5 أغسطس 2020

غزّة: أهلاً بكم في تجربة التسوّق المُتميّزة!

غزّة: أهلاً بكم في تجربة التسوّق المُتميّزة!

في أواخر 2012، شهِد قطاعُ غزّة افتتاح أوّل مجمّع تجاريّ كبير. مبنى ضخم من عدّة طوابق تصل بينها أدراج كهربائيّة، وفيه أقسامٌ لمختلف البضائع من المواد التموينيّة والأجهزة الكهربائيّة والملابس والأثاث وغيرها. كان ذلك "مول غزّة" في حيّ الرمال وسط مدينة غزّة. توالى بعدها فتحُ المحال التجاريّة الضخمة، أو ما يُعرف بـ"المولات". 

هذه "المولات" بأصنافها المتنوّعة وأسعارها الرخيصة، أصبحت في الآونة الأخيرة وُجهَةَ الكثيرين من سُكّان القطاع، على حساب المحال التجاريّة الصغيرة وأصحاب البسطات.

خارطة للمول في غزّة

بعد شهورٍ من افتتاح المول الأول، افتُتح "الأندلسيّة مول" غرب مدينة غزّة، وعُرِف عن أصحابه أنّهم محسوبون على حركة "حماس"، وعمل فيه "أبناء المساجد". من خلال هذا المول صُرِفت القسائم الشرائيّة والمعونات التي تُوزّعها الحركة ولجان الزكاة والجمعيّات الخيريّة على الأيتام والمحتاجين في رمضان. كما اعتمدته الحكومةُ لصرف معوناتٍ وقسائم شرائيّة لموظفيها الذين تراكمت مستحقاتُهم ورواتبهم.

وفي السنوات الأربعة الأخيرة افتُتحت "مولات" أخرى تركّزت أغلبها في مدينة غزّة. عام 2016، افـتُتِـح "كيرفور مول"، وهو تابع لنفس مجموعة رجال الأعمال الذين حوّلوا قبلها "مترو ماركت" من محل بقالة متواضع إلى مركز تسوّق ضخم. 

وفي عام 2017، افتُتح "كابيتال مول" التابع لشركة "بدري وهنية"، وهو مول من عدّة طوابق على مساحة واسعة من الأرض، فيه طابقٌ للمطاعم والوجبات السريعة، وجزءٌ مُخصّص لمحالّ العلامات التجاريّة العالميّة، مثل: ماركة "ديفاكتو" التركيّة للملابس. وهو أول مول استقطب وكالاتٍ لعلامات تجاريّة عالميّة في قطاع غزّة، وهو أيضاً جزءٌ من سلسلة خدمات مُتخصّصة تُقدّمها "بدري وهنية"، كمحامص القهوة والبهارات وسلسلة مطاعم باسم "مزاج". 

أما "مدينة اللحوم"، التي افتُتحت عام 2019، فمُتخصّصةٌ بالمواد الغذائيّة والخضار والفواكه ولحوم العجول والضأن والدجاج والأسماك، الطازجة والمُجمّدة، وتوفّرها بأسعار زهيدة تُنافس حتّى الأسواق المركزيّة المُخصّصة لذلك. أحد أسباب ذلك أنّها تتبع لعائلة الدنف، وهي عائلة معروفة في قطاع تجارة المواشي وتمتلك عدّة مزارع لتربية وتسمين العجول.

وفي مطلع رمضان الماضي، افتتحت نفس العائلة مجمعاً تجاريّاً جديداً لها باسم "هايبر مول" في مخيم النصيرات وسط قطاع غزّة. يتواجد المول في شارع "السوق"، وهو شارع حيويّ يقع ما بين شارع "صلاح الدين" وشارع "البحر". وقد أدّى افتتاحه إلى مُزاحمة الاقتصاديّات الصغيرة والشعبيّة لأبناء المُخيّم على ربحها.

ماذا فعلت بنا "تجربة التسوّق المُتميّزة"؟

شكّلت المُجمّعات التجاريّة الكبيرة أو المولات في قطاع غزّة ظاهرةً غيّرت من أنماط الاستهلاك. إذ بدأت أعداد الزبائن التي ترتاد الأسواق الشعبيّة والبقّالات الصغيرة والسوبرماركت بالتراجع، مُقابل الإقبال الشديد على المُجمّعات متعددة الطوابق، والتي توفّر مختلف الأصناف والمستلزمات بأسعار زهيدة تحت سقفٍ واحد.

تعتمد المولات على توجّه اقتصاديّ عالميّ يختصر العمليّة التجاريّة والسلسلة الطويلة من التُجّار، فالبضائع تذهبُ من المُصنِّع إلى رفوف المول مُباشرةً. وهذا لأنّ صاحب المول إمّا لديه القُدرة الماليّة على الاستيراد مُباشرةً من المُصنِّع، وإما يكون هو نفسه المُصنّع. كما أن صاحب المول الذي يشتري كمياتٍ كبيرةً من المُصنِّع أو المورِّد يحصل عادةً على نسبة خصم مرتفعة.

بذلك وجّهت المولات ضربةً مُوجِعَةً لنمط التوريد التجاريّ التقليديّ الدارج في قطاع غزّة، والذي يعمل من خلال إجراءٍ طويل؛ يستورد أصحاب الوكالات التجاريّة البضائع من الخارج، وهم بدورهم يوّردون إلى تجّار الجملة، فيوزّع تجّار الجملة على المحلّات التجاريّة أو البسطات بالتجزئة. بهذا، يكون سعرُ التكلفة بالنسبة لصاحب البقالة الصغيرة أعلى منه لدى صاحب المول، فيبيعُ الثاني نفس المنتج بسعر أقلَ.

والمول بمنطق عمله لا يكتفي ببضاعة مُحدّدة ومُتخصّصة، بل يمتد إلى قطاعاتٍ كثيرة لم تكن في السابق من مجال صاحبها؛ فمثلاً ينتقل رجل الأعمال من مصلحة مُتخصّصة باللحوم الحمراء، إلى مولٍ فيه أيضاً أسماك ودواجن وخضار وفواكه، وحتّى طعام للحيوانات الأليفة، وملابس بعلامات تجاريّة عالميّة. ولأنّ هذا التنوّع في مكانٍ واحد فهو يُسهّل على المُستهلك عمليّة الشراء، ويُقدّم أسعاراً رخيصة وخدمات عديدة وعروضاً مستمرّة. 

وما لا يقل أهميّة في استقطاب الزبون عمّا سبق، هو الراحة والسلاسة في التسوّق، ما يوفّره المول ولا توفّره الأماكن الأخرى. فيذهب بعض هذه المولات إلى إطلاق شعار مبتذل، مثل: "تجربة تسوّق متميّزة". بذلك يؤذي المول الاقتصاديّات العاملة في مجالٍ مُتخصّص، ويطردها خارج حلبة التنافس التجاريّ، فلا تقوى على الصمود والمُنافسة. 

حوت السوق

ولا ننسى في كل هذا رأس المال. يصمد أصحاب المولات على خلاف أصحاب المصالح الصغيرة، لأنّهم- بكلّ بساطة- يمتلكون رأس المال. يتمكّن رؤوس الأموال من الصمود أمام الظروف الحياتيّة الصعبة في غزّة؛ من أزمات الكهرباء، عبر مولّدات كهرباء ضخمة وخزّاناتٍ للوقود، إلى إغلاقات المعابر المُتكرّرة التي يتحايلون عليها بثلاجات كبيرة للتخزين، ومستودعاتٍ كبيرة تُخزّن فيها بضائع تكفي القطاع لشهورٍ مُتتاليّة. 

عند الحديث عن الاستيراد والتخزين وخيارات الصمود التجاريّ، علينا بالضرورة فهم طريقة وصول البضائع وحركة المعابر في القطاع. تأتي البضائع المُستوردة، بعد شرائها من الخارج، عن طريق ميناء "أسدود" الإسرائيليّ، ثمّ تُخزّن عند تاجرٍ إسرائيليّ مُقابل رسوم على الأرضيّة. تبقى البضاعة في مخزن التاجر الإسرائيليّ حتّى يأتي دورها، حسب جدول مُخصّص من قبل الاحتلال الإسرائيلي، لتمرّ عبر حاجز "كرم أبو سالم" إلى القطاع، وهو ما يرتبط بالسياسة الإسرائيليّة بحركة فتح وإغلاق الحاجز. 

في هذا السياق، فإنّ التاجر الصغير يتحمّل ثمن الأرضيّة لبضائعه المُكدّسة في المخازن الإسرائيليّة، وهي تنهش من هامش الربح وتزيد على السعر الإجمالي للبضاعة، بحسب المُدّة التي تنتظر فيها في المخازن. ينتهي ذلك بعدم تمكّن التاجر الصغير من المُنافسة في سوق القطاع بعد أن تكبّد خسائر فوق طاقته. أمّا صاحب رأس المال الذي يملك النفوذ والعلاقات لتسهيل عبور بضاعته وتعجيلها، فإنّ بمقدوره أيضاً تحمّل تكاليف الأرضيّات وبنَفَسٍ أطول زمنيّاً.

امتيازات أخرى..

موقف السيارات أمام "هايبر مول"، وقد وضعت إدارته هدايا فوق سيارات الزبائن. مصدر الصورة: شبكة الإنترنت.

من ناحية أخرى، يتمتّع أصحاب رؤوس الأموال في القطاع بكثيرٍ من الامتيازات، التي تمنحهم نفوذاً وعلاقات جيّدة مع "حماس" في غزّة. كما يتمتع معظمهم بعلاقاتٍ جيّدة مع السلطة الفلسطينيّة في الضفّة، وحتّى مع "إسرائيل" من خلال حركة المعابر واستصدار التصاريح. 

إنّ العلاقة بينَ رؤوس الأموال وحكومة غزّة ذات منفعة مُتبادلة. إذ توفّر المولات من خلال الضرائب، سيولة ماليّة تحتاجها الحكومة في دعم ميزانيّتها، وتصرف منها رواتبَ لموظّفيها. في المُقابل، تُسهّل حكومة غزّة لرؤوس الأموال بناءَهم لمراكز تسوّق في أماكن حيويّة؛ من الأحياء الغربيّة في مدينة غزّة إلى الشارع الرئيسي في مخيم النصيرات، وتتركهم دون سياسات تُقيّدهم، أو تحمي التاجر الصغير.

هكذا مثلاً خصّصت البلديّة شارعاً خاصّاً وموقف سيّارات لـ "هايبر مول"، وأفرغت من الطريق المؤدي إليه جميعَ البسطات، وتركت لرؤوس الأموال حريّة أن تفتتح مولاتها الضخمة حتّى في المُخيّمات وما لذلك من ضرر على "صغار" السوق. بعد كلّ ذلك، ما لفت انتباه النائب العام من افتتاح المول هو "اشتباه مخالفة إجراءات السلامة الصحيّة" أثناء افتتاحه أبوابه.

الاستثمار داخل أربعة جدران

لا تُشكّل المولات أوجه استثمار كما يدّعي البعض، إنّما هي إعادة موضعة رأس المال في جيوب الأثرياء أنفسهم، في سبيل الربح المُتشعّب، إلى كلّ ما تطاله اليد. ينبني على ذلك تضرّر العديد من المصالح: سوق الملابس والمواد التموينيّة والأغذيّة وأسواق الأسماك والمُجمّدات ومحلّات القهوة والمحامص والمطاعم ومحلّات الحلويّات والعصائر، وكُل ما يمكن أن يستوعبه شارعٌ واحد من المَحالّ ومصالح الناس، إذ أصبح كلّه مُتواجداً الآن داخل أربعة جدران. 

يُدلّل البعض على الاستثمار والفائدة المُجتمعيّة التي تُحقّقه هذه المراكز التجاريّة، من خلال مساهمتها في تقليص نسبة البطالة. وهذا صحيحٌ نسبيّاً، ولكن إن كانت المولات والمراكز التجاريّة الضخمة تُوفر مئات الفرص من العمل في القطاع، فإنّها بالمُقابل أضعفت المئات من المشاريع الصغيرة، والتي كانت توفّر مصدر دخلٍ لآلاف الأفراد والأُسر. 

إضافةً إلى ذلك، فإنّ هذه المشاريع الضخمة من السهولة أن تتحوّل إلى عبء للقطاع وأداة ابتزازٍ إسرائيليّة، إمّا في حركة المعابر وإدخال البضائع لها، أو حتّى في حروبٍ مُحتملة قد تكون فيها هدفاً إسرائيلياً مطروحاً. 

على أقلّ تقدير، على الحكومة في غزّة أن تكبح جماح هذه الظاهرة من الانتشار أكثر فأكثر، وأن تُسخّر المردود الماليّ الذي تجنيه من المراكز التجاريّة الضخمة، في دعم وتثبيت أركان الاقتصاديّات الصغيرة. عليها أن تُقدّم إعفاءات ضريبيّة وُجمركيّة لتلك الاقتصاديّات، باستخدام الفائض الذي تدرّه عمليّات الترخيص والجُمرك على المُجمّعات الاستهلاكيّة الكبيرة.