25 فبراير 2021

حياةٌ في شارع الشهداء..

حياةٌ في شارع الشهداء..

دقائق قليلة وتصل حافلة "شركة الباصات الوطنيّة"، خطّ الخليل-القدس، إلى المحطة المركزيّة في أشدّ شوارع الخليل اكتظاظاً... شارع الشهداء. تقلّ طلّاباً وعمّالاً وزوّاراً ينزلون في الكراج ليتوزّعوا على وجهاتهم وسط ضجيج الشّارع. لو كنتَ قد سافرت من كراج شارع الشهداء، ولو لمرةٍ واحدة، فلا بدّ أنّك قد تعرّفت على الرجل المنشود؛ أبو محمود أبو غزالة، بائع التذاكر الذي يتوسّط الساحة متّخذاً من غرفة الزينكو مقرّاً يمرّ بهِ المسافرون. في تلك الساعات، يطوف نسرٌ حول أبو محمود: محمّد توفيق الشرباتي الملقّب بالنسر... صانع القهوة الذي يدور يوزّع الأكواب الساخنة بين الحافلات، لا سيما في الأيّام الباردة. 

عندما تدخل الكراج، تختلط رائحة "قهوة النسر" برائحة السولار والبنزين المنبعثة من المحرّكات الهادرة. يجلس النسر في ركنه الصغير المحاذي لدكّان أبو صلاح، محلّ الكباب الذي تميّز بساندويشات اللحم والبطاطا التي يُقدّمها للجائعين من سائقي الحافلات وسيارات الأجرة والمسافرين. عندما تصل حافلةٌ إلى الكراج، يترك النسر زاويته، يحمّل الصينيّة النحاسيّة بفناجين القهوة "ويطوطح بها" في كل اتجاهٍ بمهارةٍ عاليةٍ متجاهلاً أساسيّات الجاذبيّة، مستقبلاً السائقين والركّاب الذين يتّجه معظمهم جنوباً نحو خان شاهين والحسبة.

صورة قديمة للحسبة في شارع الشهداء. (شبكة الإنترنت)

هناك، في خان شاهين، مجموعة متلاصقة من المحال التجاريّة متعدّدة البضائع: "محلّات البرادعيّة لمستلزمات الدواب"، ومدخل حمّام النعيم، ومن هناك تظهر في نهاية الشارع ساحةٌ كبيرةٌ إلى يسارها سوق الخضار المركزيّة – الحسبة، وهو أحد أهم أسواق مدينة الخليل، تستقبل عرباتها ومحلاتها في كل يوم أطناناً من الخضراوات والفواكه بأنواعها المختلفة ومصدرها أراضي الخليل الزراعيّة، خاصةً مناطق يطا وبني نعيم. اعتاد تجّار الحسبة فتح أبواب محلاتهم عند الساعة الثالثة فجراً وإغلاقها في ساعات متأخرة من الليل.

خلال هذه الأوقات يمتلئ مسجد أهل السنة (جامع السنيّة) بالمصلين وهم في الأغلب أصحاب المحال في سوق الخضار المركزيّ، يصلون أفواجاً افواجاً. أمّا صبيحة أيام الجمعة وشهر رمضان وقبل الأعياد بأيّام قليلة، فترى أنّ هذه الأسواق مكتظّة بالمشترين على الدوام. ولاكتظاظ حركة المشترين في هذا السوق، بلغ سعر المحل الصغير فيه أكثر من 17 ألف دينار أردنيّ.

البحث عن عبد السميع

مقابل الكراج وقهوة النّسر، تسكن شجرة البطم الكبيرة التي لطالما كانت شاهداً عتيقاً على الشارع، شجرةٌ بمحاذاة تُربة المقبرة الإسلاميّة. تمرّ الجنازات من أمامها في شارع الشهداء، واصلةً من المسجد الإبراهيميّ، أو من مسجد القزّازين، أو من مسجد أهل السنّة إلى مدخل المقبرة. وتحت شجرة البطم، اعتاد الناس على وجود حلّاق اسمه عبد السميع شاهين يمارس مهنته تحت الشجرة. وإن قصده رجلٌ ولم يجده تحت الشجرة، فيُمكنه أن ينادي حمادة الهيموني، صاحب البقالة الشهيرة في "قرنة" الكراج. حمادة سيعرف حتماً أن يدلّك على مكان عبد السميع: "ستجده في باب الزاوية".

في الطريق المكتظ نحو باب الزاوية للبحث عن عبد السميع، سترى على يمينك مبنى الدبويا، وهو بناءٌ أثريّ شُيّد طابقه الأوّل عام 1878 كمستوصف لعلاج أهل المدينة. في عهد الانتداب البريطانيّ تحوّل المبنى إلى مركزٍ للشرطة، ثمَّ محكمة وبعد نكبة عام 1948، استخدم المبنى كمدرسةٍ ابتدائية تابعةٍ لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين- الأونروا. وفي عام 1967، تم تأجير الطابق الأرضي كمحل تجاري لصانع الأحذية حسين أبو عيشة، الذي صنع أحذيته ذائعة الصيت من "كوتشوك" دواليب المركبات. 

بالقربِ من مبنى الدبويا تجد مقرّاً لجماعة الإخوان المسلمين، فوق محال تجاريَّة، تعددت خدماته المقدمة للمواطنين من طبية إلى تعليمية ورياضيّة، أطلق السكان على الشارع أحياناً اسم شارع الإخوان المسلمين نسبةً للمقر، فهو وجهة الناس الأولى لطلب العلاج من الطبيب المسؤول عبد النبي النتشة، والممرض الذي استقر في العيّادة متخّذًا منها سكناً أبو نعيم المغربي.

مبنى الدبويا والذي تحوّل إلى مستوطنة "بيت هداسا". (شبكة الإنترنت).

مقابل الدبويا على يمين الشارع مجموعةٌ من المحال التجارية، متنوعة الأغراض منها: مخرطة آل طباخي، مهمتها الأساسية صناعة القطع اللازمة للسيارات، وبجانب المخرطة تمركز المختار الحلّاق عبد الحميد مجاهد، أشهر حلاقي المنطقة، وعند باب المحلقة موقف باصات شارع عين سارة.

شهد محيط مبنى الدبويا تحولات معمارية، غالباً ما تختبرها أوجهُ المدن بمرور الزمن، بنيت فوق المحال، منازلُ سكنيَّة على فترات متعاقبة، تسكنها عائلات النَّاظر، الشرباتي، وسدر، تتبعها عدة محال تجارية منها: مكتب تكسي الشعب، ومشحمة وكراج أبو عاهد الجعبري لتصليح السيارات، من الدبويا إلى كراج أبو عاهد الجعبري، مشيًا على الأقدام، أصوات باعة ومحركات سيارت، وأصوات طلبة ومعلمين قادمة من مدرسة أسامة بن منقذ.

طالبات مدرسة قرطبة خلال مرورهنّ بشارع الشهداء، وتبدو في الخلفية محطة الجعبري للمحروقات. سبتمبر/أيلول Manoocher Deghati/AFP

أساطير "غرفة الفيران"

"الفلقة على القفى" في مدرسة أسامة بن منقذ الابتدائيّة. التعليم هنا صارمٌ، ومن أبرز أساتذة المدرسة بركات أبو رجب، عز الدين عابدين، وعثمان بدر، وكذلك مقرئ المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيميّ، الشيخ المرحوم محمد رشاد الشّريف، الذي اشتهر بإصراره على طلبته حتّى التأكّد من تمكّنهم من الحفظ وفهم الدّروس. 

تتألّف مدرسة "أسامة بن منقذ" من طابقين فيهما سبعة صفوفٍ. تحت الأرضِ قبو ظلّ مجهولًا للطلبة، يُطلقون عليها اسم "غرفة الفيران"، يُهدد المعلّمون طلّابهم بإرسالهم إليها، ويُبحر الأطفال في مخيّلتهم حولها. فمنهم من تخيّلها زنزانةً، ومنهم من اعتقد أنّها مدخل نفقٍ يصل إلى الحرم الإبراهيميّ. وقد يعود هذا الغموض إلى التاريخ العريق للمبنى الذي شُيّد بين 1880 و-1890، حيث كانت مقرًّا للجيش العثمانيّ في الخليل واستُخدم القبو لسجن المعتقلين، ثم تحوّل مركز شرطةٍ في عهد الانتداب البريطانيّ واستُخدم القبو لذات الغرض.

مدرسة أسامة بن منقذ التي أصبحت معهداً دينياً استيطانياً. (شبكة الإنترنت).

لم يردع التهديد "بغرفة الفيران" كل الطلبة. فمنهم من تسكّع باتجاه حارة القزّازين، متخذاً طريقاً فرعيّاً يقطع ساحة الكراج، ثم يسلكون طلعة "التنانير" التي اشتهرت بأفران الفخار، وصولاً إلى الحارة. ومنهم من يتسيّب مع رفاقه نحو "العين الجديدة"، ومنهم من انتهى إلى الكراج ليعمل عتالاً أو بائعاً هناك.

 عُطلة عُمرها أربعة شهور… تحوّلت أبداً! 

يرنّ جرس المدرسة معلناً انتهاء الدوام، يخرج الطلّاب ركضاً نحو اكتظاظ الشارع، لكنّهم لا يجدون منه شيئاً. الشارع اليوم ساكن وميّت، لا حركة فيه ولا ضجيج. منذ العام 1980، بدأت "إسرائيل" بجيشها ومستوطنيها تستولي على المباني وتلاحق الناس وتطردهم، وتنتزع من الشارع شرايينَ الحياة. أغلقوا مدرسة أسامة بن منقذ في ذلك العام، وفي العام 1983 أدخلت "إسرائيل" مستوطنيها إلى المبنى ليستولوا عليه ويغيّروا معالمه، ليحوّلوه معهداً دينيّاً استيطانيّاً يُطلق عليه "بيت رومانو".

ثم مُنعنا منعاً باتاً من المشي في الشارع؛ من الوصول إلى منطقة باب الزاوية، ومن الذهاب للحسبة أو حتى إلى تشييع الجنازات من الحرم والمساجد القريبة نحو المقبرة الإسلاميّة، أزيح الكراج بالكامل، لم يتبقَ شيء في المكان سوى ذكريات للسائقين، وتبدّدت مع الوقت رائحة قهوة النسر. 

أغلق الشّارع كلّه، مع منع حركة السيارات في عام 1994 بعد مجزرة الحرم الإبراهيميّ بالمطلق. هدمت "إسرائيل" المحال التجاريّة، وأغلقت محلات أخرى بأوامر عسكريّة. أصبحَ شارع الشهداء محاطاً بأسلاكٍ شائكة ونقاط تفتيش وبوابات حديديّة ضخمّة، ممّا أرغم تجار الخليل على إغلاق ما تبقى من محال. "الي كان عنده دكان بشارع الشهداء، كان محسوب على الطبقات المريّشة في الخليل".

مستوطن إسرائيلي يركض في شارع الشهداء المغلق تماماً أمام الفلسطينيين، وتظهر في الصّورة المقبرة الإسلامية في المنطقة. فبراير 2021. (حازم بدر/AFP)

تحوّل سوق الخضار المركزيّ (الحسبّة) إلى معسكر للجيش الإسرائيليّ (أفراهام أبينو)، ومنطقة الدبويا إلى مستوطنة (بيت هداسا)، لا وجود لمحطة الحافلات المركزيّة، ولا للحسبة، ولا لمدرسة أسامة بن منقذ، وأغلقت أبواب الحمّامات، وكذلك قهوة نسر لم تعد موجودة. تتعرض العائلات الصامدّة في شارع الشهداء، لاعتداءات المستوطنين والجيش وتستمر الضغوطات على الأهالي لبيع عقاراتهم حتى يتم الإستيلاء عليها من قبل الجمعيات الداعمة للاستيطان في الخليل.

في العام 1997 وقّعت السلطة الفلسطينيّة ما يُعرف باسم "اتفاقيّة الخليل"، وفي مثل كلّ "اتفاقيّة" وافقت القيادة الفلسطينيّة مجدداً على تقسيم بلدنا من جديد. هذه المرّة، وافقت القيادة الفلسطينيّة على أن يدخل شارع الشهداء ضمن ما يُسمّى بمنطقة "H2"، ما يعني أنّ يبقى تحت سيطرة إسرائيليّة كاملة. ولم تحصل إلا على وعدٍ بإعادة فتح الشارع كما كان قبل مجزرة الحرم: " حركة السيارات على شارع الشهداء ستعود بشكل تدريجي خلال أربعة أشهر إلى ما كانت عليه قبل شباط 1994"، … سيطرت "إسرائيل" على الشارع سيطرة مطلقة. أما بند فتح الشارع فلم يكن إلا خداعاً يتواصل حتّى يومنا هذا، مثل كل التزامات "إسرائيل".

*يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" منذ يناير/ كانون الثاني 2021.