22 ديسمبر 2018

"إذا دقّت منِفْرِز"

المناطقيّة في جامعة بيرزيت

المناطقيّة في جامعة بيرزيت

يوم الإثنين، 17 ديسمبر/ كانون الأول، قرابة السّاعة الثالثة عصراً، اعترضت سيارتان مدنيتان على مفرق "جامعة بيرزيت" شاباً وأصدقاءه، وهم ناشطون في "الكتلة الإسلاميّة" من مدينة القدس. نزل من السيارتين رجالٌ بزيٍّ مدنيٍّ، عرّفوا عن أنفسهم على أنهم من المخابرات الفلسطينيّة. بعد دقائق من الضّرب والمناوشات بين الجهتين، هرب الشّاب إلى داخل أسوار الجامعة. لكنّ الشّاب الذي ركض تجاه الجامعة كي يحتمي بها، لم يكن يعرفُ أنْها نفسها التي ستمنعُه من دخولها في اليوم التّالي، هو وخمسةٌ من أصدقائه تورّطوا في ذات "المشكلة" وامتداداتها.

"فيها تريك"

تعودُ خلفيةُ تلك الحادثة إلى تعليقٍ حفظتْهُ المخابراتُ جيّداً، كان الشّاب قد كَتَبَهُ على فيسبوك، تعقيباً على اعتداء الأجهزة الأمنيّة على مسيرة انطلاقة "حماس" في الخليل، يدعو فيه إلى الانقلاب على السُّلطة الفلسطينيّة. تعليقٌ أتاحتْهُ المنطقةُ لابن القدس، فلا منطقة ولا فصيل في الضفّة الغربيّة يحتملان هكذا دعوة. مع ذلك، لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى حُذِفَ التعليق، بعد أن وَضَّحَ الشّابُ على صفحته على فيسبوك، على إثر اعتداء الأجهزة الأمنيّة عليه، أنّه لم يقم بكتابتِهِ، وأن حسابَه كان مُخترَقَاً وقد قام باستعادته.

الأزمةُ التي بدأتْها الأجهزةُ الأمنيّةُ خارج أسوار الجامعة، تَصَدَّرت داخل الأسوار حتّى أصبحتْ أزمةَ "الكتلة الإسلاميّة"، بعد وقوع عدة مناوشات بين أفراد الكتلتين: "الشّبيبة الطلابيّة"، و"الكتلة الإسلاميّة". مناوشات بالضرب والصّراخ كان منبعُها غضبٌ من الأجهزة الأمنيّة وحركة "فتح" صَرّح به شّبابُ "الكتلة الإسلاميّة" المُعتدى عليهم، أعقبه ردُّ أفراد "الشّبيبة الطلابيّة"، مما أدّى إلى اعتداء الطّرفين على بعضهما. تطوّرت الأمور نحو الأسوأ حين ردّ أحد أفراد "الشّبيبة" على أحد أفراد "الكتلة" داخل مكتب عميد شؤون الطلبة بالقول: "مش رح تروّح اليوم". هذا التهديد جعل أفراد "الكتلة" يبدأون الاعتداء، أمام العميد، على أفراد "الشّبيبة" (كان من ضمنهم المسؤول عن التنسيق والحوار في "الشّبيبة") وعلى الحرس الجامعيّ، وهو ما جعل الأمور لا تكون في صالح "الكتلة".

بعد ذلك، طَالَب أفرادٌ من "الشّبيبة"، لكي تُحلّ المشكلة، أن تَفْصِلَ عمادةُ شؤون الطلبة الطلبةَ الذين بدأوا "الاعتداء"، مشيرين بشكلٍ غير مباشرٍ إلى أنهم أفرادٌ من "الكتلة الإسلاميّة"، وأن تتبرّأ "الكتلة" منهم. لم يدم وقتٌ طويلٌ على المطلب حتّى صرّح عميد شؤون الطلبة أمام كوادر "الشّبيبة" المُجتمعة أمام مبنى العمادة؛ المبنى المتواجد داخله أفراد الكتلة: "قرّرت منع كل طالب تسبّب بخلل من الدخول غداً إلى الجامعة، هذا واحد. ثانياً، كل طالب، أخل أي إخلال، أساء للنظام العام للجامعة، سيُحوّل غداً للجنة النظام العام". جُملة قاطعه فيها أحدُ أفراد "الشبيبة" قائلاً: "هاي فيها تريك"، يقصد بها أن المحاسبة يجب أن تكون للذي بدأ المشكلة فقط، لا أيضاً للذي تعاطى معها و"فار دمه".

تأتي نقطة العميد الثانية بعد أن قام العديد من الطلبة من كلا الكتلتين بتخريب الممتلكات العامّة في مبنى العمادة، والمشاركة في الاعتداءات التي حصلت. فعلاً، كان أوّل اجراءات العمادة حرمان ستة من كوادر "الكتلة الإسلاميّة" من مدينة القدس، من دخول الجامعة حتّى يُبتّ في أمرهم، والذي غالباً ما سيكون قراراً بالفصل النهائي من الجامعة.

"لن ترضى عنكم الشبيبة ولا العمادة"

بالتزامن مع ذلك، وقبل أن تفضّ الجموع من الجامعة، كتبت "الكتلةُ الإسلاميّة" على صفحتها على "فيسبوك، منشوراً تتنصّلُ فيه من فِعل الطّلبة، الذين لم تُشِر أنهم من كوادرها، وذلك كي تُحافظ على صورتها أمام مجتمع الجامعة (الطلبة، إدارة الجامعة، الحركة الطلابيّة…). تنصّلٌ فَهِمَهُ كوادر "الكتلة" والمنتمون لها، من مدينة القدس تحديداً (لأن الطلاب الممنوعين من دخول الجامعة هم من القدس)، على أنه تبرّؤ وخذلان لأبناء الكتلة، وجعلهم للحظات يُسائلون انتماءهم السياسيّ. كانت تلك حركة سُحِب الانتماء السياسيّ فيها من تحت أرجلهم فجأة، ليلقفهم الانتماءُ الجغرافيّ لمنطقة القدس. إنّها لحظة هُويّاتيّة حاسمة وصعبة: "هل أنا مقدسيّ أكثر من كوني "كتلة إسلاميّة"؟ لم يتعارضا يوماً، لماذا تعارضا الآن؟".

انتماء الفرد لجماعة ما يقتضي عليها أن تُبقيه داخلها، وأن تتحمّل ما ستُوصف به بناء على تصرّفات أفرادها، سواء كانت تلك الأفعال "نافعة" أم "مضرّة". إلا أن الكتلة لم تستطع تحمّل ذلك، وكان من تحمّله واحتواه المنطقةُ الجغرافيّة. لم يكن سبب المشكلة على "صفّة سيّارة" مثلاً، بل كان على رأيٍّ سياسيّ. والذي كان مقلقاً في موقف الكتلة أنّها تخلّت للمناطقيّة عن مشكلةٍ سياسيّةٍ، لم تستطع احتمال حمولتها السياسيّة أو تبعاتها التي بدت ثقيلة عليها. وهكذا، بعد أن تنصّلت "الكتلةُ الإسلاميّةُ" من حماية أبنائها على رأيٍّ سياسيّ، شكّلت المنطقة الجغرافيّة، القدس، شبكة أمان لأولادها.

خرجت "الكتلة" بعد ساعات ببيانٍ توضيحيّ للمنشور، لمحاولة احتواء "الغلطة". إلا أن ما لم تنتبه له أن منشورها الأول كان واضحاً جداً بالنسبة لجمهورها، وأن الإشكال ليس في عدم اتضاحه، وإنما في شدّة وضوحه، إذ راحت الأقوال تجاه أن "الكتلة" انتصرت "لأهل الضفة الغربيّة" على حساب "أهل القدس".

بدت "الكتلة" مرتبكة في بيانها الذي احتوى على ثلاث نقاط، كان جميعها يدين الأجهزة الأمنيّة. محاولةً إعادة الأمور إلى نصابها، إلى سبب الإشكال الأوّل، وكأنّها تتمنّى أن استخدامها المُتكرّر لموضوع الأجهزة الأمنيّة سيعيد توحيد جماهيرها الذين لم تعد تستطيع السيطرة عليهم، والرد على انتقاداتهم، ما دعاها إلى منشورٍ ثالث. علّق عليه أحدهم حينها داعياً "الكتلة" لتجاهل صورتها أمام مجتمع الجامعة، والوقوف مع أفرادها: "لن ترضى عنكم الشبيبة ولا العمادة". ولم يُحلّ جزءٌ من هذا الإشكال، إلا حين علّق أحدُ الكوادر الستة المتضررين يبرّر "للكتلة الإسلاميّة" فعلتها، ويردّ ما حصل إلى مشكلةٍ شخصيّة.

"إذا دقّت منفرز…"

أفرزت المشكلةُ ثنائيةَ "ضفة/شبيبة وقدس"، فخلال تواجدهم داخل مبنى العمادة، أرسل أحد شبّان "الكتلة الإسلاميّة"، وهو من القدس، رسالةً صوتيّةً لأصدقاءٍ مقادسةٍ آخرين يدعوهم فيها للمجيء إلى الجامعة، حيث تكاثر أبناء "الشّبيبة" و"الضفافوة" عليهم. ولولا أن المشكلة سُيطر عليها في النهاية، لَفُرِزَ شبيبةُ القدس، الذين ظلّوا طوال المشكلة حَلّالين ومحايدين، لمنطقتِهم الجغرافيّة، وهو ما عبّر عنه أحدهم بالقول: "إذا دَقَت منفرِز قدس". كما أنّ "إقليم فتح" في القدس كان مستعدّاً للتدخل، وأن يَفْزَعَ لشبابٍ من "الكتلة"، لمجرّد أنّهم من القدس. عند المحك، أصبح الحزبُ هُويّةً فرديّةً للشخص، مُقابل تلك الهويّة الجماعيّة المُتمثّلة بالمنطقة، التي لن تتبرّأ منك وستحميك، لأن لا صورة تخاف عليها، ولا أصوات انتخابيّة تريد كسبها.

وللمفارقة، حافظت "الشّبيبة"، المليئة بالمناطقية، خلال المشكلة على خطابٍ فتحاويٍّ لجموعها. كان ذلك بالرغم من أنّ طلبة مدن الضّفة المُعتدى على فرد من منطقتهم أخذوا بالتجمع.

ليست المناطقية ظاهرةً استثنائيةً في المشكلة الأخيرة، فهي حالة معروفة في الجامعة، إلا أنها كانت حالة جديدة على "الكتلة الإسلاميّة" وبهذا الوضوح. وهي حالة تُمثّل عُرفاً في "الشبيبة الطلابيّة" مثلاً، التي تظهر فيها التقسيماتُ المناطقيّة بشكلٍ صارخٍ، وتغرق فيها: ممثل عن الشمال، وممثل عن الوسط، وممثل عن الجنوب. تقسيماتٌ سببها البدائي تسهيلُ العمل وتنظيمه، إلا أنها سرعان ما تتحوّل لاحقاً لمشاحناتٍ و"كولسات" بين المناطق داخل "الشبيبة"، وتُنتج مقولاتٍ جاهزةً عن منطقةٍ ما، مثل: "الشمال عَقِيرة" (عقّيرة: تعبير بالدارجة تشير إلى من يتنصل من اتفاق).

ولإرضاء كل منطقة بمنطقتها، توّزع مهمة العِرافة في "الشبيبة" مناطقياً بشكلٍ دوريٍّ: مهرجان الانطلاقة، ذكرى أبو عمار، استقبال الطلبة الجدد، إلخ. وفي المناصب الإداريّة، معروفٌ أنّ المُناظر والمُنسّق يكونان دائماً من مدينة رام الله، وتكون مهمة التنسيق والحوار مع شمال الضّفة، ولم تُخالف هذه التقسيمات إلا في حالاتٍ نادرةٍ جداً في تاريخ "الشّبيبة".

وعلى الرغم من كونها هويّةً مُوّحِدَةً حين حدوث اصطفافٍ ما، فإنّ الهويّة المناطقيّة تتفرّع حين لا داعي لها. تُفرز الضفة الغربية والقدس (الجغرافيّتان الأكثر زخماً في الجامعة) العديد من المناطق، فالسّلواني والعيساوي وابن البلدة القديمة، والنابلسي والخليلي وابن رام الله، وهكذا. مثلاً، المناصب الأخرى في "الشبيبة" تُوَّزَع على المناطق بشكل يُرضي كل منطقة وإن تفرّعت، فرام الله ليست منطقةً واحدةً مثلاً.

في غير المشاكل، تظهر المناطقيّة في الجامعة بشكل أكثر وضوحاً في انتخابات نوادي الكليّات. يكون التصويت معروفاً على المناطق؛ طلبة سنة أولى مثلاً محسوبون على الخليل وبيت لحم، والمُرشح الفُلاني محسوبٌ على طولكرم. فإن كان ثمّة مُرشحٌ لانتخابات أحد النوادي من "الشبيبة" ومن بيت لحم، ومقابله شابٌ من "الكتلة" ومن طولكرم، فإن الطالب الفتحاويّ من طولكرم، غالباً سيُقدّم بلده على حزبه، والأمر معكوس. وهكذا، تتغذّى الهويّة المناطقيّة وتستمد قوّتها بوجود هويّة مناطقيّة مقابلها، فالضفّاوي ينتبه لنفسه عند اصطفاف المقدسيّ، والمقدسي ينتبه لنفسه عند اصطفاف الضفّاوي.

لا أحد ينتبه للمناطقيّة إلا حين تتعارض في حدثٍ ما مع الانتماء السياسيّ، كأن تُغلّب "الجيرَةْ" مع خصمٍ سياسيّ، فنصبح شُركاءَ مُقابل صديقٍ سياسيٍّ أصبح للتوّ عدوّاً لهويّتي المناطقيّة. لكن الجامعة فضاءٌ مليءٌ بالتناقضات الهوياتيّة المُتقّطعة، وما عليك إلا تصيد تلك التناقضات؛ في أمكنة جلوس الطلبة مثلاً، وفي الشلّلية التي يحافظ عليها أبناء البلد الواحد. مع ذلك، تبقى الهويّة المناطقيّة في الجامعة حدثاً في الفصل الدراسيّ وليس نهايته، إذ أن نهايته هي صناديق اقتراع الكتل الطلابيّة، حينها يعودُ الانتماء السياسيّ ليُغطّي على الانتماء المناطقيّ، ويعود السؤال الأهم، لا من أيِّ بلدٍ أنت؟ إنما: لأي كتلةٍ طلابيّةٍ تنتمي؟



9 نوفمبر 2018
عامٌ على MeToo#
إلى الرجال...

"أي شناعةٍ هذه التي تطلب منّا، لمجرّد أنّنا وُلدنا ذكوراً، أن نسكت، ها؟ أيّ انعدامٍ للعدالة والمساواة هذا الذي يمنعنا…