25 فبراير 2023

سدود "إسرائيل" حول غزّة: أن تغرقَ بمائك المنهوب

سدود "إسرائيل" حول غزّة: أن تغرقَ بمائك المنهوب

صبيحة الاثنين، 26 كانون الثاني/ديسمبر 2022، استيقظ أهالي المنطقة الحدوديّة الشرقيّة وسط قطاع غزّة وجنوبه، على فيضان كمياتٍ كبيرةٍ من المياه التي يحتجزها الاحتلال في سدودٍ أنشأها منذ سبعينيات القرن الماضي في مجرى واديي "الشلالة" و"الشريعة" قضاء القطاع المُحتلّ عام 1948. أغرقت تلك المياه منازل الأهالي، واجتاحت مساحاتٍ واسعةً من أراضيهم الزراعيّة. حالٌ يتكرّر منذ أكثر من 45 عاماً، عندما بدأ الاحتلال بسرقة مياه وادي غزّة من خلال منع جريان "سيل الوادي" إلى مصبّه في البحر من خلال السدود، واحتجاز مياهه في خزّاناتٍ ضخمة، ضمن خططه لـ "استيطان المياه".

منذ ستينيات القرن الماضي بدأ الاحتلال في بناء السدود، بعد أن درس الخريطة الديموغرافيّة للمنطقة وحدّد أماكن بنائها الملائمة، وهدفُه في ذلك منع تدفق المياه إلى الخزانات الجوفيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وفق ما يشرحه الخبير المائي والمختص في المياه الجوفية المهندس نزار الوحيدي. عام 1975 تحديداً، شرع الاحتلال ببناء سدود وخزاناتٍ مائيّةٍ كبيرة على فرعي وادي غزّة الأساسيّين، "الشلالة" و"الشريعة"، بلغت حوالي 33 خزاناً. وهذان الواديان هما امتدادٌ لمجرى وادٍ غزّة، أحد أكبر وديان فلسطين، ينبع من جبال الخليل والنقب ويمتدّ إلى أراضيهما غرباً، حتى تلتقي مياه الوادِيَيْن شرقيَّ القطاع (في الأراضي المُحتلّة عام النكبة بين مخيم البريج ومدينة غزّة)، وتتجمّع مئات الكيلومترات المربعة من المياه وتتدفّق في مجرى وادي غزّة إلى أن تصب في البحر الأبيض المتوسّط (يقع المصب داخل قطاع غزّة المحتل عام 1967).

مزارعان فلسطينيان أمام أراضيهم الزراعية التي غمرتها مياه السدود شرق غزة، 18 فبراير 2021

بعد تشغيل تلك السدود والخزانات حُرِمَت غزّة من 40 مليون متر مكعب من المياه سنويّاً إثر منع الجريان الطبيعي لمياه واديها والتدفق في مجراه. أما عن حال الوادي طوال أكثر من 3 عقود، فقد أصبح أكبر بؤرة تلوث بيئيّ في غزّة بسبب تحويله إلى مكب للنفايات الصلبة والمياه العادمة، رغم جهود محليّة ودوليّة لتحويلهِ إلى "محمية طبيعيّة"، أنجزت بعضُ مراحلها.

في المُحصّلة: أَزْيَدُ من 1800 مليون متر مكعب من المياه احتجزها الاحتلال عن قطاع غزّة منذ السبعينيات وحتى اليوم، أما هدفه من ذلك برأي الوحيدي فهو: "سرقة حقوقنا ومُقدّراتنا المائية، واستثمار كل قطرة مياه في أرض فلسطين لصالح مستوطنيه ومشاريعه الاستيطانية"؛ لأنه يدرك أنّ بلادنا تقع في منطقة شبه جافّة، الأمر الذي يُحتّم عليه استغلال كل قطرة مياه يمكنه الوصول إليها. 

 

 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

إجرامٌ عنوانُه "البنية التحتيّة"

لكنّ جهودَ الاحتلال للحفاظ على كل قطرة مياه تتداعى كُلّ عام، فلا تقدر سدوده والخزانات المرتبطة بها على استيعاب كميات الأمطار الكبيرة التي تهطل في ليلةٍ واحدةٍ خلال المنخفضات الجويّة العميقة التي تتعرض إليها البلاد؛ فبدل تخزينها أو تصريفها داخل الأراضي المحتلة، يفقد السيطرة على تدفُّقها، ومجرى جريانها، ليجدَ حلَّ مأزق بنيته التحتيّة في فتح السدود نحو مجراها الطبيعيّ: وادي غزّة! - يشرحُ المهندس والمتخصص المائي الوحيدي.

ويضيف الوحيدي بأن هذا يحدث كُلّ عام تقريباً في المنطقة الجنوبيّة لوادي الشّلالة. تمتلئ خزّانات الاحتلال بالكامل نتيجة الهطول الكثيف للأمطار، ورغم تطويرها المستمرّ، إلا أنه في لحظة ما لا يُمكن تصريف المياه الفائضة منها، إلّا باتجاه مجرى وادي "السلقا" ووادي "المصدر"، واللذين يفيضان بدورهما على منازل الغزّيين المنتشرة على طرفيه؛ لتُغرق المياه جدرانها وأسقفها من الألواح المعدنية (زينكو)، وتبلِّل أثاثها المهترئ، وتقضي على محاصيل الناس ومصدر رزقهم، وتجرف التربة بكمياتٍ كبيرة باتجاه البحر. ويقدّر الوحيدي كمية المياه التي تتدفق نحو غزّة في كل مرة يُقرر فيها الاحتلال فتح "مطفح" الخزانات المائية العملاقة المحاذية للقطاع، ما بين 1.5 و2 مليون متر مكعب.

عدا عن السدود وخزاناتها، بنى الاحتلال بركاً ضخمة على طول الشريط شرقي القطاع لسرقة مياه الأمطار عبر تجميعها فيها قبل انحدارها غرباً باتجاه القطاع، وفق الناطق باسم وزارة الزراعة في غزّة، أدهم البسيوني. يرى البسيوني أنّ إغراقَ غزّة بمياهها إجراءٌ ممنهج يخضع لسياسات الاحتلال ومصالحه، ويضيف أنَّ وزارته لا تملك الإمكانيات اللازمة لمنع تدفق هذه المياه في حال فتح السدود، لأن "مئات آلاف الأمتار المكعبة من المياه تتدفق في وقت قصير جداً ولهذا لا يمكن التصدي لها".

خسائر فادحة لا حصر لها!

"على المنظمات الحقوقية والدولية أن تتدخّل للضغط على الاحتلال ليمتنع عن فتح هذه السدود التي تؤدي إلى خسائر فادحة كل عام"، يُضيف البسيوني الذي يُقدّر الأضرار السنوية المباشرة الناجمة عن فتح البرك والسدود المائية الإسرائيلية بنحو مليون دولار، مع اختلافها من منطقةٍ إلى أخرى. وهذه الأضرار تقتصر على القطاع الزراعيّ المباشر فقط دون احتساب الضرر الاقتصادي الناتج عنها.

قبل أيام من نهاية العام الماضي، فتح الاحتلال برك تجميع المياه والسدود في المنطقة الوسطى وبعض مناطق شمال القطاع خلال منخفضٍ جوّيٍّ عميق، ما أدّى إلى غرق 100 دونم من الدفيئات الزراعيّة وتضرّرها جزئياً، وانجراف نحو 20 دونماً أخرى من الدفيئات الزراعية انجرافاً كاملاً، إضافةً إلى تضرر عشرات الدونمات من الحقول المكشوفة، وعددٍ من مناحل العسل بحسب تصريحات البسيوني لـ "متراس"، عدا عن عدد من المنازل والممتلكات التي غمرتها المياه، وهو ما زاد معاناة المزارعين وسكان تلك المناطق.

عَدَّ البسيوني عام 2019 الأشدّ ضرراً على المزارعين خلال السنوات الماضية من ناحية تأثرها بفيضان هذه المياه، إذ شملت الأضرار حينها جميع القطاعات الزراعية والحيوانية، وكانت مساحة الأراضي الزراعية التي غمرتها المياه وقتئذ الأكبر منذ سنوات، عدا عن الدفئيات الزراعية التي جرفتها وضرر شبكات الري والأدوات الزراعية، والمناحل ومزارع الدجاج والأغنام والأبقار. وتركزت الأضرار في منطقة الشجاعية شرق مدينة غزّة، والمنطقة الشرقية شمال قطاع غزّة.

وادي غزة وسط قطاع غزة، 9 فبراير 2022


أما عن الإجراءات التي تتّبعها وزارة الزراعة، فيقول البسيوني إن الطواقم المتخصصة تقدم إرشادات فنية للمزارعين لأخذ التدابير اللازمة لمنع حدوث أضرار قبل المنخفضات الجوية، كما تتابع الطواقم ذاتها أثناء وبعد المنخفضات مهامها في حصر الأضرار والتواصل مع الجهات المانحة لتقديم الدعم والمساعدات العاجلة للمزارعين الذين تضرروا نتيجة فتح السدود لدعم صمودهم.
لكن هذا الدعم والتعويض غير مضمون، كما يشير إلى ذلك مزارعون لم يُعوضوا عن خسائرهم الفادحة بشكلٍ كافٍ حتى الآن.

موسم زراعيّ كامل "في خبر كان"!

خسر عارف الشمالي، أحد مزارعي المنطقة الشرقيّة لحي الشجاعية شرق مدينة غزّة، عام 2019، محاصيل أرضه الزراعيّة على مساحة 150 دونماً، بعد غرقها بالكامل بمياه السدود التي فتحها الاحتلال للمرة الأولى بعد عامين من التوقف، وذلك من ضمن أكثر من 800 دونمٍ زراعيّ في المنطقة التي أصابتها أضرارٌ كبيرة في الدفيئات والمحاصيل والمعدات.

يُحصي الشمالي المحاصيل الشتويّة التي تلفت تماماً ذاك العام: الملفوف، البصل، البطاطا، الفول، الزهرة (القرنبيط)، البازيلاء، القمح والشعير، أما عن خسائره: ماديّاً، زادت على 30 ألف دولار أميركيّ، وفعليّاً: ضياع موسم الزراعة الشتويّة بالكامل، وعلى العائلة: غرق رزقه وأشقائه وأسرهم، إذ يعملون معه في أرضهم المُستأجرة، مصدر رزقهم الوحيد، وقوت أبنائهم، ليُطرح السؤال: كيف نُسدّد ديون الموسم، وكيف نعتاش حتى جني الموسم القادم؟

أما عن حاله بعد انتظار أيامٍ لتجفّ المياه وتظهر المحاصيل التالفة، فلا يمكن وصفه، يقول الشمالي لـ "متراس"، إنّ المزارع يكون في وضعٍ لا يُحسد عليه فهو مضطرٌ للعمل في أرضه من الصفر، عبر تجريف المحاصيل التالفة وتهيئة الأرض مجدداً للزراعة، وهو ما يُضيف عليه تكاليف ماديّة كبيرة، "لهذا يضطر للاستدانة أو الاقتراض أو بيع ممتلكاته، ومن المزارعين من يُسجن بسبب "ذمم مالية" لعدم قدرتهم على السداد، بحسب قوله.

في العام نفسه، خسر أحد جيران الشمالي من أصحاب مناحل العسل نحو 250 صندوق نحل، تُقدّر تكلفة الواحد بـ200 دولار أميركيّ، بإجمالي خسائر كبيرة لم تكن في الحسبان، فلم يتوقع أصحابها هذه النتيجة لأنَّ الاحتلال لم يفتح السدود لعامين ماضيين؛ الأمر الذي دفعهم لنقل مناحلهم من هذه المناطق الزراعية إلى مناطق أخرى، الأمر ذاته بالنسبة لأصحاب مزارع الدواجن والحيوانات، الذين بلغت خسائرهم مئات آلاف الدولارات.

يختم الشمالي بالقول إنَّ الاحتلال لا يكتفي بذلك، بل يُغرق أراضيهم بالمياه العادمة المُسرطنة، كما أنه لا يكف أذاه عنهم باقي أيام العام، فيرشّ المبيدات السامة على أراضيهم من الجو، ويُطلق النار والغاز المسيل للدموع عليهم خلال عملهم في الأراضي القريبة من الحدود.