16 نوفمبر 2020

الاقتصاد الفلسطينيّ.. العوم في بحر "الشيكل"

الاقتصاد الفلسطينيّ.. العوم في بحر "الشيكل"

يعيش الاقتصاد الفلسطينيّ بعد اتفاقية أوسلو عدَّة أزمات، منها أزمة السيولة النقديّة، أي النقص في كميّات عملة الشيكل المتاحة للتداول والاستخدام في المعاملات اليوميّة، أو زيادتها.

لهذه الأزمة مكوّنان أساسيان، ويتعلق الأول منهما بمجمل السياسات الاقتصاديّة الفلسطينيّة، ونمط الاقتصاد القائم على الاستهلاك، وما ينتج عن ذلك من تضخمٍ للديون- على شكل قروضٍ أو شيكات مرتجعة. بينما يتعلّق مكوّن الأزمةِ الثاني بالتقييدات الإسرائيليّة، وتحكّم الاحتلال بالكميّة الماديّة المتاحة للتداول من عملة الشيكل الورقيّة والمعدنيّة. 

يتسبب المكوّن الثاني، وهو موضوع هذه المقالة الأبرز، بتعقيد عمليات الدفع وتبادل الأموال وشراء السّلع والخدمات، خاصّة أنّ النظام المصرفيّ الفلسطينيّ ما زال في غالبه معتمداً على تبادل العملة، ولم تتطور فيه وسائل الدفع الإلكترونيّة بعد.

دون عملة وطنيَّة

تتأسس التقييدات الإسرائيليَّة، وما ينتج عنها من أزمة سيولة، على اتفاقية أوسلو، وتحديداً على ملحقها الاقتصاديّ: بروتوكول باريس. حدّدَ هذا البروتوكول المعالمَ والإطار السياساتيّ للنشاط النقديّ الذي تجريه السّلطة الفلسطينيّة. مثلاً، نصّت المادةُ الرابعة فيه على استخدام الشيكل الإسرائيليّ الجديد كوسيلةٍ للدفع في الضفّة الغربيَّة وغزَّة، وللأغراض كافة، بما في ذلك الصفقات التجاريّة، والتعامل الحكوميّ والمصرفيّ، مع أنّ النظام الفلسطينيّ قائمٌ على تعدد العملات، أي الدينار الأردنيّ، والدولار الأميركي.

هذا يعني أن بروتوكول باريس جرّد سلطة النقد الفلسطينيّة من أهمّ صلاحيات البنوك المركزيّة في العالم؛ صلاحيّة إصدار عملةٍ وطنيّة. يعني ذلك بالضرورة السيطرةَ شبه الكاملة للبنك المركزيّ الإسرائيليّ على العملة، وكمياتها المتداولة في السّوق الفلسطينيّة، ويعني أيضاً حرمانَ سلطة النقد الفلسطينيّة من استخدام السياسات النقديَّة وأدواتها لضبط الاقتصاد وتحسين أدائه حين الحاجة. مثلاً، يُمكّن وجود عملة وطنيّة صانع القرار الماليّ والاقتصاديّ من التحكم بأسعار الفائدة والاحتياطيات النقدية، والتي تساهم في ضبط الاقتصاد والتدخل لعلاج الأزمات المالية المختلفة.

إنّ حرمان السّلطة الفلسطينيّة من إصدار عملة وطنيّة أدّى إلى رهن التعاملات الاقتصاديّة تحت سيطرة البنك المركزيّ الإسرائيليّ، بعد أن أصبح الشيكل عملة التداول اليومية. كما أنّ غياب العملة الوطنيّة يعطّل تحقيق أي مظاهر الاستقلال الاقتصادي وتطويره، ويعرقل فرص استقطاب رؤوس أموال فلسطينية في الخارج. هذا إضافةً إلى خسارة الفوائد الأخرى المتعلقة بصك العملة، وما ينتج عنها من إيرادات يمكن أن تساهم في تقليل العجز في الموازنة العامة والاعتماد على المعونات الدولية، وتقليل حجم الخسائر الفلسطينية جرّاء التحويل المستمر لعملات مختلفة.

 في غزَّة.. لا يوجد فكّة

تبعاً لذلك، تحكّمت "إسرائيل" بكمية النقد المتداول من عملة الشيكل في السوق الفلسطينيّة زيادةً ونقصاناً، واستخدمت ذلك كأداةٍ للضبط والعقاب، إذ لنقص السيولة النقديّة وضعف حركة المال في السوق آثار سلبية كبيرة على حياة الناس.  واكتسب هذا التحكم صفة خاصّة فيما يتعلق بقطاع غزّة. عام 2007، وبالتوازي مع تشديد الحصار على قطاع غزّة، اعتبرت "إسرائيل" القطاع كياناً معادياً. ترتّب على ذلك منع المصارف الإسرائيليّة من التعامل مع المصارف الفلسطينيّة في القطاع، وقطع التعاملات المصرفيّة بين المصارف الخارجيّة وتلك التي في غزّة. يعتبر ذلك تنكراً للفقرة رقم 14 من بروتوكول باريس، والتي تنصّ على التزام "إسرائيل" بتحويل وتبادل النقد بين المصارف العاملة في الضفة والقطاع وبين المصارف الإسرائيليّة.

اقرؤوا المزيد: غزّة.. هل "كسر الحصار" ممكن؟

أدّت هذه السياسة الإسرائيلية إلى مضاعفة أزمة السيولة النقديّة الموجودة أصلاً في قطاع غزّة، وتوّقفت إثر ذلك مقاصة الشيكل مع المصارف الإسرائيليّة، وتوقّفت حركة الحوالات الصادرة والواردة بالكامل، كما انعكست هذه الأزمة في نقص عملتيّ الدينار والدولار. أدّى ذلك أيضاً إلى النقص في وحدات النقود المعدنية (الفكّة)، ما أثر على انسيابية التعاملات التجارية، وتسبب أحياناً بارتفاع الأسعار في بعض السّلع والخدمات.

إلّا أنَّ هناك ما ساهم في تخفيف حدّة الأزمة مؤقتاً، وهو الاتفاق الذي جرى بين وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" و"إسرائيل" عام 2009، والذي ساهم في إدخال حوالي 13 مليون دولار شهريّاً لتغطية رواتب موظفي الوكالة ونفقاتها المختلفة في قطاع غزّة.

انعكسَ كلّ ذلك على مناحي الحياة المختلفة، فلجأ التجار إلى إتمام تعاملاتهم المالية من خلال الدفع النقدي بعيداً عن المؤسسات المصرفية والبنوك، أو من خلال اللجوء إلى الصرافين والتجار الذين لديهم صلاحيات الوصول إلى الضفة الغربية والداخل المحتل، فكان يتم نقل الأموال عن طريقهم، مع احتمال أنْ يوقفهم جنود الاحتلال على حاجز بيت حانون، للتحقيق حول المبالغ الداخلة والخارجة من القطاع، بحسب ما يخبرنا به المختص الاقتصادي ماهر الطباع.

في حينها، لجأ المواطنون والتجار إلى الشيكات المرتجعة لإتمام العديد من الصفقات التجارية، ما انتهى بالعديد منهم في الحبس على ذمم مالية، أو بخسارة التاجر مشروعه بشكل كامل. إلى جانب ذلك، لجأ الناسُ في حينها للحصول على عملة الدولار بدلاً من الشيكل، فاضطروا لدفع فرق عملة تصل إلى 20 شيكلاً على كل 100 دولار بسبب التباين في سعر صرف الدولار ما بين البنوك ومحالّ الصرافة، فحدثت بالتالي خسائر أكبر على حساب حياة المواطنين، وخلق "سوقاً سوداء" لتصريف العملات. هذا إلى جانب العديد من المشاكل مع البنوك والمصارف، بسبب عدم قدرتها على الإقراض،  والتأخر في صرف الرواتب لعدم توفر النقود والعملات. 

اقرؤوا المزيد: راجعة بإذن الله.. أزمة الشيكات وعقليّة السلطة

استمرّت أزمة النقص الحادّ في عملة الشيكل حتى منتصف عام 2010. بعدها تحول مسارُ الأزمة، وأصبحت المصارف في غزّة تعاني من زيادة في عملة الشيكل هذه المرَّة. ضمن محاولاتِها لحلّ الأزمة، استبدلت سلطةُ النقد الأوراق النقديّة التالفة، والتي تراكمت في غزة بسبب عدم السّماح باستبدالها لفترات طويلة، إذْ يؤدي تبديل العملة التالفة إلى زيادة كمية العملة القابلة للتداول بين الناس. كما نجحت سلطة النقد بين عاميْ 2012 و2017 في إدخال 868 مليون شيكل (225 مليون دولار)، واستبدال 235 مليون شيكل من النقود التالفة.

فائض الضفَّة

انتقلت هذه الأزمة أيضاً إلى المصارف في الضفّة الغربيّة، وذلك بالتزامن مع تعرّضها لضغوط مباشرة من الجانب الإسرائيليّ لمنع تزويد فروعها في غزّة بالنقود اللازمة. بدأت الأزمة في الضفة الغربيّة تقريباً عام 2009 بعد ظهور فائضٍ كبيرٍ من عملة الشيكل، بقيمة أكثر من 750 مليون شيكل، لا سيما بعد رفض البنوك الإسرائيلية استقبال هذا الفائض. بينما وبحسب بروتوكول باريس، يتوجّب على البنوك الإسرائيلية استقبال فائض الشيكل من البنوك العاملة في فلسطين بالتنسيق المشترك بين سلطة النقد و"بنك إسرائيل"، وفقاً لنص الفقرة 18.

وتكمن أهمية تحويل الفائض من عملة الشيكل للعملات الأخرى في أنه يُساهم في استمرار تداول العملات الأجنبيّة بالأسواق، ما يعني استقراراً اقتصاديّاً أفضل، لا سيما أنّ النظام الماليّ في فلسطين هو نظام مختلط العملة. إنَّ توازن كميات العملات ضروريٌ أيضاً لأنَّ الدينار الأردنيّ والدولار الأمريكيّ هما عملتا الادّخار المفضلتان للفلسطينيين، ما يرفع الطلب عليهما، مقابل صعوبة توفيرهما في ظلّ رفض بنوك الاحتلال تبديل عملة الشيكل الفائضة بعملة أخرى.

بدأت أزمة فائض الشيكل بالتراجع نسبياً بعد عام 2013، وذلك بعد اتفاق مع بنك "إسرائيل"، أوجبَ وضع آلية مؤقتة لتحويل 300 مليون شيكل شهرياً  للمصارف الفلسطينية التي لا تقوم بعمليات التحويل مباشرة مع نظيراتها الإسرائيليّة. لكن رغم التراجع النسبيّ، فائضُ الشيكل مشكلة متجددة، والمحدد الأبرز فيها هي سياسات البنك المركزيّ الإسرائيلي، فتتجدد كلما امتنع البنك المركزيّ عن استلام الفائض من البنوك الفلسطينيّة، كما حدث خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، والمرجح أن تتواصل هذه المشكلة طالما ظلّ النظام الماليّ الفلسطينيّ بلا عملة وطنية، معتمداً على عملة الاحتلال ومرتهناً لمزاج مصارفه وسياساته المالية المجحفة.