9 سبتمبر 2018

"بيرزيت" والنقابة

تعارفُ أوّل السنة

تعارفُ أوّل السنة

بعد إضراب دامَ ثلاثة أيّام، وقَّعَتْ إدارةُ "جامعة بيرزيت" مع نقابةَ العاملين فيها، أمس السبت 8 سبتمبر/ أيلول، مذكّرةَ تفاهم لإنهاء نزاع العمل بين الطرفين. كانت نقابة العاملين في الجامعة قد أعلنت، في بيانٍ لها في 16 أغسطس/ آب الماضي، مطالبها القديمة التي "تنصّلت منها الجامعة"، وأعلنت أنها ستشرع في إجراءات نقابية بعد انتهاء عطلة عيد الأضحى.

لاحقاً، وفي ظلّ إصرار إدارة الجامعة على عدم التعامل بشكل جدّي مع مطالب النقابة، أعلنت الأخيرة سلسلة فعاليّات احتجاجيّة، منها إضراب شامل مع عدم التواجد في الجامعة، يوم السبت الأوّل من سبتمبر/ أيلول، أوّل أيام الفصل الدراسي 2018-2019، ثمّ يومي الثلاثاء والأربعاء من نفس الأسبوع.

بحسب مذكّرة التفاهم التي وُقّعت أمس، وافقت إدارة الجامعة على تنفيذ أربعة مطالب "أساسيّة" رفعتها النقابة، مقابل تعليق الأخيرة فعالياتها الاحتجاجية. تتلخّص المطالب في: تحويل العقود الخاصّة إلى عقود غير منتظمة كي يسري عليها فيما بعد الانتظام، وفتح الدرجات للموظفين الإداريين، واحتساب ساعات الدوام خلال شهر رمضان، ومعالجة ملفّ الحرس الجامعي.

تعود جذور "الخلاف" إلى نحو سنة تقريباً تخلّلتها إضرابات متفرّقة. في بداية عام 2018، شُكّلت لجان عدّة من الطرفين مهمّتها حلّ "القضايا الخلافية"، أبرزها: الحرس الجامعي، وعقود العاملين واحتساب الشهادات العليا وفتح الدرجات. قضايا لم تغيّر اللجان منها شيئاً، ولم تُحقّق فيها تقدّماً، لتعود وتظهر في بعض مطالب النقابة الحاليّة.

عاد ملفّ الحرس للنقاش بشكل ملّح بعد أن اقتحم مُستعربون في مارس/ آذار الماضي حرم الجامعة، وخطفوا عمر الكسواني رئيس مجلس الطلبة. دفع هذا الاقتحام النقابةَ لإعادة المطالبة بتوفير موارد للحرس الجامعي تمكّنهم من أداء وظائفهم في الحراسة، كتأمين محيط الجامعة المسوّر بسياج مثلاً، الذي تقول الروايّة الرسميّة للجامعة بأن دخول المستعربين تمّ من خلاله.

إن كانت المسألة قد سويّت هذه المرّة بشكل أوّلي، بورقة حملت اسم "مذكرة تفاهم"، فإن صفة "الأوّلي" هذه قد تُعيد الأمور إلى مكانها الأوّل. لا شيء يمنع حدوث "نزاعٍ" آخر سوى أن يتحوّل تمنّي عدم حدوث ذلك إلى إيمان بألّا يحدث ذلك. إذ يُنبِئنا تاريخ الجامعة بالعديد من "النزاعات" بين أجسام متعدّدة من جهة، وبين الجامعة من جهة أخرى، يعود ذلك لقوّة تلك الأجسام، و"الهامش الكبير من الحريّة التي توفّره جامعة بيرزيت"، بحسب سامح أبو عوّاد، رئيس نقابة العاملين فيها.

ما تؤول إليه الوديّة أحياناً

يُعبّر تاريخيّاً عن الطلبة والأساتذة والإداريين وجميع من هُم في فضاء "جامعة بيرزيت" بمسمّى "مجتمع بيرزيت". يدعو هذا المسمّى جميع من هُم في الجامعة إلى التعامل مع المشاكل الجامعيّة بشكلٍ جماعيّ، إلّا أنّه أدّى كذلك لأن تكون طبيعة العلاقة بين النقابة وبين إدارة الجامعة، علاقةً "أخويّة" تسمح بالاتفاق على العديد من المطالب بشكل شفويّ.

يوضّح أبو عوّاد، أنّ بعض الملّفات التي تمّ الاتفاق عليها تاريخياً بين النقابة ورئيس الجامعة لم تُستخدم فيها الأوراقُ والتوثيقُ لضمان العمل بها، بل استُخدِمَتْ فيها "ورقةُ" العلاقة الوديّة بين الطرفين، "فتعهّدات الرئيس [الشفويّة] كانت كافية" حينها، لكنّها على ما يبدو لم تعد كذلك.

هذه العلاقة الوديّة، لم تمنع "الانزعاج" الكبير الذي عبّرت عنه إدارة الجامعة في بيانها، إذ قالت: "... لا يحقّ للنقابة أن تتدخّل في أمورٍ ليستْ من اختصاصها، كما لا تتدخّل إدارةُ الجامعة في عمل النقابة واختصاصها"، فيما يبدو أنّ "أنا"  الجامعة قدّ مُسّت، وهي لا تسمح بالتدخّل في سياساتها.

دعا ذلك النقابةَ لاستخدام الإضراب كأداةٍ لتحقيق المطالب، وهي أداة تتنبّه لها الجامعة جيّداً، بسبب خوفها من أن تظهر إعلاميّاً بأنها جامعة غير منتظمة الدوام، ويمكن في أي لحظة إغلاق أبوابها، كما حدث قبل ثلاث سنوات. الاستخدام المتكرّر للإضراب في السنوات الأخيرة، جعل الإدارةَ تأخذ، بعد كل تصعيد، المطالب الحقوقيّة على محمل الجدّ. وإنْ ظهر أنَّ استخدام الإضراب كحلّ للأزمات يحمل قدراً من الاستسهال، لما تحمله ذاكرةُ الطالب في بيرزيت من كميّة لا بأس بها من الإضرابات، إلا أنّ النقابة استخدمته كإجراءٍ لإحراز خطوة في نقاش القضايا العالقة منذ سنة تقريباً.

الانجرار إلى الإعلام

ظَهَرَ من خطاب الطرفين في الإعلام أنّهما وصلا إلى طريقٍ مسدود، في الجلوس على طاولة الحوار، وأنّهما غير منشغلين بالمطالب بشكل مباشر، بقدر ما يتركّز الانشغال على من يمتلك الإعلام ويوجّهه.

كان سامح أبو عوّاد يستشيط غضباً في مقابلة معه على "وكالة معاً"، يشير فيها إلى أنّ الحوار الذي تدّعيه الجامعة وصل حدّ التهديد بإلغاء تثبيت سعر الدينار. في هذا السياق، يخبرنا أبو عوّاد أنّ اتفاقيّة وُقِّعَت فيما مضى بسبب تذبذب سعر الدينار، لتثبيته عند عتبة 5.6 شيقل. بعد الذي حصل مؤخراً، تمّ استخدام الاتفاقيّة كورقة لإسكات النقابة، والتهديد بإعادة التفكير فيها.

لم يكن هذا الاستخدام غير قانوني، لكنّه يُحيل إلى تأزّم الحوار بين الطرفين. فإدارة الجامعة تناقش النقابة فيما جاء في مطالبها قانونياً، فيما تقترح الثانيّة التفكيرَ في القانون بحدّ ذاته. فإن كان الإضراب الذي قامت به النقابة "غير قانونيّ" بالنسبة للإدارة (التي كانت ستأخذه للمحاكم)، فإنّه إشعارٌ أوّليّ تدعو من خلاله النقابة للتفكير في "القانون" نفسه الذي يخنق التحرّك النقابي.

العمل النقابي، كما يفهمه أبو عوّاد، هو "العمل بروح القانون لا حرفيّته"، فإنْ تعارض القانون مع مطالب العاملين، فإنّ الكفّة يجب أن تُحسم لجهة مطالبهم، التي تعمل النقابة على الحفاظ عليها، والمطالبة بالحدّ الأدنى من حقوقهم مع ما يراعي أزمة الجامعة الماليّة.

ولكي تأخذ الجامعة، ويأخذ الإعلام مطالب النقابة على محمل الجدّ، تُركّز الأخيرة على القضايا الماليّة، التي تعتبر حساسّة عادة، والتي تمتلك، فعلاً، قدراً من الأهميّة. إلّا أن جوهر الأزمة، وما دفع النقابة إلى فعاليّات إضرابيّة، يبدو أنه يدور حول استهتار الجامعة بالصوت النقدي (الحركة الطلابيّة ونقابة العاملين على حدّ سواء)، وقضايا أخرى تُسائل سياسات الجامعة.

من هنا يمكن فهم إصرار الجامعة إعلاميّاً على استخدام "القانون" كلغة للحوار، تدعو النقابةَ من خلاله لوقف الإضراب، لكي يحمل منطقها أمام الجميع حمولة قويّة، يتمّ إظهار النقابة فيه، في موقف الضعيف.

إنّه خطابٌ لا يتوجّه إلى عقل الناس فقط، بل يسعى إلى مخاطبة قلبها أيضاً. فالجامعة تستطيع أن تكون عاطفيّة في هذا السياق إن شاءت: "إنّ إعلان الإضراب في بداية العام الأكاديمي الجديد، يؤثّر سلباً على مسيرة الجامعة بجوانبها المختلفة، ويحرم الطلبة جميعاً، وخاصة الجدد الذين أقبلوا بلهفة على مجتمع الجامعة في اليوم الأوّل، فكانت نسبة الحضور عالية جدّاً".

تحاول كلمة "لهفة" بما تحمله من شاعريّة، القضاء على أيّ سببٍ مُقنع يدعو للإضراب، فأمام صورة الطالب النجيب المحبّ لجامعته، يظهر الإضراب كجملة معترضة لا أهميّة لها. تماماً كما حاولت في عام 2015 توجيه الرأي العام أيام إغلاق الحركة الطلابيّة للجامعة، إلى فهمٍ مفاده أنّ ذلك يعطّل المسيرة التعليميّة.

على الصعيد الآخر، استخدمت النقابة كلمة "فرسان" في إعلانها الأخير عن إضراب يومي الثلاثاء والأربعاء: "دمتم فرسان العمل النقابي". كلمة مألوفة لمسامع الطلبة، تستخدمها بعض الحركات الطلابيّة في الجامعة كشعار رنّان، وفيها ما يكفي من اللغة الثوريّة لتحيلنا إلى أخذ مطالب العاملين إلى أقصاها والقتال من أجلها: "دمتم ودامت حقوقكم، لا مساس فيها ولا تفاوض".

خاتمة طُلابيّة

تزامن هذا كُلّه، مع إعلان "الكتلة الإسلامية" و"القطب الطلابي" إغلاقَ الجامعة في البداية، وذلك بسبب الأزمة الماليّة، التي تمنع بعض الطلبة من التسجيل، وهي أزمةٌ متجدّدة  كل عام. قبل أن تتراجع للإعلان بأنّ الدوام سيكون كالمعتاد، وأنه تمّ التوصّل إلى اتّفاق مع الجامعة. الانشغال بمثل هذه القضايا الطلابيّة جعل من مجلس الطلبة المتمثّل في "الكتلة الإسلاميّة"، و"حركة الشبيبة الطلابيّة"، يغفلان قضية النقابة، دون إبداء أي تعليق على ما يجري بينها وبين والجامعة. فيما لم يمنع هذا الانشغال "القطب الطلابي" من تقدّيم موقفٍ بخصوص الأزمة.

يُمكن أن يؤدي ما سبق، إلى التفكير في أنّ ما حصل بين الجامعة ونقابة العاملين فيها، يُؤسّس لقواعد مختلفة للعمل النقابي، حيث الضمان الوحيد لهذا التعارف الجديد بينهما هو الورقة والقلم. انطلاقاً من أرضيّة تنصت للعاملين وتدعم المؤسّسة الأكاديميّة، وتريد تطويرها لا هدمها، إذ أنّ الأولى مهمّة شاقة أكثر من الثانية.