1 أبريل 2021

غارات اقتصادية في القُدس: تكتيك إسرائيليّ لقمع أهالي باب حُطّة

غارات اقتصادية في القُدس: تكتيك إسرائيليّ لقمع أهالي باب حُطّة

في أحد أيّام شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، داست أقدام جنود وموظّفي مختلف أذرع الاحتلال بلدة القدس القديمة، متّجهةً نحو حارة باب حطّة الملاصقة للمسجد الأقصى من سوره الشماليّ. كان وصولهم هذه المرّة سريعاً ومباغتاً، دون أن يصل أي خبرٍ يُنذر بقدومهم، كما هو معتاد.

بعد ذلك اليوم اختفت من الحيّ رائحة الكعك وصوت فرن النار لعدة أيام. سكنت الحركةُ أمام بائع الفلافل. بحث الأطفالُ على مدار أيّام دون جدوى عن صاحب بقالة يصرف الشواكل التي جمعوها. لم يجلس أحدٌ على كرسيّ حلاق الحيّ لأكثر من أسبوع، وأطبق صمتٌ طويلٌ على الحارة، مجبول بقمعٍ وقهرٍ خلفتهما حكومةُ "إسرائيل".

كان هؤلاء الجنود والموظفون قد داهموا الحيّ ضمن حملة تضّم مختلف الوزارات والهيئات الحكوميّة الإسرائيليّة لتحرير المزيد من المخالفات والمطالبة بالمزيد من الضرائب. بعد أن احتلت "إسرائيل" المناطق الشرقيّة من القدس عام 1967، أعلنت عن ضمّها وفرضت القانون الإسرائيليّ "المدنيّ" عليها، ثمّ استخدمته للسيطرة على المقدسيين وقمعهم. هكذا فُرِضَت ضرائب وأنظمة ترخيص ورقابة مختلفة من قبل عدّة أذرع حكوميّة، كلّها تصب في هدف تضييق الخناق على المقدسيين والسيطرة عليهم وهندسة حركتهم الاجتماعيّة.

ضمن هذه السياسات، استهدفت "إسرائيل" التجارة كعصب مركزيّ للحياة الاجتماعيّة المقدسيّة، في سوق البلدة القديمة خاصةً، فأثقلت على كاهل التجّار بالغرامات والضرائب، وإجبارهم على الانغماس بالظرف الذي تفرضه هي والخضوع له، وإبعادهم عن أي نوع من أنواع المقاومة ضدّ الاحتلال.

حارة باب حُطّة بالذات! لماذا تستهدفها "إسرائيل"؟

أمّا حارة باب حطّة، فهي المثال الأبرز لتكثيف هذا الهجوم "المدنيّ" الذي تنتهجه حكومة الاحتلال من أجل ضرب المجتمع المقدسيّ وقدرته على الصمود وسعيه لمقاومة الاحتلال. فقد شكّلت حارة باب حطة الواقعة على بعد أمتارٍ قليلة من أحد أهم أبواب المسجد الأقصى، مثالاً واضحاً على الفعل النضاليّ المستمرّ، فلا تصمد بها كاميرا مراقبة إسرائيلية طويلاً، وما إن ينصبُ الاحتلال واحدةً حتى يعود لتركيب أخرى بفعل تكسيرها، وتعرّض غالبية شبانها للاعتقال والتحقيق على خلفية مشاركتهم في مواجهاتٍ مع الاحتلال.

فلسطينيون يحاولون الاحتماء من قنابل الصوت التي ألقتها شرطة الاحتلال الإسرائيلي لتفريق جمعهم خلال أحد أيام اعتصام باب الأسباط، 25 يوليو 2017. (عدسة: مصطفى الخاروف/ الأناضول)

كما أصبحت الحارة حاضنةً اجتماعيّةً لزوار المسجد وعلى تماسٍ مباشرٍ بأية أحداثٍ تتعلق به. في صيف عام 2017 وخلال أحداث هبّة باب الأسباط، كان للحارة ومحلاتها دورٌ هامٌ في إمداد المعتصمين على أبواب المسجد بالطعام والماء على مدار أسبوعين ومساعدتهم على الصمود. وفتح سكان الحي منازلهم أمام المعتصمين الباحثين عن مأوى من قمع الاحتلال لهم، أو للمساهمة في إسعاف بعضهم، أو حتى لأغراض استخدام المراحيض فيها. 

وهو دورٌ تكرر مطلع عام 2020، بالتزامن مع حملة "الفجر العظيم" التي كانت تدعو لحشد الفلسطينيين على صلاة فجر الجمعة في المسجد الأقصى وتكثيف وجودهم في المكان. بالتزامن مع ذلك، بدأ بعض تجار الحيّ بفتح محالهم باكراً، وساهم ذلك في خدمة المصلين، الذين وصل عددهم في إحدى الجمع، بحسب دائرة الأوقاف الإسلاميّة، إلى 15 ألف مصلٍ.

اقرؤوا المزيد: "باب حطة.. عام على معركة الدخول".

منذ عدّة سنوات، وبعد حادثة إحراق الشهيد محمّد أبو خضير عام 2014 بالذات، وما تبعها من أحداث أشعلت مدينة القدس من جديد، عاد الاحتلال ليكثّف قمع التجّار باستخدام سلطاته "المدنيّة" وتسليطها على باب حطّة تحديداً. وصعّد الاحتلال نهجه هذا بإضافة المزيد من الجهات الوزاريّة والبلديّة التي استهدفت التجّار بجباية الضرائب والغرامات. وذلك بشكلٍ موحّد وبهجمات مكثّفة لجميع هذه الجهات مجتمعة التي تصل الحيّ بكبسيّات فجائيّة، تنتهي بإغراق التجّار بأوامر الدفع أو أوامر المحاكمة. وكانت آخر هذه الهجمات في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والتي وصفها تجّار الحي بالأعنف والأقسى على الإطلاق.

كيف تتنظّم الغارات؟

في ذلك اليوم، اقتحم عشرات العناصر من شرطة ومخابرات الاحتلال الحارةَ وأغلقوا مداخلها، ومن ثم دخل موظفون من البلدية وسلطة الضرائب (ضريبة الدخل، ضريبة القيمة المضافة، ضريبة رسوم الأملاك، وموظّفو "الأرنونا")، وعناصر أخرى من وزارة الصحة ووزارة الزراعة (المسؤولة عن مراقبة المنتجات الحيوانية كاللحوم والبيض) ومن وزارة الطاقة (المسؤولة عن مراقبة موارد الطاقة كالغاز المستخدم في المحال التجارية).

حملت كلُّ هذه العناصر معها لكلّ تاجرٍ ملفاً وأمر تفتيش، وانتهت تلك الزيارة بعددٍ من المخالفات الماليّة للتجار، وباستدعاءاتٍ لبعض آخر لدى المخابرات،  ومن كان الأكثر حظاً فيهم كان نصيبه مصادرة شيءٍ من بضاعته من المنتجات الفلسطينية أو ممتلكاته.

تقومُ فكرة هذه "الغارة المدنيّة"، على اجتماع كلّ هذه الوزارات والدوائر التي لا يتقاطع عملها، وهو ما لا يحدث بشكلٍ شبه مطلق في أي حالة أخرى يُطبّق بها القانون الإسرائيليّ. فلا رابط واضح بين هذه الدوائر الحكوميّة، إلا بما تنظّمه المخابرات وتقصده، وذلك لاستخدامها أداة للضغط على التجّار تحت مبرّرات مختلفة؛ منها أن تجد منتجات ألبانٍ فلسطينيّة تحظرها "إسرائيل"، أو بسبب بسطات المحلّات التي يدّعون أنّها "تعطل الطريق العام".

جنود الاحتلال في حارة باب حطة، على بعد خطوات من الباب المؤدي إلى المسجد الأقصى. التقطت الصورة في رمضان 2020، الذي شهد إغلاقات محكمة في ظلّ انتشار فيروس كورونا. (عدسة: مصطفى الخاروف/ الأناضول).

ازدادت حدّة ووتيرة هذه "الغارات المدنيّة" بعد استشهاد مهند الحلبي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 داخل البلدة القديمة، حتى صارت تأخذ بوضوحٍ شكل "عقابٍ جماعيّ" لتجار الحي على كل الأدوار النضاليّة التي لعبتها الحارة... والتي باتت مضرب مثلٍ لكلّ الحارات، وباتت مرتبطة بأيّ حدث تعيشه البلدة القديمة. ولاحظ تجار الحي بعد أحداث عام 2017، ارتباط هذه الهجمات زمنياً مع دورهم في مساندة المعتصمين في هبة ذلك العام، ومن حينها صارت حكومة الاحتلال تكرّر هذه الهجمات بمعدل 6 أو 7 مرات سنوياً. 

ملاحقة الكعك

خلال فترة نشاط حملة "الفجر العظيم" مطلع 2020، أراد الاحتلال ردع التجار عن التواجد وفتح محالهم فجراً في خدمة للمصلّين. وقد لاحظ أحد ضبّاط شرطة الاحتلال عملية توزيع أحد مخابز الحي لكعكٍ على المصلين بناءً على طلب أحد المتبرعين مقابل مبلغٍ مالي. بعد يومين، داهمت الشرطة والمخابرات، بمرافقة موظّفي وزارة الصحّة والبلديّة والضرائب والشرطة، ذلك المخبز، وطلبت منه إثبات امتلاك رخصة للعمل في المخبز الذي ورثه عن أبيه وجدّه، والذي يعمل في الحيّ منذ عقود طويلة. اختلق الاحتلال حينها أسباباً لإغلاق المخبز، وأطّرها في إطار قانونيّ ليجعلها "مبررة"، كــ"عدم امتلاكه رخصة من وزارة الصحة للعمل"، بينما هو في الحقيقة يحاول معاقبة صاحب المخبز الذي وُزّع كعكه على المصلين.

أخطر الاحتلال صاحب المخبز بإغلاقه خلال أسبوع إن لم يحصل على الترخيص المطلوب. وفي شروط هذا الترخيص طلبوا منه توفير غرفةٍ منفصلةٍ للعمال وأخرى للطحين، وتوفير بابٍ لإدخال المواد يختلف عن باب الزبائن. وهي كلّها طلبات تعجيزيّة مستحيلة في بلدة القدس القديمة، في مبانٍ ضيّقة عمرها مئات الأعوام، وتحت قوانين ونظم بناء متشددة جداً تجعل أي ترميم وتعديل في البناء مهمة مستحيلة. بهذه الطريقة، حاولت "إسرائيل" ترهيب كلّ تجار الحي وتحذيرهم من لعب أي دورٍ في هذه الحملة.

هذا واحد من الأمثلة على عدّة أنواع من "المخالفات" التي يستغلّ بها الاحتلال قلّة حيلة التجار وعدم قدرتهم على تنفيذها. وإحدى هذه المخالفات المشهورة التي يتعرّض لها معظم تجار الحي باستمرار هي مخالفة البلدية بحجة تعطيل الطريق العام، وقيمتها 475 شيكلاً، والتي يضطر معظم تجار الحي إلى دفعها أكثر من مرة ولأكثر من سبب، كوجود بسطةٍ أمام باب المحل مثلاً. وقد تكون أحياناً قيمة هذه المخالفة توازي مجموعَ ما باعه التاجر في كلّ ذلك اليوم أو حتى خلال عدة أيام.

وسيلة ابتزاز للمخابرات

خلال عام 2020 فقط نفّذ الاحتلال 5 هجماتٍ من هذا النوع على حي باب حطّة، وذلك رغم الإغلاقات المتكرّرة بحجة فيروس كورونا، ومنع النّاس من الوصول إلى البلدة القديمة، وهو ما زاد التجّار ضعفاً فوق ضعفهم. وقد حرمهم الإغلاق الأول الذي تزامن مع شهر رمضان، وشمل إغلاقاً للمسجد الأقصى، من أهم مصدر لدخلهم خلال العام، إذ يتضاعف في شهر رمضان بالعادة عدد الوافدين إلى الأقصى، مما يعني تنشيطاً للحركة التجارية، لدرجة أن كثيرين من التجار يعتمدون على أرباح شهر رمضان لتلبية احتياجاتهم بقية العام، أو لدفع بعض الديون والمخالفات المتراكمة عليهم.

استعمل الاحتلال هذه الغارات "المدنيّة" لابتزاز التجار ووضعهم بين خيارين، التعاون والرضوخ أو تحمّل الأذى في رزقهم، وهو بذلك يستغلُّ هذه السلطات المدنية ويجنّدها لخدمته على المستوى الأمنيّ والمخابراتيّ في حارة باب حطّة، التي لا تزال حتى اليوم مستمرةً في صمودها ومقاومتها لكلِّ أساليب الاحتلال القمعيّة.

في حالات عديدة، وبعد أن سلّمت جهات "مدنيّة" غرامات باهظة للتجّار، استدعتهم المخابرات وعرضت عليهم إلغاء الغرامات مقابل التبليغ عن بعض أسماء المناضلين في الحيّ. في حالات أخرى، ضغطت المخابرات على التجّار من خلال تخييرهم بين "ضبط" الشبّان ومنعهم من المشاركة في أي مواجهات من جهة، أو زيادة الغارات المدنيّة وبالتالي الغرامات وأوامر المحاكمة أو الإغلاق. هكذا، تستغل المخابرات هذه الأداة لقمع الشبان وتحميلهم مسؤوليّة التضييق على تجّار الحي وأرزاقهم. إذاً تنتهج "إسرائيل" ذات الممارسات بعد كلّ مواجهةٍ أو فعلٍ نضاليّ، وهي ممارسات تجبر التجّار على إغلاق أبوابهم لأيّام، وأحياناً لأسابيع.

أمام هذه الضغوطات، حاول التجّار مراراً تفادي هذه الهجمات عبر إغلاق محلّاتهم التجاريّة كلّما وردهم نبأً عن اقتراب "كبسيّة"، ليصل الجنود والموظّفون فيجدوا الحي مغلقاً فلا يتمكّنون من التغريم والمصادرة. ولمّا أدرك الاحتلال أدوات الصمود هذه، وفشلت غاراته مرّة تلو الأخرى، بدأ يستخدم أسلوباً جديداً. يدخل الجنود بدوريّة تبدو روتينيّة بدايةً (بحكم التواجد الشرطي الإسرائيلي شبه الدائم في أزقة البلدة)، ويجمعون خلالها بطاقات هويّة التجّار بحجّة فحصها، وما إن يُسلّم التاجر هويّته، وبالتالي لا يتمكّن من المغادرة، حتّى يتفاجأ بوصول موظّفي الجهات الحكوميّة وبدء تفتيش دكّانه.

هكذا تُفرّغ البلدة القديمة

رغم إرادة الصمود ومواجهة القمع، إلا أن الظروف التي تفرضها "إسرائيل" استطاعت أن توجّه ضربات قاصمة للبلدة القديمة. بعد غارات 2017 و-2018، أغلقت ما يقارب نصف المحال الموجودة في حارة باب حطة أبوابها، بعضها تلقى مخالفاتٍ باهظة عدة مرات، منها مخالفات وصل قدرها 18 ألف شيكل لأحد المطاعم في الحيّ، ليغلق أخيراً أبوابه نهائياً بعد فترة قصيرة.

يبلغ عدد محال حارة باب حطة 53 محلاً تجارياً، لم يصمد حتى اليوم إلا 29 محلاً فقط يتوزع عملهم بين البقالة والحلاقة والمخابز والمطاعم الشعبية. وبعضهم لا يزال عالقاً في المحاكم والمخالفات المتراكمة. ويبقى كل تاجرٍ فيهم متأهباً، وبمجرد اندلاع أية أحداث يغلق أبوابه ويغادر المنطقة دون أي انتظار.

مجرّد سماعهم من أي شخص يمرُّ كلمة "كبسية"، أو حتى رسالة تحذير واحدة على واتساب تصل أحدهم تُنبأه بهجمة قريبة، تنقلب الحارة بسببها خلال دقائق من حارة طبيعية لحارة مهجورةٍ مغلقة، قد يغيب بعدها التجار عدة أيام أو أسابيع، وحتى حينما يعود الحي تدريجياً لفتح أبوابه يبقى كلُّ تاجرٍ منهم مترقباً منتظراً أيّة إشارة قد تضطره للإغلاق والرحيل مجدداً.

ما يحصلُ اليوم في حارة باب حطة، هو استهداف تنفّذه "إسرائيل" ضدَّ أيّ حاضنة شعبية اجتماعية تلعب دوراً سياسيّاً في القدس، وهو جزء من توجه الاحتلال منذ سنوات داخل المدينة والذي ركّزت فيه عملها لقمع وإيقاف كلّ ما يتعلق بالنضال ضدّ المحتل وأساليبه، سواء على مستوى التجّار أو الشباب أو حتى على صعيد المؤسسات العاملة، ويأتي ذلك كله في إطار هدفٍ أكبر يريد إخضاع المدينة بمن فيها لسيطرة "إسرائيل" الكاملة.

*يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" منذ يناير/ كانون الثاني 2021.