27 فبراير 2021

التردّدات القادمة من "جحش" السجن

التردّدات القادمة من "جحش" السجن

في يوم من أيّام عام 2011، وفي سجن الدامون شمال فلسطين، استرقت الأسيرة صمود كراجة ورفيقاتها السّمع لما يُذاع على الراديو من الزنازين المجاورة.1صمود كراجة: أسيرة فلسطينيّة سابقة، من قرية صفا قضاء رام الله. اعتقلت عام 2009، وحُكم عليها بالسجن 20 عاماً بتهمة محاولة تنفيذ عملية طعن عند حاجز قلنديا. أُفرج عنها عام 2011 ضمن صفقة وفاء الأحرار. وقفن في نقطةٍ تُمكّنهنّ من التنصّت، فالراديو الذي كنّ يملكنهُ في زنزانتهنّ صادرته إدارةُ السّجن مع التلفاز كإجراءٍ عقابيٍّ لإضرابهنّ عن الطعام. كان ما يُذاع على الراديو برنامج من البرامج التي تستضيف أهالي الأسرى. استقبل المذيع المكالمة الأولى، وإذ بصوت والدة صمود على الخطّ تُخبِرُ ابنتَها، وأسرى وأسيرات فلسطين، بنبأ إتمام صفقة تبادل الأسرى؛ صفقة "وفاء الأحرار"، والتي أُفرِج بموجبها عن صمود وغالب زميلاتها الأسيرات.

تُحيلنا هذه القصّة إلى العلاقة الخاصّة بين الأسرى والراديو، فهو بالنسبة لهم ليس محض جهازٍ كهربائيٍّ يتّخذ شكلَ المُستطيل مع لونٍ سكنيّ مُحايد. في هذا المقال نتحدّث عن الذي يعنيه هذا المُجسّم الصغير للأسير؟ ماذا يسمع عبره؟ كيف أصبح لدى الأسرى أجهزة راديو أصلاً؟

اختطاف "الجحش"

لنعد بالزمن قليلاً، قبل أن يكون للأسير راديو خاصّ به. في فترة الستينيات والسبعينيات، كانت إدارة السجون الإسرائيليّة تضع للأسرى الفلسطينيّين في ساحة "الفورة" سمّاعاتٍ تبثّ الأخبارَ والأغاني ضمن ساعاتٍ مُحدّدة، وعلى فتراتٍ مُتفاوتةٍ من الصّباح إلى المساء. هكذا كان الأسرى يستمعون إلى صوتِ أُمِّ كلثوم مثلاً، وهذا كان شكلُ لقائِهم الوحيد بالراديو. 

لكنّ تحكّم السجّانين الإسرائيليين بما يُبثّ على تلك السّماعات لم يكن مُرضياً للأسرى، ولذا سعوا إلى إدخال الراديو إلى سجونهم بطرقٍ مُختلفة؛ من خلال المحاكم أو زيارات الأهل، أو عن طريق السُّجناء الإسرائيليين، أو حتّى عن طريق السجّانين الذين يُغريهم المال. وهو مثله مثل الهواتف النقّالة، كان يُستخدم سرّاً، ويعرِفُ بوجوده في السِّجن عددٌ محدودٌ من الأسرى، ويعرِف مكانَه قلائل. استخدمتْهُ التنظيماتُ لسماعِ الأخبار فقط، لتكتبها يدويّاً على قصاصات ورقٍ صغيرة، أو حتّى على ورق السجائر، ثم تُعمّمها على بقيّة الأسرى في السّجون والزنازين المختلفة. 

إحدى القصص المُثيرة حول إدخال الراديو إلى السّجن، قصّة أسير يُدعى "أبو عمّار". كان صاحبنا يعمل كـ "مردوان" في السجن، ومن وظائفه الطهي في المطابخ المركزيّة التي توزّع الطعام على أكثر من سجن وقسم.2المردوان: يُقصد بهذا التعبير الممرّ داخل السجون، ويُستخدم للإشارة إلى الأسير الذي يخدم إخوانه الأسرى ويوّزع الطعام عليهم.  كان أبو عمّار ينقل الخضار من شاحنةٍ عسكريّةٍ، فلاحظ في داخلها راديو صغيراً. استغلّ انشغال الجنود، فـ "اختطف" الراديو وأخذه إلى الأسرى، الذين أطلقوا عليه في حينه اسماً حركيّاً - "الجحش". 

كانت إدارة مصلحة السُّجون تضبط الراديو المُهرّب أحياناً. عن ذلك، يروي الأسير محمد عطا قصّة راديو قُبض عليه في سجن النقب. فمرّة سمع أسيرٌ من راديو مصدره أحد الجنود المتواجدين في المطبخ المركزيّ خبراً يُفيد بأنّ طائرة تقلّ ياسر عرفات قد سقطت في ليبيا (كان ذلك عام 1992). وأشارت التحليلات التي تبعت الخبر أنّها قد تكون محاولة اغتيال. خبرٌ كهذا لم يأخذ وقتاً حتّى انتشر كالهشيم في النار بين الأسرى، مما اضطرهم لإخراج الراديو المُخبّأ في إحدى الغُرف ليُتابعوا الأخبار. ظلّ الأسرى في حالة استنفار حتّى جاءت الأخبار اليقينيّة لتعلن بأنّ ما حدث في الطائرة لم يكن إلا هبوطاً اضطراريّاً. فرح الأسرى لذلك، ومن شدّة فرحهم راحوا يصرخون ويحتفلون. أحسّت إدارة السجن بأنّ خبراً ما قد تسلّل إليهم حول عرفات، ومن الوارد أنّ يكون من خلال راديو، فاقتحمتْ قوّةٌ من الجنود السجن وصادرت الراديو الخفي.

الأسرى يستدعون الراديو

لم يبق الراديو مُتخفيّاً عن إدارة مصلحة السجون إلى الأبد. عام 1984 خاضت الحركة الأسيرة إضراباً عن الطعام في السجون المركزيّة؛ الجنيد، ونفحة، وعسقلان، ورام الله. جاء الإضراب لتحسين شروط الأسر، وكان من ضمنها -ولأوّل مرّة- مطلب وجود التلفاز والراديو. يتحدّث الأسير حسن سلمة عن الإضراب الذي شارك فيه أثناء تواجده في سجن الجنيد. قادت الإضراب اللجنةُ الوطنيّةُ المُكوّنة من مختلف الفصائل الفلسطينيّة، والتي قدّمت مطلب الراديو كشرطٍ أساسيٍّ لن يُفكّ الإضراب دون تحقيقه. 

يؤكد الأسير ناصر الدين أبو خضير على أهميّة الراديو في ذاك الإضراب. كان وقتها في سجن عسقلان، وقسّم الإضراب إلى مرحلتين: الأولى أرجعت فيها وجبات الطعام، واقتصر الأكل على الخبز والشاي. أمّا المرحلة الثانية فبدأ الأسرى فيها إضراباً مفتوحاً عن الطعام.3ناصر الدين أبو خضير، أسير فلسطيني سابق من شعفاط في القدس، أمضى ما مجموعه 16 عاماً في سجون الاحتلال.

انتصر الأسرى وحقّقوا مطلبهم الأثير بعد إضراب استمرّ لمدّة 12 يوماً. في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1984، دخلت أول دُفعة من الراديوهات إلى السّجون المركزيّة، فيما بقيت السجون الأخرى تستخدم الراديو بشكلٍ سرّيٍّ حتّى سُمح به في بداية التسعينيّات. وهكذا كان لدى الأسرى للمرّة الأولى وسيلة اتصال مسموعة -وإن باتجاهٍ واحد- مع العالم الخارجيّ.4جعل الاحتلال الراديو مُقتصراً على ترددات (AM)، باعتبار ترددات (FM) من المُمكن أن يستغلّها الأسرى لصنع أجهزة اتصال غير سلكية، لما تعطيه الأخيرة من وضوح في الصوت لعدم تداخل الموجات.

نصف إفراج!

تحوّل الراديو من "جحش" السجون إلى مولود جديد. استقبله الأسرى بحفاوة، كما لو أنّهم يستقبلون شخصاً عزيزاً عليهم. يصف الأسير حسن سليمة5أسير فلسطيني من بلدة بتونيا حكم عليه بالمؤبد، وقضى منه 30 عاماً في سجون الاحتلال. أول لحظات استقبالهم الراديو في سجن عسقلان، فيقول: "عندما وصلنا الراديو إلى السجن استقبلناه بشغفٍ كبيرٍ، كاستقبال الأمِّ لجنينها، وهي فرحة لا يمكن أن توصف. كانت بمثابة عيد لنا، ووصفها الكثير من الأسرى ذوي الأحكام العالية بأنّها بمثابة نصف إفراج". ثمّ يكمل فيشرح لنا آليّة استخدامه: "كنا ننقل الراديو بين الأقسام والزنازين حسب الأسابيع، ونضعه دائماً على أعلى صوت لنستمع جميعنا إلى البرامج والأغاني على راديو "إسرائيل" بالعربيّة ومونت كارلو"، كان ذلك الخيار المتاح في ذلك الوقت. 

أمّا الأسير محمد عطّا6أسير فلسطيني من قرية قالونيا المهجرة، أُسر أكثر من مرّة في فترة الثمانينيات والتسعينيات بحكم إداري.، فيصوّر مشهد الأسرى وهم فخورين بتحقيق مطلب الراديو، إذ يقول: "يمشي الأسرى داخل السّجن وبيدهم الراديو، كانوا فخورين جداً بإنجازات هذا الاضراب لأنهم حصّلوا شيئاً ماديّاً ملموساً يستطيعون لمسه والتحرّك به والتفاعل معه. لم يعد يتحكم أحد متى سنسمعُ الأخبارَ وكيف، وتخلّصنا من تعب كتابة 10 أوراق إخباريّة يوميّة وأكثر، وتوزيعها على الزنازين". 

اشترى الأسرى الراديو من خلال الصندوق العام للحركة الأسيرة، فحصلت كلُّ زنزانة على راديو واحد، وعملت الحركة على تنظيم شرائه واستخدامه بين الأسرى. وفي إضراباتٍ لاحقة، حصّلت الحركة الأسيرة في منتصف التسعينيّات مطلب امتلاك كلّ أسير لجهاز راديو خاصّ به.

أمّا الإذاعات فاختلفت بين سجنٍ وآخر، وذلك بحسب الموقع الجغرافيّ للسجن وقربه من الإذاعات التي تلتقطها تردّدات الراديو الضعيفة. ففي السجون المتواجدة في شمال ووسط فلسطين، كان يلتقط الراديو أحياناً إذاعات من سوريا ولبنان، ومنها "صوت الثورة الفلسطينية". وفي السجون الموجودة في الجنوب كان يُبث "صوت العرب" من مصر. فيما احتوى الراديو في جميع السجون على ترددات إذاعتي "إسرائيل بالعربية" و"مونت كارلو". 

كما لم تكن في الثمانينيات برامج رئيسية يتابعها الأسرى سوى فقرات إخباريّة ودينيّة وغنائية. لكنّ الحال تبدّل بعد مجيء السلطة الفلسطينيّة، فأنشأت الإذاعات المحليّة في الضفة والقطاع، وبدأت ببثّ برامج تُعنى بالأسرى وتذيع رسائلَ أهاليهم الصوتيّة، مثل: برنامج لقاء الأحبة، برنامج رغم القيد، وإذاعة صوت الأسرى، وغيرها.  

الأعراض الجانبيّة للراديو

تتعامل إدارة مصلحة السّجون الإسرائيليّة مع استحقاقات الأسرى بمنطق العصا والجزرة، والراديو مثله مثل أيّ منجزٍ آخر انتزعه الأسرى من الإدارة، يُستخدم أحياناً كأداةٍ للعقاب الجماعيّ أو الفرديّ بناءً على تطورات الأمور داخل السّجون. تسحبُه الإدارةُ عند الشروع بأي إضراب، وتكسره في كثير من الاقتحامات، وتفكّكه بحجة التفتيش على رسائل أو هواتف داخله. 

كذلك، يُصبح الراديو في السِّجن أداةً نفسيّةً خطيرة، فالاتصال مع العالم الخارجيّ ليس إيجابيّاً دائماً، إذ يعمل أحياناً على زيادة الضغوط النفسيّة. تبيّن لي ذلك خلال تجربتي في الأسر، حين لاحظت بعض الأسيرات يتعلّقنّ بشدّة بالراديو، فلا يفوتن أيّ نشرة أخبار، ويقمن بتحليلها حرفاً حرفاً لعلّهن يجدن أيّ شيءٍ يدلُّهنَّ على اقتراب صفقة تبادل أسرى.

يتغلّب الأسير على هذه التناقضات بالوعي الذي يتحصّن به؛ أن كل شيء داخل السجن مُصمّم لخدمة الاحتلال، وهذا يعمل على حثّ الأسرى بشكل مستمر على البحث والإبداع في سبل تطويع تلك الأدوات لمصلحتهم وتقليل أثرها السلبيّ عليهم. من هذا الوعي، يوقن الأسرى أنّ أهمَ معركةٍ يخوضونها هي في كسر هدف السّجن بإبقاء الأسير معزولاً عن محيطه الاجتماعيّ، وذلك من خلال خلق خطوط تواصل مع الخارج عبر أجهزة ثبّتوا وجودها بأمعائهم الخاوية؛ الراديو في الثمانينيّات، التلفاز في التسعينيّات، وفي إضراب 2018 تحقّق مطلب وجود الهواتف الأرضيّة في بعض السّجون.

قد نجد، نحن الذين خارج أسوار السجن، بأن الراديو لم تعد له أي أهميّة أمام ما نملكه من وسائل متطوّرة للتواصل. ولكن في السجن الأمر مُختلف، فالأسير يرعى الراديو كأنّه طفله؛ يُنظّفه باستمرار، ويُركّب له في بعض الأحيان إكسسوارات يدويّة كي يبدو أجمل، ويضعه في مكان آمن كي لا يستطيع أحدٌ كسر تلك النافذة التي يطلّ من خلالها على الخيالات؛ الخيالات المُتحركة التي تطوف حوله عند كلِّ تشويشة راديو، فتقطع من كلمات أقرب النّاس إلى قلبه، أو من أغنية تُذكّره بمحبوبه ورفاق دربه.