16 أبريل 2021

يوميّات أسرى في "الفورة"

يوميّات أسرى في "الفورة"

الفورة، مُتنفّس الأسرى الفلسطينيّين الوحيد تقريباً في سجون الاحتلال. ساحة مُستطيلة، غالباً ما تكون أرضيتها حمراء، مُحاطة بأسوارٍ وألواحٍ معدنيّة، ومُغطّاة بشبك يُقطّع الشمسَ ويحجبها. تتراوح مساحتها بين 8-20 متراً مربعاً، ويتشاركها ما بين 80-120 أسيراً، يُمارسون فيها حياتهم اليوميّة ضمن ساعاتٍ مُحدّدةٍ تتراوح من 5 إلى 6 ساعات مُتقطّعة، تُحدّدها إدارة السجون. 

يخرج الأسرى من غرفهم إلى الفورة كلّ نصف ساعة خلال وقت الفورة المُحدّد، وذلك من خلال أبوابٍ إلكترونيّةٍ على كلّ غرفة، تتحكّم بها إدارة السّجن. في الفورة، يذهب الأسرى إلى: لقاء الأسرى من الغرف الأخرى، ممارسة الرياضة، إقامة صلاة الجمعة والصلوات الأخرى، أماكن الاستحمام، المطبخ والكنتينا (المقصف)، المحلقة، حفلات وداع الأسرى أو استقبال أفواجٍ كانت مضربةً عن الطعام ثم عادت إلى الأقسام، تهاني العيد، غسيل الملابس ونشرها، وغيرها. 

تتشابه الفورة في سجون عوفر والنقب ومجدو وجلبوع وريمون وشطّة، وتكون لكلّ قسم "فورته" الخاصّة به أمام الغرف مُباشرةً.1باستثناء الأقسام التي فيها خيم، إذ تكون الفورة فيها ساحة كبيرة مفتوحة غير مُحدّدة بمواعيد. أما في سجون الرملة (نيتسان) وإيشل وأوهالي كيدار والسبع وهشارون وهدرايم ونفحة، فالفورة فيها ليست داخل الأقسام، إنّما يصل إليها الأسرى من خلال ممرّاتٍ وأبوابٍ وتفتيش.

خاض الأسرى نضالاتٍ وإضراباتٍ من أجل انتزاع حقّهم هذا من إدارة السجن. في المقابل، تتعاملُ إدارةُ السّجن مع الفورة كأداةِ عقابٍ للأسرى إذا خاضوا احتجاجاً، فتحرمهم من الخروج إليها لفتراتٍ مُعيّنة، أو تُخضعهم للمُراقبة التامة من خلال الكاميرات والحرّاس. 

في هذا التقرير سألنا أسيرات سابقات وأسرى سابقين عن ذكرياتهم ونشاطاتِهم في الفورة.

حين بكى القسم على بكاء أبي عاصف

تُشكّل الفورةُ فرصةً للتعارف وللنشاط الاجتماعيّ داخل القسم الواحد في السّجن، إذ فيها يلتقي الأسرى بإخوانهم من الغرف الأخرى. علا مرشود التي اعتقلت مدّة 7 أشهر، تقول إنّ الفورة كانت بالنسبة للأسيرات فرصةً للوصول إلى غُرفٍ غير تلك التي ينمن فيها: "كنّا نتزاور ونذهب لنجلس عند بعضنا البعض، ونعمل إشي نشربه، كأنا رايحات على زيارة فعلاً".

وهو ما يتفق معه الأسير المحرّر مجد بربر، الذي أمضى 20 عاماً في سجون الاحتلال. يقول بربر إنّ الأسرى ينتظرون ساعات الفورة فتكون ساحةً للتفاعل الاجتماعيّ، يتبادلون فيها أطراف الحديث، ويتناولون المُكسّرات والحلويّات، ويدعون بعضهم البعض على كأس شاي مثلاً. 

الأسيرة المُحرّرة سلام أبو شرار التي قضت عشرة أشهر في الاعتقال، اعتبرت الفورة فرصةً للحديث قبل كلّ شيء فتقول: "الشيء الأساسي الذي كنّا نفعله هو الحديث، يصل الإنسان في السجن إلى مكان يكون هو مع مشاعره ومخاوفه لوحدهم، لذلك ينتظر أن يكون مع مجموعة حتى يستطيع الحديث". أما مواضيع الحديث فمتنوعة ولا شيء ثابت فيها، تسرُد أبو شرار: "كنا نتحدّث عن الذكريات والمخاوف وأشياء بسيطة أخرى، وفي أحيان نُسمّع القرآن لبعضنا، وفي مرّة دار حديث حول كيفيّة صنع شوربة الشعيرية". 

كما تكون الفورة أحياناً مساحةً لمناسباتٍ اجتماعيّةٍ أكثر حميميّة، كأن تكون مكاناً للقاء الوالد بولده بعد سنوات الحرمان. مثلاً، في ساحة الفورة كان لقاء الشّاب محمد الخطيب بوالده المحكوم بالمؤبد والذي اعتقل حين كان عُمر ابنه محمد 3 سنوات. 

كذلك يستذكر وعد فقهاء واحدةً من اللحظات المؤثرة التي حصلت في فورة القسم الذي كان فيه، وهي حين حضر الشيخ عمر البرغوثي (أبو عاصف) إلى قسمهم بعد أن استُشهد نجله صالح وخلال مُطاردة نجله الآخر عاصم. يقول: "وقف الأسرى على شكل دائرة، وبدأنا نُسلّم على أبو عاصف ونُعزّيه، حتى وصل عند والد الشهيد أنس حمّاد، وقال له: "التقوا ولادنا في الجنّة"، فبكيا، وبكى القسم كلّه معهم". 

سماءٌ مُقطّعة

تُعدُّ الفورةُ النافذةَ الوحيدةَ تقريباً للأسرى نحو بعض مشاهد الطبيعة المحرومين منها، ويُشكّل كلّ واحدٍ منهم علاقةً خاصّة بها. تستذكر أبو شرار خروجها الأوّل للفورة، فتقول: "حين خرجت أوّل مرّة للفورة، جلست نصف ساعة في الشمس، وكانت هذه المرّة الأولى التي أرى فيها الشمس وأشعر بها منذ فترة طويلة. كُنت متعطّشة كثيراً لها، وبقيت طوال الوقت أنظر للسماء". وعلى مقربةٍ من هذا، تُشير مرشود إلى كون الفورة فرصة الأسيرات للقراءة والكتابة تحت أشعة الشمس لا ضوء النيون، فكان هذا نشاطاً مُهمّاً لها ولزميلاتها في الأسر.

ليست الشّمسُ المحجوبة بشبك معدنيّ هي فقط ما يشتاقُ له الأسرى في سجنهم، فالقمرُ أيضاً له نصيبٌ. إذ يفتقد الأسرى السير في العتمة أو تحت القمر، كما يوضح بربر، لأنّ أوقات الفورة مُخصّصةٌ في النهار فقط. لذلك يتمنّى الأسرى أحياناً أن يُداهمهم تفتيشٌ ليليّ في القسم، حتّى يخرجوا من غُرفهم إلى ساحة الفورة، فينظرون إلى السّماء المُعتمة ولو لخمسِ دقائق.

تُحدّثنا لينا خطّاب، والتي أمضت 6 أشهرٍ في السّجن، عن "أحلى فورة" بالنسبة لها، وهي عندما نزلَ المطرُ مرّةً فخرجت هي والأسيرات وجلسنّ تحت المطر دون أن يُلقين بالاً لإنفلونزا محتملة، فعلى ما في مشهد سماء الفورة من قساوة، إلا أنّه يمنحُ الأمل، حسب تعبيرها. كذلك أشارت إلى أوقاتٍ أُخرى تحمل الأمل، كأن تدخل الطيورُ إلى ساحة الفورة فتحاول الأسيرات إخراجها منها، وكانت الطيور تدخل من فتحةٍ صغيرةٍ تتركها إدارة السّجن لترمي من خلالها قنابلَ الغاز خلال حملات القمع.

اقرؤوا المزيد: "الترددات القادمة من "جحش" السجن".

ليست سماءُ الفورة للنظر والتأمل فحسب، بل هي أيضاً فرصةٌ لالتقاطِ بثّ الإذاعات العربيّة. في إحدى المرات، استطاعت الأسيرات التقاط بثِّ إذاعة الفجر من لبنان، وكانت تُذيع وقتها أغنية "موج البحر لو هاج". وهذه أشياء، كما تقول أبو شرار، كانت تبحث عنها الأسيرات وتُدخل الفرح إلى قلوبهنّ، بعيداً عن إذاعة "صوت إسرائيل".

 وفيما يتعلق بالراديو، تذكر أبو شرار زميلتَها في الأسر نسرين أبو كميل المحكومة بالسجن 6 سنوات، والتي لم يكن باستطاعة أحدٍ من أهلها زيارتها، لأنّها من قطاع غزّة، وأهالي الأسرى هناك محرومون من الزيارة غالب الوقت. هكذا "كانت الإذاعة عالمها ووسيلة التواصل الوحيدة بالنسبة لها"، كما تقول أبو شرار.

لا فورة بدون رياضة؟

أمّا الرياضة فهي واحدة من أبرز النشاطات في الفورة، وكأنّه لا فورة بدون رياضة. يشير بربر إلى أنّ المشي هو الرياضة الأساسيّة التي يمارسها الأسرى في الفورة. وتكون بالمشي على شكلٍ دائريّ عكس عقارب السّاعة، وذلك من أجل توفير المساحة للأسرى الذين يُمارسون رياضاتٍ أخرى في منتصف ساحة الفورة، مثل: كرة اليد، وطاولة التنس، ونط الحبلة، والشطرنج، بالإضافة إلى تمارين رفع الأوزان، التي يصنعها الأسرى من خلال تعبئة الفارغ من العلب وتحويلها إلى أوزان.

ومع ذلك، فإنّ ممارسة الرياضة في فورة سجون الأسيرات ليست سهلة، إذ تكون ساحتها مُحاطةً بكاميرات المُراقبة من قبل إدارة السجن. تشير مرشود إلى أنَّ ممارسة الرياضة في غرف السّجن صعبة، لأنّها غرفٌ صغيرة، لذلك فالفورة هي المكان الوحيد الممكن لذلك. غير أنّ كاميرات المُراقبة في سجن الدامون تقفُ حائلاً بين الأسيرات والرياضة، سوى رياضة المشي. وهي الرياضة التي تقول عنها خطّاب: "كانت أوّل ما تُفتح أبواب الغرف، تأخذنا أرجُلنا مُباشرة نحو الفورة، فنمشي فيها، ونمشي بسرعة، لأنّنا كنّا نشعر أنّ ذلك قد يُسرّع من الوقت البطيء في السجن". أما في سجن هشارون (قبل إغلاقه)، فالرياضة في الفورة مُمكنة لأنّ المُراقبة تكون عبر حارسٍ، فإنْ كان الحارس امرأةً  في ذلك اليوم مارست الأسيراتُ الرياضة بأريحيّة نوعاً ما، كما تُبيّن أبو شرار. 

إدارة السجن تخسر

أما في سجن هداريم، فقد استطاع الأسرى تحويل ساحة الفورة إلى ما يُشبه الجامعة، وخصّصوا لذلك فورة الصّباح والظهر، أما فورة المساء فهي للمناسبات الاجتماعيّة. يُخبرنا عن ذلك الأسير المُحرّر عبد القادر بدوي، الذي أمضى 7 سنواتٍ في الأسر، ويصوّر لنا مشهد الفورة هناك، التي في مُعظم أوقاتها تكون مُخصّصة لمُحاضرات البكالوريوس والماجستير: "كنّا نقول أنّ من لا يدرس في هداريم يبقى وحيداً".

لم يكن تحويل الفورة إلى ساحة للتعلّم بالأمر الهيّن، بل هو واقعٌ فرضه الأسرى هناك. في المقابل، حاولت إدارة السجون ثنيهم عن ذلك، فمنعت خروجهم إلى الساحة وعزلت بعضاً منهم وصادرت كراسي الجلوس. هكذا تحوّلت الفورة إلى ساحة تحدٍّ كما عبّر عنها بدوي، فمنذ عام 2018 تصادر إدارة السّجن الكراسي التي يستخدمها الأسرى خلال المحاضرات، مما دفع الأسرى للجلوس على الأرض من أجل استكمال برنامجهم التعليميّ.

إلا الفورة!

يحاول الاحتلال أن يُعكّر على الأسرى فسحتهم بالفورة ومشهد سمائها. يذكر عبد القادر بدوي أنَّه في أوّل سنوات اعتقاله في سجن عوفر، كان علم "إسرائيل" مرفوعاً على سارية، ولكن مع حدوث أي تصعيد في السجن يقوم الأسرى بإحراقه، ممّا دفع مصلحة السّجون إلى استبداله بعلمٍ مرسومٍ على جدران السّجن في مكان مرتفع. 

تستذكر لينا خطاب قصّةً عن الموضوع ذاته: "في عيد استقلالهم (النكبة عندنا)، علّقت إدارةُ السّجن في ساحة الفورة أعلاماً إسرائيليّة لمدة أسبوع. كنّا نخرجُ إلى الفورة مقهورات، حتّى سماء الفورة يريدون أخذها منا!". قرّرت خطّاب وأربع أسيرات أخريات الردّ على ذلك: "بشكلٍ سريّ، ودون أن يعرف أحد، بدأنا بتخييط علم فلسطين من أقمشة الأواعي التي عندنا، وحين أصبح جاهزاً خرجنا إلى الفورة، ووضعناه على عصا قشّاطة ورفعنا العلم، وبدأنا نُغنّي أغاني وطنيّة. كانت لحظة مؤثرة جداً". وعلى إثرها، تعرّضت خطّاب والأسيرات اللواتي معها للعزل والمنع من الخروج إلى الفورة.

تُشير خطّاب إلى أن الفورة، وعلى صُغر مساحتها، هي المتنفس الوحيد، ولذلك يرفض الأسرى أي تعدٍ عليها. هكذا يُصبح الحيّز الصغير ساحةً مستمرةً للتذكّر والحياة والنضال، يتنازعون عليها مع السجّان من أجل تحسين شروطها وانتزاع دقائق أكثر فيها، حتّى يتصلوا مع الخارج ولو بسياجٍ وكاميرات مراقبة وأرضيّة باطون وألوان باهتة، وسماء وشمس مقطعة إلى مُربعات.