7 فبراير 2020

المحرّرات..

حين صارت الأرض راتباً لموظفي حكومة غزّة

حين صارت الأرض راتباً لموظفي حكومة غزّة

في شوارع غزّة الضيّقة إعلاناتٌ على مدّ النظر تَعرِضُ للبيع أراضٍ تُعرَف باسم "المُحرّرات". تعودُ ملكيةُ هذه الأراضي لسماسرةٍ أو موظّفين حصلوا عليها قبل خمس سنوات، ضمن مشروعٍ للحكومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة، وهو مشروع لتسوية مستحقات موظفي الحكومة مقابل تسلّمهم قطعة أرض تعادل قيمتُـها مستحقّاتِـهم.

أثار المشروع جدلاً واسعاً في حينه، وعاد يطفو على السطح من جديد على ضوء شكاوى الموظفين المتكرّرة من عدم القدرة على البدء بأية مشاريع فوق تلك الأراضي، إضافةً إلى انخفاض أسعارها بشكلٍ حادّ، وذلك نتيجةً لتدهور الأوضاع الاقتصاديّة في القطاع، والتي أدّت بدورها إلى ركودٍ حادٍّ في سوق العقارات.

أراضي محررات
لافتة تعرض قطع أرض من أراضي "المحررات" للبيع. تصوير: خالد أبو عامر

ما هي أراضي المحرّرات؟

امتدّ المشروع الاستيطانيّ الصهيونيّ إلى قطاع غزّة بعد احتلاله عام 1967. منذ النكسة، وضعت "إسرائيل" حجر الأساس لمشروعها في غزّة من خلال تدشين محورين لإقامة المستوطنات والمناطق العسكريّة داخل القطاع: يمتدّ المحورُ الأول على طول شاطئ قطاع غزّة، باستثناء المنطقة الواصلة بين مدينة غزّة وبين دير البلح وسط القطاع. وضمّ هذا المحور ست عشرة مستوطنةً إضافةً إلى مناطق عسكريّة مغلقة على شواطئ شمال المدينة. أما المحور الثاني فيقع على الطريق الرئيسي لقطاع غزّة والمعروف بطريق "صلاح الدين"، وضمّ أربع مستوطنات خُطِطَت لخدمة الأهداف العسكريّة للاحتلال.

أواخر عام 2005،  قررت "إسرائيل" الانسحاب من قطاع غزّة وإعادة الانتشار حوله، ضمن مشروع رئيس حكومة الاحتلال آنذاك أرئيل شارون والمعروف باسم "الانسحاب أحادي الجانب" أو خطّة "فكّ الارتباط". بعد الانسحاب الإسرائيلي، تولّت الحكومة الفلسطينيّة مسؤوليّة الأراضي التي باتت معروفة باسم "المحررات".

تبلغ مساحة هذه الأراضي 35 ألف دونم، منها 15 ألف دونم هي إجمالي المساحة التي أقيمت عليها المستوطنات، والباقي كانت عبارة عن محيطٍ أمنيٍّ يضم أبراجَ مراقبةٍ وثكناتٍ عسكريّةً تتبع لجيش الاحتلال، وتُحيط بالتجمعات الاستيطانيّة.

بعد الانسحاب الإسرائيلي، جرى نقل غالبية هذه الأراضي لملكية الحكومة الفلسطينيّة، نظراً لعدم وجود ملكيّةٍ خاصّةٍ لهذه الأراضي التي بقيت محتلةً 38 عاماً. فيما أُعيد ما نسبته 5% من تلك الأراضي إلى أصحابها الأصليين بعد إثبات ملكيّتهم لها، وهي أراضٍ كانت قد سُلبت لصالح مستوطنة "موراج" في منطقة رفح، ومستوطنة "كفار داروم" في دير البلح.

بداية الأزمة

دخلت حكومة غزّة أزمةً ماليّةً مطلع عام 2013 جرّاء تراجعٍ حادٍّ في إيراداتها. وجاء التراجع عقب تدمير النظام المصريّ مئات الأنفاق التجاريّة المقامة على طول الحدود بين القطاع وسيناء، إثر الإطاحة بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي.

كانت الأنفاق شرياناً رئيسيّاً يغذي اقتصاد القطاع، إذ أتاحت دخول كافة البضائع والسلع دون أن تتمكّن "إسرائيل" أو السلطة الفلسطينيّة من فرض الضرائب عليها. وأتاح ذلك خفض أسعار المنتجات في الأسواق، وتقليص الاعتماد على الحركة التجاريّة عبر الحواجز الإسرائيليّة.

استفادت حكومةُ غزّة من هذه الأنفاق إذ فرضت ضرائب على السلع الواردة عبرها، وقدّرت بعضُ الأوساط الاقتصاديّة قيمة العوائد المالية للحكومة تلك الفترة بـ365 مليون دولار سنويّاً (1.3 مليار شيكل)، وهو ما مكنّها من تغطية رواتب موظفيها البالغ عددهم 43 ألف مدنيٍّ وعسكريٍّ، دون عجز.

تسبّب تدمير الأنفاق بعجز الحكومة عن تأمين رواتب موظفيها، ما أدخلها في أزمةٍ انعكست آثارها على الحالة الاقتصاديّة في قطاع غزّة عموماً. وتصاعدت الأزمةُ خاصّةً بعد قرار الحكومة تقليص نسبة الرواتب لما دون 50%، وتراكمت قيمة مستحقات الموظّفين على الحكومة حتى 2015 إلى أن بلغت 1.2 مليار شيكل (350 مليون دولار).

اقرأ/ي المزيد: "أنفاق رفح التجاريّة.. الحفر من أجل البقاء".

الأرض مقابل المعاش

إثر الأزمة، وفي عام 2015، تقدّم النائب الأسبق لرئيس الوزراء في غزة، زياد الظاظا، بمقترح لتخصيص 1200 دونمٍ من أراضي المحررات، ومنحها للموظفين بنظام القرعة، مقابل تسوية مستحقاتهم على الحكومة. على أن تُنقل الأراضي للموظّفين وفق الأصول المتعارف عليها وتُسجّل في سجلّات الطابو. قوبل المقترح بترحيبٍ واسعٍ من الموظفين الذين رأوا به ضماناً لحقِّهم في جزء من مستحقاتهم على الحكومة.

وفقاً لمُخططات الحكومة، قُسمت الأراضي المنوي توزيعها لـ3 تصنيفات: (A) وهي قطعة أرض مميّزة تطلّ على شوارع رئيسة، (B) وتطلّ على شوارع داخليّة، (C) أقل تميزاً من سابقاتها.

أما عن التوزيع الجغرافيّ لتلك الأراضي: ففي مدينتي رفح وخانيونس جنوب قطاع غزّة جاء الإعلان عن تقسيمات الأراضي لعامة الموظفين، ممن لا تتجاوز مستحقاتهم حاجز 20 ألف دولار، وتم تخصيص جزء من أراضي منطقة الزهراء وسط القطاع للمدراء العامين الذين تزيد مستحقاتهم عن باقي الموظفين الذين عملوا بمسميات وظيفيّة أدنى، أما وكلاء الوزراء والقضاة فخُصِّصَت لهم أراضٍ غرب مدينة غزة.

من حيث الأسعار، احتلت أراضي غرب مدينة غزّة المرتبةَ الأولى من حيث السّعر المُحتَسب للمتر المربع الواحد، بمتوسط 400 دينار أردنيّ (560 دولاراً)، نظراً لطبيعة المنطقة وقربها من شاطئ البحر، وتركز المؤسسات والدوائر الحكوميّة في مدينة غزة.

أما أراضي المنطقة الوسطى في منطقة الزهراء، وتقع قرب مجمع قصر العدل، فقدّرت الحكومة سعر المتر المربع الواحد فيها بـ200 دينار أردنيّ (280 دولاراً)، وهي تقارب أسعار السوق.

أما أراضي المنطقة الجنوبيّة، في مدينتي رفح وخانيونس، فتشكِّل الجزءَ الأكبر من مشروع توزيع الأراضي، فقدرت الحكومة سعر المتر المربع الواحد بـ100 دينار (140 دولاراً).

بجانب هذا المشروع، سمحت الحكومة للموظفين أصحاب المستحقات المتدنية الذين لا تسمح مستحقاتهم بالحصول على قسيمة أرض، بدخول مشروع الجمعيات الإسكانية، وهو عبارة عن اتفاق 20 موظفاً ممن تقلُّ مستحقاتُهم عن 10 آلاف دولار، يسمح لهم بتقديم طلب لسلطة الأراضي للحصول على قطعة أرض بمساحة 500 متر مربع، لبناء برجٍ سكنيٍّ.

وفقاً للعديد من المصادر الحكوميّة، بلغ عدد الموظفين الذين رغبوا بالتنازل عن مستحقاتِهم مقابل مشروع توزيع الأراضي 31 ألف موظفٍ، وقع الاختيار على 13 ألفاً منهم ممن تنطبق عليهم الشروط.

كيف وزّعت الحكومة في غزّة أراضي "المحررات" على موظفيها؟

ردود الأفعال

رفضت "حماس" هذه الاتهامات، واستندت لحجّتين: الأوّلى تبني السلطة الفلسطينية سياسية شبيهة في السنوات الأولى لتأسيسها منتصف التسعينيات، إذ منحت منتسبي "فتح"، العائدين وفق اتفاقيّة أوسلو، أراضٍ في قطاع غزّة. والثانية مصادقة المجلس التشريعيّ على المقترح في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.

تباينت ردودُ الأفعال على قرار الحكومة في غزّة بتوزيع الأراضي على موظفيها، ففي حينه أعلنت حركة "فتح" والرئاسة الفلسطينية اعتراضها على المشروع، معتبرةً أن حركة "حماس" لا تمتلك أهليةً أو صفةً قانونيّةً تخولها بيع الأراضي الحكوميّة أو التصرّف بها.

شعبياً، رفض قطاعٌ واسعٌ من الشارع في غزّة خطوةَ الحكومة، لأنها حصرت الاستفادة من هذا المشروع لموظفيها فقط، وتمثّلت مطالبهم في السماح بالمشاركة في هذا المشروع للاستفادة منه أسوةً بالموظفين، فيما طالب آخرون الحكومة بأن تتبنى مقترحات أكثر كفاءةً لمعالجة مشكلة العجز في الشقق السكنيّة، كالمشاريع الإسكانية التي جرى تمويلها من دولة قطر وهي مدينة الشيخ حمد في خانيونس، ومشروع إسكان الشيخ زايد في بلدة بيت لاهيا، وهي مشاريع كانت متاحة للجميع للاستفادة منها.

قطعة أرض من أراضي "المحررات". تصوير: خالد أبو عامر.

آثار تلّ السكن

إحدى القضايا الأهم التي ارتبطت بمسألة توزيع الأراضي كانت قضيّة تلّ السكن، وهو موقع أثريّ يقع شمال وادي غزة، على مسافة 5 كم جنوب المدينة. اكتُشف الموقع عام 1998 خلال أعمال تجريف لبناء أبراجٍ سكنيّةٍ. ويُعتبر الموقع من أقدم المناطق الأثريّة الكنعانيّة التي تم اكتشافها في فلسطين، ويعود تاريخه إلى العصر البرونزي.

هدمت الحكومة تل السكن بهدف منح كبار موظّفيها قسائم أرضٍ في الموقع الجغرافيّ المميّز. إثر ذلك، انضمّت مؤسساتٌ ثقافيّة وشخصيّاتٌ اعتباريّة من داخل غزّة وخارجها إلى الأصوات المعارضة لمشروع توزيع الأراضي. ووُجِّهَت اتهاماتٌ للحكومة بأنّها تسعى لمحاباة جزءٍ من موظفيها على حساب طمس أبرز المعالم الأثريّة والتاريخيّة في فلسطين.

توزيع الأراضي.. مقابل أزمة السكن الخانقة

طبقاً لبيانات وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزّة، يحتاج القطاع إلى 100 ألف شقة سكنيّة لحل ضائقة الإسكان، ويعدّ هذا الرقم مرتفعاً بالنظر لعدد سكان القطاع، لكن هناك جملة أسباب تبرر هذا العدد المرتفع: أول هذه الأسباب ما تعرضت له غزّة من حروب إسرائيلية مدَمِرَة بين أعوام 2008- 2014، وأسفرت عن تدمير عشرات آلاف الشقق السكنيّة، وثاني الأسباب مشكلة النقص الحاد في مواد البناء، وارتفاع أسعاره، وثالث الأسباب ما سبّبه الحصار الإسرائيلي على غزّة منذ 2007، ورابعها فرض السلطةِ عقوباتٍ ماليّة طالت قطاعاتٍ واسعةً من موظفي وتجار غزّة، كلها أسباب كفيلة بحدوث أزمات في الإسكان.  

ومع مرور خمس سنوات على مشروع توزيع الأراضي الحكوميّة، ما تزال الاستفادة من هذا المشروع محدودةً بالنظر إلى الأهداف التي وضعها القائمون لتحقيقها في وقته. فما زالت حتى اليوم تغيب أية مظاهر لتنمية البنى التحتية في هذه الأراضي، وما تزال الكثير من الأراضي على حالها، دون أن تتم الاستفادة منها، بفعل استمرار الحصار الإسرائيلي من جهة، وعدم السماح بإدخال مواد البناء بسهولة من جهة أخرى، وانعدام السيولة المالية في أيدي الموظفين من جهة ثالثة.

أحبطت هذه المحدوديّات إمكانيّة استخدام الأراضي إلى حدٍ بعيد، كما اضطرّتْ نسبةً من ملّاك الأراضي إلى بيع القسائم بسبب الحاجات الماليّة القاهرة. وفوق هذا كلّه، ظهرت قضايا عديدة تتعلّق بنشاط السماسرة وعقدهم صفقات وهميّة واسعة تهدف إلى خفض أسعار الأراضي والسيطرة عليها. هذا كلّه، إلى جانب ظروف أخرى، أدّى إلى انخفاض أسعار الأراضي وفقدان قيمتها بنسبة وصلت في بعض المواقع إلى 60% من قيمتها التي قايضتها بها الحكومة.

في ظلّ هذه الحالة، ينتهز السماسرة والتجّار الفرص، بل ويسعون إلى خفض الأسعار أكثر وأكثر، بغية شراء المزيد من الأراضي واحتكارها. تحدث هذه الظاهرة، وتُلقي بثقلها على كاهل الناس، دون أن تقابلها، حتّى اللحظة على الأقل، خطوات حكوميّة تسعى لتثبيت الأسعار والحفاظ على حقوق الموظّفين.