة، فهي تتعامل معهم كجسمٍ مُعادٍ، حين تستخدم مثلاً تعبير "شنّت حملة"- كما لو أنّهم مجرمون- للإشارة إلى تدخّلاتها في كيفيّة انتظام البسطات ومكان وجودها. وبعد أن تُصنّفهم كـ"تعدّيات" تُعيق من حركة الناس، وتعتبر وجودهم المُتناثر غير "حضاريّ"، فإنّها تُفرّقهم وتقذف بجزء منهم إلى أطراف المدينة، وجزء آخر إلى أماكن مُغلقة وبعيدة نسبياً عن حركة الناس.

على سبيل المثال، نُقل سوق "المُستعمل" في مدينة طولكرم من مكانه في السوق الشعبيّ، وسط المدينة، إلى "دوّار شويكة" على أطراف المدينة، ونُقِل سوق الخضار من السوق الشعبيّ إلى الأطراف كذلك. بعد معارضةٍ لقرار البلديّة المتعلق بسوق الخضار، نُقِل مرة ثانية إلى جانب مبنى البلديّة، والذي لا يُعتبر مكاناً حيويّاً لحركة الناس، ووُضِعَ السوق في مساحة مُغلقة بأرضيّة وأكشاكٍ مُرقّمة ومُحدّدة.

الشارع لِمَن؟

حين تُسمّي البلديّةُ البسطاتِ بـ"التعدّيات"، فإنّها تُشير بذلك إلى كونها تُعيق حركة الناس والسيّارات فتُسبّب أزمات مروريّة خانقة. تُحمَّلُ بذلك المُشكلةُ المروريّة في مراكز المُدن على البسطات، وتُقدِّم البلديّةُ الحلول على حساب الفُقراء وحدهم، فتطردهم من أحيائهم ومحيطهم الذي اعتادوه.

بعيداً عن "عجقة" المارّة والسيّارات؛ عن السوق والمحال والجامع الكبير والمؤسسات والمواصلات العامة، لا يُمكنُ لأصحابِ البسطات توفيرَ الدخل اللازم. أحد أصحاب البسطات من مدينة الخليل، علّق على قرار البلديّة بنقلهم من وسط البلد إلى البلدة القديمة - الخالية تقريباً من الزوّار: "إنتَ بتقول لي انزِل على البلدة القديمة وبتطلّع مؤسساتك فوق؟... بتقول لي بدي أحيي البلدة القديمة؟ وأطلعت موقف تكاسي على دوّار المنارة، هاي إحياء مدينة؟ هاي موت المدينة". للمفارقة؛ نفس الدوّار الذي يُشير إليه صاحب البسطة والذي تطرد منه البسطات، يُبنى حالياً فيه "سما مول".

اقرأ/ي أيضاً: الضفَّة تختنق بالسيارات.. من الرابح؟

ليست البسطات السبب في الأزمة المروريّة كما تدّعي البلديّات، وإنّما- أولاً- المساحة الجُغرافيّة الضيّقة التي ارتضت بها السُلطة، ويسكنها أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، وهو ما فرض توسّعاً عمرانيّاً عموديّاً في جُغرافيا صغيرة. أمّا ثانياً، فقد نتج عدد السيّارات الكبير عن سياسات السُلطة الماليَّة، التي سمحت للبنوك أنْ تغرِقَ الناس في القروض الاستهلاكيّة، فسُجّل في عام 2018 وحده أنّ 22% من المركبات المُسجّلة لأوّل مرّة في الضفّة مرهونة لصالح البنوك. يجعل ذلك من الأزمة أمراً لا مناص منه، ويجعل من تنظيم الأسواق عمليَّة مُعقدة، في ظل واقع سياسيّ لا سيادة للسلطة فيه. إذن، ما الأمر إلّا استسهالٌ لتوجيه أصابع الاتهام- دائماً- إلى ضُعفاء المُجتمع، بوصفهم أساساً للمُشكلة. 

"دعم الاقتصاد الوطني".. الشعارُ الرابح

"الاستثمار في المولات يعود بالازدهار على الاقتصاد الوطنيّ"، يتلخّصُ هذا المنطق في مُقابلة مع عماد جبر، رئيس مجلس إدارة "لاكاسا" القابضة، والتي يتبع لها "لاكاسا مول". حين يصفُ الفائدة التي يعود بها المول على الاقتصاد الفلسطينيّ، يُلخّصها جبر بثلاث نقاط: أولاً، وفّر المول 5 آلاف فرصة عمل خلال إنشائه، وثانياً: ستكون محالّه بحاجة إلى شغلِ ألفيْ وظيفة، في 21 مقهى ومطعماً  و135 محلّاً تجاريّاً محليّاً وعالميّاً. أمّا ثالثاً: فإنّ الماركات العالميّة التي استقطبها "المول" ستُقدّم 100 مليون شيكل للاقتصاد الفلسطينيّ، لأنّ هذه الأموال كانت ستُصرف خارج فلسطين، لولا أنّها باتت مُتوفّرة اليوم في "المول"، حسب أقواله.

فيديو ترويجيّ لـ"مول لاكاسا".

بعد استعراضه لما سيوفّره "المول" للاقتصاد الفلسطينيّ، يفخر جبر بأنّ المكتب الاستشاري لبناء "المول" من دبيّ، ويُشير إلى أنّ إنارة "المول" قد تأخرت في الميناء، وأنّ الزجاج مصدره من تركيا، وأنّ أحد زوايا "المول" قد استعين لتصميمها بشركة مُختصّة من كاليفورنيا. يستعرض بعدها الماركات العالميّة التي ستفتح محلاتها في "المول"، مثل: كوتون (Koton)، أمريكان إيجل (American Eagle)، مانجو (Mango)، ولاكوست (Lacoste).

كيف لاستقطاب الماركات العالميّة والاستيراد أن يخدمَ اقتصادنا؟ بينما جلّ ما يفعله هو قتل المحاولات المحليّة للتصنيع، فلا تصمد أمام المنافسة بالجودة والسعر، ويعودُ الربح إلى أصحاب تلك الماركات في الخارج، وأصحاب وكالاتها لدينا، وفي جيوب صاحب "المول" الذي استقطبهم عنده.

اقرأ/ي أيضاً: تسهيلات "سلطة النقد"؟ الرابح يبقى مَصرِفاً...

يظّن البعض أنّ حركة البيع والشراء، أي توفير مُنتج لاستهلاكه من قِبل الزبائن، تُنعش من الاقتصاد. لكنّ هذا الاعتقاد يُغذّي فينا الوهم الاقتصادي ذاته الذي قدّمته السُلطة. إذْ توهِمنا بأنّ القروض الاستهلاكيّة من شأنها أن تُنعش الاقتصاد، في حين ما توفّره البنوك للناس هي أموال لا تتوافر قيمتها في السوق. هذا المنطق الذي يُعلي من شأن الاستهلاك، لا الإنتاج، يؤدي بالضرورة إلى إفقار المُجتمع، لا إنعاشه.

في مواجهةِ الحيتان

لنضع إمكانيّة أنّ "المول" يوفّر وظائف جديدة عند افتتاحه. لكنّ الوظائف هذه، ستأخذ من حصَّة الوظائف في أسواق أخرى على المستوى البعيد، حين يُنافس "المول" التجّارَ الصغار في الأسعار، وفي جودة البضائع، وفي راحة التسوّق التي يوفّرها. باختصار، نهوض "المول" ونجاحه يكون بالضرورة على حساب مصالح تجاريّة صغيرة أخرى لا تستطيع الصمود أمام إمكانيات كبار التجار. 

للـ"مول" ومحالّه قدرةٌ على الاستيراد من المُصنّع مباشرة، وبكميّات كبيرة. يُتيح له ذلك تحصيل البضائع بأسعار أقلّ من التي يُحصّلها صاحب البسطة أو المصلحة الصغيرة، والذي يشتري بضاعته من خلال سلاسل توريد طويلة تجعل التكلفة (سعر الجُملة) عليه مُرتفعة. يؤدّي ذلك على المستوى البعيد، إما إلى انسحاب الباعة الصغار من السوق، لعدم قدرتهم على مُجاراة "الحيتان"، أو تسريح بعض موظّفيهم.

مثلاً، يبعد "لاكاسا مول" عن مدينة رام الله مسافة 10 كيلومترات، فيخصّص مصفّاً لـ650 سيّارة لاستقطاب الزبائن، وفي خطّته التسويقيَّة، سيُوفّر مواصلاتٍ مجانيّة إليه من وسط مدينة رام الله، إضافة إلى مُختلف مدن الضفّة، ولسُكّان الداخل في المُناسبات. كما موّل أصحاب "المول" افتتاح شارع يصل بينه وبين جامعة بيرزيت، ويمرّ هذا الشارع بالعديد من القرى والبلدات.

إنْ كانت هذه المناطق قبل "لاكاسا مول" تخرج للتسوّق في وسط مدينة رام الله وتُغني السوق هناك، فإنّها مع الوقت ستُفضّل "المول". فإضافة إلى ذلك، خُصِّصَ مكان داخل "المول" لرعايةِ الأطفال، بإشراف مُختصّين. كما يتوقع افتتاح مكاتب لوزارات حكوميّة في "لاكاسا مول"، مثل: وزارة النقل والمواصلات ووزارة الداخليّة، حيث تُقدّم خدماتٍ حكوميّة كإصدار جوازات السفر. من شأن ذلك أنّ يستقطب أكبر قدر مُمكن من الناس، من مُختلف الشرائح الاجتماعيّة. 

يكمن الخطر الحقيقي لانتشار المولات دون أدنى ضابط فيما تُحدثه من ضررٍ اقتصاديّ على المصالح الصغيرة. تقدّم بإمكانياتها الواسعة أنواعاً مُعيّنة من الماركات، وتستقطب الزبائن من كلّ حدبٍ وصوب، بالإعلانات والتسهيلات وافتتاح طرق وتوفير مواصلات. بينما من يحتاج الدعم الاجتماعيّ والماليّ الحقيقيّ يُقمع من جهة، ويَضعُف سوقه من جهة أخرى، فيزداد فقراً.