3 يونيو 2021

البحثُ عن "فردة" الحذاء المفقودة في الخليل

البحثُ عن "فردة" الحذاء المفقودة في الخليل

كانت صناعةُ الأحذيّة في الخليل من الصّناعات الرائدة في الاقتصاد الفلسطينيّ قبل انتفاضة الأقصى. وفق تقرير اتحاد الصناعات الجلديّة الفلسطينيّ، انخفض الإنتاج من 10 ملايين زوج من الأحذية عام 2000، إلى 3 ملايين زوج من الأحذية فقط في 2016. مع انهيار الحرفة واختفائها شبه التّام من أسواق المدينة، فقدت الخليل إحدى المحرّكات الأساسيّة التي شكّلت نسيجها وعلاقاتها الاجتماعيّة.

في الماضي، انتشرت مصانع الأحذية داخل المدينة، ذلك أنّها لم تشكّل مصدر إزعاجٍ يُوجِبُ نقلَها إلى المناطق الصناعيّة، ولم تتطلّب بُنىً تحتيّة خاصّة، كالمساحات المخصّصة للشحن والتفريغ وخدمات التخلص من النفايات. إنمّا تحتاج وبشكلٍ أساسيّ إلى الحيّز المكانيّ للإنتاج وتوافر الكهرباء، وهذا ما جعّل الورش تنتشرُ بكثرة في البيوت والحارات والأسواق؛ أي ضمن الحيز السكنيّ والتجاريّ الحيّ في المدينة، ما أعطى الورش خصوصيّةً اجتماعيّةً لأنّها تتواجد في محيط البيت والدُّكان والشّارع والحارة. 

بيوتٌ تترابط بالشغل

تفاعلَ العاملون فيما بينهم وفق الوظيفة الخاصَّة التي يؤديها كلُّ فردٍ منهم: فنرى في الورشة نفسها: المُصمم، والمفصِّل (من يقصّ الجلدَ ويرتب الشَّكلَ الخارجيَّ للقطعة)، ومن ثمّ يقوم عاملُ الماكينة "الماكنجي" بِحَبْكِ الجلد ليكون الإطارَ الخارجيّ، فهو مسؤولٌ عن إنتاج القسم الخارجيّ للحذاء (بدون الكوشوك السلفيّ)، ويعطي ما أنتجه للكندرجي، الذي تتمثل وظيفته بأخذ قطع الجلد التي أنتجها الماكنجي، ووضعها على القالب "ويلبس" عليه الكوتشوك (النعل) ويكبسها. أما المرحلةُ النهائية فتتمثل بعامل "الفِنِش": من يضع الرَّباط، والضّبان، ويُنهي صناعةَ الحذاء ويُعبئه ويغلفه.

كان العمّال موزعين؛ قسمٌ منهم يعملُ في البيت، يحوّل بيته إلى ورشةٍ صغيرة، يساعده أبناؤه وبناته في عملية قص الزوائد من الجلد (قماش الحذاء) وعملية "الإلصاق" أو وضع "الآجو" على التفصيلة. يعملون في البيت داخل الورشة، وقد يدعون أبناءَ عمّهم وجيرانهم خاصّةً في العطل الصيفيّة أو بعد الانتهاء من الدوام المدرسيّ للعمل في الورشة. وهناك عمّال يعملون في المصنع، وما يميز هذه الصنّعة أنّ العامل يتقاضى أجره من أول يوم له في العمل، ويحصل على أجرٍ مرتفع مقارنةً بالصناعات الأخرى.

من معرض "شغل الخليل" في البلدة القديمة، تصوير: ضحى إدكيدك.

كما كانَ للمرأة دورٌ بارزٌ في صناعة الأحذية ضمن بيئةٍ مناسبةٍ لها، فَحولَها الجاراتُ في الحيّ الذي تسكنه يخيطون الجلدَ والقماش. وقد برعت نساءُ الخليل في خياطة الأحذية بالذات، خاصةً تلك التي يصعب إنتاجها باستخدام الآلات. وتوزّع إحدى النساء المسؤولات الشغلَ إلى جاراتها وصديقاتها ليُنجَزَ خلال اليوم، وتتقاضى كلّ واحدة أجرها نهاية اليوم بحسب عدد أزواج الأحذية الذي تُنتجه، وحسب نوعيّة الحذاء وصعوبة إنتاجه. وإذا لم تعمل النساء في البيوت أو الورش العائلية، فإنّهن كن يعملن في مصانع بعد تدريبهنّ في مراكز خاصّة لتأهيلهنّ للعمل في هذا القطاع. أما اليوم، وفيما تبقى من مصانع للأحذية في الخليل، تعملُ النساء  إمّا في وظائف إداريّة أو سكرتارية داخل المصنع أو المنشأة، ولا تؤدي أي عملية إنتاجيّة.

اقرؤوا المزيد: حياةٌ في شارع الشهداء..

في الانتفاضة الأولى، خلال فترات الإضراب وحظر التجوّل، انتقلت بعض الصناعات من الورش إلى البيوت، فالورش صغيرة الحجم ولم تكن بحاجةٍ إلى شيء سوى ماكينة خياطة، خطّ كهرباء، وأيدي عاملة. لم يكن من المستغرب أن تكون المشاغل داخل البيوت. بل كانَ أمراً طبيعيّاً في تلك الفترة، نُقلت الورش إلى الغرفة الخارجيّة في الساحة، أو إلى غرفة فوق السطح، أو إلى دكانٍ تحت البيت، أو حتى تسوية أرضيّة (قبو). صمد المواطنون خلال الإضراب، واستطاعوا الاستمرار في الإنتاج والعمل، فخلال منع التجوّل كانت الورش تعمل ولا شيء يعطلّها، أمّا خلال ساعات فكّ التجوال: فكانت تُقام الأعمال الميدانيّة فقط، مثل شراء المواد الخام، توزيع البضائع، عرضها في المحلّات وإتمام المعاملات التجاريّة.

 مركزُ صناعاتٍ أخرى

في سنوات الثمانينيات والتسعينيات، الفترة الذهبيّة في قطاع الأحذيّة، لم يكن بيت في الخليل إلا وجزءٌ من دخله مصدره صناعة الأحذية. إذ كان يعملُ في قطاع الأحذية في فترة التسعينيات حوالي 40 ألف عاملٍ في القطاع ككلّ. تتقاطعُ صناعة الأحذية مع العديد من القطاعات الصناعيّة المختلفة في الخليل، فهناك مصانع لإنتاج النعول (أرضية الحذاء)، فنوعية المطاط المستخدم في النعول تحتاجُ إلى قوالب وماكينات صبّ التي كانت موجودة بكثرة. إضافةً إلى مصانع إنتاج الإسفنج المستخدم في الأحذيّة، كانت مصانع الكرتون نشطةً في تلك الفترة، لإنتاج علب الكرتون المستخدمة في تغليف الأحذية، حتّى يسهّل توزيعها وعرضها. كما أنّ عدّة صانعي الأحذيّة اليدويّة مصنوعةٌ في الخليل، كـ"الشاكوش"، و"التلانيّة" (زرديّة لشد الشغل).

أمّا المكوّن الأساسي لصناعة الأحذية فكانَ يأتي من مصانع دباغة الجلود، والتي تعتمدُ على ما توفّر من الجلود الخام المحليّة، ومصدرها ما يذبح من الثروة الحيوانيّة من القرى والأرياف. في فترات الإغلاق ومنع الحركة، تأثّرت الحركةُ التجاريّة بسبب الإجراءات الإسرائيلية التي تمثلّت بوضع الحواجز العسكريّة والبوابات الحديدية والسواتر الترابية على مداخل ومخارج جميع القرى، والبلدات، والخرب، والمدن، وشكّلت هذه الإجراءات العسكريّة تقييداً للحركة من وإلى المدينة. ونتيجةً لذلك، أصبحَ أهالي القرى المجاورة يجدون صعوبةً في نقل منتوجاتِهم إلـى مركز المدينة التجاريّ، وأُجبروا على الاعتماد على الأسواق الريفيّة بدلاً من التوجه إلى المدينة مما أدّى إلى مضاعفةِ خسائرهم. لقد كانت العلاقات تفاعليّةً بين المدينة والقرى المحيطة بها يتبادلون المواد الخام من الجلود وغيره، مكونين جزءاً هامّاً من صناعة الأحذية، ومورداً لا يمكن تجاوزه في الصنّعة.

من معرض "شغل الخليل" في البلدة القديمة، تصوير: ضحى إدكيدك.

تنتجُ مصانع دباغة الجلود جلوداً معالجة لاستخدامها في صناعة الأحذية. فمهنة "الدباغة" تعرّف على أنّها تحويل جلود الحيوانات من مواد عضويّة قابلة للتحلل إلى مواد غير قابلة للتحلل، وتمتازُ بالمرونة والمتانة. إنَّ الطريقة القديمة لمعالجة جلود الحيوانات ما تزال مستخدمة حتى اليوم، رغم الاستعانة بآلات حديثة. تمرُّ عملية "الدباغة" بمراحل عدة، قبل أن يصبح الجلد جاهزاً لتحويله حذاءاً. تبدأ العملية بجمع جلود الأبقار والماعز من محال الجزارة، ورشها بالملح، لحفظها من التعفن، ثم عملية الغسيل والتنظيف وإزالة الشعر، باستخدام مواد كيميائية. وبعدها، يتم كيُّ الجلود وصباغتها بألوان حسب الطلب.

يعاني أصحاب مصانع الدباغ اليوم من ارتفاع تكلفة شحن المواد الخام نتيجة القيود التي تفرضها "إسرائيل" على حركة نقل البضائع، فقد تمّ منع أصحاب المدابغ من استيراد مادة الكروم اللازمة في تصنيع الجلود الطبيعية بذريعة حماية البيئة، مما اضطرَّ أصحاب عشر مدابغ على الأقلّ إلى إغلاق أبوابها وتسريح العاملين فيها بعد نفاد مادة الكروم اللازمة في عملية الدباغة. كما منعت سلطات الاحتلال دخول حامض الكبريتيك، وغيره من المواد المستعملة في عملية الدباغة، لأسبابٍ أمنيّة.

من داخل أحد معامل الأحذية في الخليل، 2006. تصوير: حازم بدر/AFP

زمنُ الأحذية المستورَدة

قدّمت هذه الصنّعة للمدينة أكثر مما يُمكن حسابه بالأرباح الماليّة، فقد تداخلت عمليّة الإنتاج في مجالات وقطاعات كثيرة، وولّدت تفاعلات بين مركز المدينة وقراها، وبين عمّال وجيران وعائلات تعمل في مجالات مختلفة. وبدَّدت الحدود بين ورش الصناعة والبيوت، ودمجت كلَّ فئات المجتمع بالعمل، وساهمت باستمرار العمل حتّى في ظروف استثنائية كالانتفاضات والإغلاقات، فلم تستطع "إسرائيل" أن توقف ماكينة الخياطة أو تمنع العمّال من الإنتاج. 

من حال كانت فيه الأسرة بكبيرها لصغيرها ينتجون أحذيةً ذات جوّدة عالية، تحوّلنا اليوم، بعد الانتفاضة الثانية والتغييرات الاقتصاديّة العميقة التي أُسقطت على الفلسطينيّين، إلى حال يعملُ فيه عددٌ قليلٌ جداً من الأشخاص في استيراد الأحذية وبيعها في الخليل. بينما كانت أغلب العائلات في الخليل تحصلُ على دخلها من قطاع الأحذية والقطاعات المتشابكة، أصبحَ الوضع مختلف الآن، فعشرات الآلاف تركوا هذه الصنعة وتوجهوا إلى قطاعات أخرى، وأصبح المستورد هو السائد.

*يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" في يناير/ كانون الثاني 2021 واستمر حتى نهاية مارس/آذار 2021.