25 يناير 2022

هذا المقال غائمٌ جزئيّاً

هذا المقال غائمٌ جزئيّاً

صيفاً شتاءً، يتساءل النّاسُ عن أحوال الطقس. المزارعون لأجل الاطمئنان على محاصيلهم ومعرفة مصير المواسم التي ينتظرون، والمُسافرون حتّى يُحدّدوا وجهتَهم، والأهالي حتّى يعرفوا ماذا على أولادهم أن يرتدوا. ويكون الطقس أحياناً موضوعاً لأولئك الذين لا موضوع لديهم ليكسروا به برود جلسات اللقاء الأولى.

وبالتوازي مع ذلك، تنتعش على وسائل التواصل الاجتماعيّ صفحاتٌ للراصدين الجويّين وهواة الرصد الجويّ، في جوٍّ من التنافس على تقديم معطياتٍ جديدةٍ وتنبؤات بالطقس، خاصّةً في فصل الشتاء. 

اقرؤوا المزيد: "طقوس التشريب وأهازيج شحدة المطر".

وقد صارت لذلك صنعة عند البعض لا تقتصر على المؤسسة الرسميّة، بل ثمّة هواة أيضاً يملكون محطّات رصد على أسطح منازلهم تُمكّنهم من معرفة أحوال الطقس والتنبؤ به عبر مواقع خاصّة، مثل: طقس فلسطين، وطقس الوطن. وبات الراصد يُسمّي العواصف والمنخفضات الجويّة: ألكسا، وهدى، وميريام، وغيرها من الأسماء. ويصاب روّاد التواصل الاجتماعي بالتخمة من حجم التقديرات والتهويلات والمتابعات الخاصة بتوقعات وصول المنخفضات والأمطار والثلوج.

بانتظار الموافقة

بحسب دائرة الأرصاد الجويّة الفلسطينيّة، تتواجد في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة أكثر من 150 محطّة مطريّة ووظيفتها قياس كميات الهطولات المطريّة، منها محطاتٌ يدويّة تقيس الهطولات مرّة كلّ ستِ ساعات، ومنها محطات إلكترونيّة تقيس الهطولات كلّ ربع ساعة. 

إضافةً إلى ذلك، هناك 15 محطّة رصد جوّي تقيس العناصر الجويّة كلّ ثلاث ساعات. تتوزّع المحطّات المذكورة على النحو التالي: دوما، جنين، طولكرم، ونابلس، ورام الله والبيرة، وأريحا، وبيت لحم، والخليل، وغزّة، ورفح، وكردلة، والقدس، وعقربا، وقلقيلية. تتحوّل هذه القراءات مباشرةً إلى قاعدة البيانات في مقر الإدارة العامة لدائرة الأرصاد في رام الله، فتُحلّل ويُستند إليها في تحديث الحالة الجوّية. 

يعتمد الراصدون الجويّون على الأدواتِ والمحطاتِ المذكورة، بالإضافة إلى المراقبة بالعين للظواهر الجوّية وعناصرها والسحب وغيره. أما لإعداد النشرات التنبؤيّة فيُعتمد على نماذج أوروبيّة وأميركيّة، تستند على كمٍ هائلٍ من البيانات المُناخيّة (سرعة الرياح، درجات الحرارة، الرطوبة، إلخ) المُجمّعة عبر أجهزة ومعدّات وأقمار صناعيّة من عشرات آلاف محطّات الرصد حول العالم.  يُذكر أن الراصد الجويّ يختلف عن المتنبّئ الجوّي، فالأول يقيس عناصر المناخ ويراقبها، في حين يقرأ المتنبّئ الجوّي الخرائط الجوّية وأنظمة الضغط الجوّي ويصدر النشرات الجوّية. وفي حين تملك السُّلطة الفلسطينيّة أدوات الرصد الجوّي، فإنّها لا تملك أدوات التنبّؤ الجوي الكافية.

فلسطينيّ يجرّ عربة لبيع الخضار في أحد شوارع غزّة خلال عاصفة مطريّة، يناير 2018. عدسة: محمد عابد/AFP.

يعود هذا الاعتماد على نماذج خارجيّة إلى النقص الحادّ في الأجهزة المُتخصّصة والمتطوّرة لعمليّات الرصد الجوّي. بحسب يوسف أبو أسعد، رئيس دائرة الأرصاد الجويّة الفلسطينيّة، فإنّ الدائرة تفتقد إلى رادارٍ وقمرٍ صناعيّ ونظام (Meiser) المُتخصّص في التنبؤات الجوية الدقيقة. عدا عن أنّ تكلفة النظام مُرتفعة، إذ تصل إلى حوالي 800 ألف دولار، فإنّ استيراده إلى فلسطين بحاجة إلى موافقة من قبل منظمة الأرصاد الجوية العالمية، التي تضم دائرة الأرصاد الجويّة الفلسطينيّة كعضو مُراقب. كذلك، فإنّ الدائرة التي يعمل بها ما يُقارب الـ 70 شخصاً، بحاجة إلى كوادر إضافيّة وتعيينات جديدة، الأمر الذي يغيب عن الدائرة، وهي دائرة مُلحقة بوزارة النقل والمواصلات. 

هل تؤدّي معرفة الطقس إلى السيطرة على الأرض؟

للرصد الجويّ في فلسطين تاريخٌ استعماريّ حافلٌ، فعبر "صندوق استكشاف فلسطين"1هو جمعيّة بريطانيّة مقرّها لندن، تأسست عام 1865. يدّعي الصندوق أنّ أهدافه في فلسطين علميّة، تُعنى بالبحث في الآثار والجغرافيا والطوبوغرافيا الفلسطينيّة، وقد أجرى مشروعاً مسحيّاً لفلسطين، غير أنّه لعب دوراً استخباراتيّاً لخدمة الأطماع الاستعماريّة لبريطانيا والحركة الصهيونيّة. أجرت بريطانيا عمليّات رصد جويّ في تل أبيب في الفترة بين عامي 1881-1889. وكذلك الحال جرت عمليات رصد موثّقة منذ عام 1869 في الناصرة، ونفّذ بريطانيون عمليات رصد أخرى في الخليل وغزّة وطبريا بشكلٍ متقطّع، وأقام المستوطنون الألمان (فرسان الهيكل) محطّات رصد أخرى في مناطق عديدة استمر أقصاها بالعمل حتّى الحرب العالمية الثانية. ولم يقتصر الأمر على الألمان والبريطانيين، بل أنشأ الفرنسيون والأميركيون والروس أيضاً محطّات رصد جوّي في المنطقة.

اقرؤوا المزيد: "شعب الله" في حيفا.

وفي عام 1897 أقام المستوطنون الصهاينة أوّل محطّة رصد جوّي في المدرسة الزراعيّة الاستيطانية مكفيه يسرائيل في يافا، ومن ثمّ أنشأ المستوطنون محطّة أخرى في مستوطنة ريشون لتسيون تتويجاً لعمليات رصدٍ بشرية امتدت لسنوات في المكان، وكانت الاثنتان محطّتين خاصّتين. وفي عام 1911 أنشأ الاتحاد الصهيوني محطّتي رصد أخريين تل أبيب لتلحق بهما محطّات أخرى عديدة أشرف عليها "الأب الروحي" للرصد الجوّي للحركة الصهيونية أبراهام باروخ.2أنظر؛ Yair Goldreich. The Climate of Israel: Observation, Research and Application. 

بالنسبة للدول الاستعماريّة، ليس الرصد الجوّي دراسةً للمناخ بُغية معرفة ماذا يرتدي الناس من الملابس، فله عندهم أبعاد عسكريّة تْعنى بجمع معلومات استخباراتيّة أثناء الحروب ولضبط حركة الطيران والملاحة. فمثلاً؛ بعد احتلال بريطانيا لفلسطين وحتّى مُغادرتها البلاد، أسست محطّات ودوائر رصد جوّية وصلت إلى حوالي 250 محطة3المصدر السابق.، إحداها كانت عسكرية تتبع وزارة الطيران البريطانيّة. 

وتساعد هذه المعلوماتُ الدولَ الاستعماريّةَ في استكشاف المناطق، وبالتالي استغلالها زراعيّاً وتجاريّاً وصناعيّاً فتعود عليهم بالربح. وهكذا، فإنّ دخول الرصد الجوّي لبلادنا فلسطين لم يكن مفصولاً عن الأطماع الاستعماريّة للدول الغربيّة والمشروع الصهيونيّ فيها. ولم يكن انتعاش هذا النوع من العلوم إلّا ضمن تزاحم هذه المطامع مُجتمعة، والتي دشّنت مشاريع وأقامت مؤسسات عديدة لدراسة فلسطين وجغرافيّتها وسكّانها ونباتاتها ومناخها تمهيداً لإحكام السيطرة عليها وسلب أراضيها. 

بعد نكبة عام 1948، تسلّمت دولة الاحتلال إدارةَ الأرصاد الجويّة في الأراضي المحتلّة عام 48، ولم تلبث حتّى سيطرت على إدارة الرصد الجويّ في فلسطين كلّها، وذلك إثر احتلال عام 1967. بيد أنّ دولة الاحتلال لم تُسيطر على المحطّات الجويّة فحسب، بل بنت شبكة رصد جوّي كبيرة تحوي 82 محطّة رصد جوّي تغطّي رقعة فلسطين التاريخيّة، وتشمل الجولان السوري المحتلّ. 

نساء يقدن عربات بواسطة الحمير، محملة بالمحاصيل الزراعية، خلال الأمطار في أحد شوارع مدينة غزة. أكتوبر 2017. (عدسة: محمود الهمص/AFP).

لكي يُقال "المؤسسة الرسميّة"

بعد قيام السُّلطة الفلسطينيّة عام 1994، نُقلت إدارةُ دائرة الأرصاد الجوّية في الضفّة والقطاع إلى السلطة الناشئة. ومنذ ذلك الحين، أوفدت السّلطة على دفعات عشرات المتدربين إلى مصر بهدف اكتساب الخبرة والمعرفة بهذا المجال، وتأهيل طاقم الدائرة الذين سيشكّلون نواة دائرة الأرصاد التي ستُأسس لاحقاً.

تأسست إدارةُ الرصد الجويّ كإدارةٍ عامّةٍ تتبع وزارة النقل والمواصلات الفلسطينيّة عام 1997، وعام 1999 أصبحت الأرصاد الجوّية الفلسطينيّة عضواً مُراقباً في منظمة الأرصاد العالميّة، وعضواً دائماً في اللجنة العربيّة الدائمة للأرصاد الجوّية في جامعة الدول العربيّة. وفي العام ذاته، افتُتِحَت محطتا رصد جديدة في رام الله ومطار غزّة الدولي.

يصاب روّاد التواصل الاجتماعي بالتخمة من حجم التقديرات على حالة الطقس، والتي تصل أحياناً إلى درجة التهويل. منبع بعض هذه التقديرات هواةٌ ومواقع غير رسميّة، همّها الأساس الحصول على أكبر عدد من الزيارات للموقع، وذلك بنشر أخبارٍ غير دقيقة ولكنّها تُثير المُستخدمين وتُحفّزهم على الدخول لقراءة الخبر. 

وجدت السلطة ذلك مُبرّراً لاحتكار الرصد من الهواة جميعاً، والذي يمتلك بعضهم معدّاتٍ ومؤهلاتٍ وخبرةً في هذا المجال. إذ أصدرت وزارة الإعلام بالتعاون مع الأرصاد قراراً يجبر وسائل الإعلام المحليّة على استقاء نشرتها من الجهات الرسميّة فقط، وأعدّت دائرة الأرصاد مسودة قانون عام 2016 لتنظيم هذا القطاع قدّمته إلى مجلس الوزراء لإقراره، لكنه لم يُقرّ حتّى الآن.

في هذه الحالة تحديداً، تكون الأرصاد الجويّة الفلسطينيّة نوعاً من أنواع إثبات السيادة وتخيّل الدولة بمؤسساتها المُتعدّدة، وإلا كيف يمكن فهم أنّ "المساهمة في سلامة الملاحة الجويّة والبحريّة" هي إحدى المهام المذكورة لوظيفة الأرصاد الجويّة الفلسطينيّة.