13 ديسمبر 2023

القواعد الستّة في مواجهة السجّان.. حوار مع مرح بكير

القواعد الستّة في مواجهة السجّان.. حوار مع مرح بكير

بينما تلمع في عينيها وتنعكس في كلماتها سماتُ الثقة والنباهة، وقفت مرح بكير (23 عاماً) في أحد شوارع بلدة بيت حنينا شمال القدس، تعبّر أمام وسائل الإعلام عن المشاعر المتناقضة؛ فمن جهة "انتشلتها" صفقة تبادل الأسرى من أوضاع قاهرة استمرت 47 يوماً في عزل سجن الجلمة، وألقتها في حضن أمها الفخورة، ومن جهةٍ أخرى، كان الثمن لذلك غالياً جداً؛ دماء عشرات الآلاف من الشهداء في قطاع غزّة.

خرجت مرح من سجون الاحتلال يوم الجمعة 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ضمن الدفعة الأولى لصفقة التبادل التي أبرمت بين حركة "حماس" ودولة الاحتلال. كانت مرح تقضي حكماً بالسجن لمدة ثمانية أعوام ونصف، كان من المفترض أن تنتهي في نيسان من العام المقبل، إذ اعتقلت مرح يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، بعد أن أطلق عناصر شرطة الاحتلال النار عليها، وأصابوها بثلاث رصاصات في يدها. وقد اتُهمت بالتخطيط لتنفيذ عملية طعن بالقرب من المركز الرئيس لشرطة الاحتلال في الشيخ جراح في القدس.

لم تكن تجربة مرح في السجن عادية، فقد صقلت سنوات السجن شخصيتها وأخرجت أفضل ما فيها من مهارات وسمات. دخلته طفلةً صغيرةً لم تبلغ سوى 16 عاماً ونصف، لا تعرف إلا مدرستها وعائلتها، وخرجت منه شابةً مثقفةً صلبةً شجاعة تُجيد التحدث والتعبير بدقّة عما عاشت، وتعرف كيف تنتزعُ حقّها وتثابر على تحقيق ما تريد، أعانها في ذلك إيمانٌ دافقٌ نوّر بصيرتها من خلف قضبان الاحتلال. وكانت ذروة هذه التجربة عندما أصبحت وهي بنت 21 عاماً مسؤولةً عن حوالي 40 أسيرة فلسطينية، بعضهن في عمر والدتها وأكبر. 

في هذا الحوار، نعود معها إلى سنوات السجن الأولى، لنعرف كيف عاشتها، وتحديداً إلى المهمة التي تولّتها في تمثيل الأسيرات وما تحمله من تحديات.

لنبدأ من الشهرين الأخيرين، كيف تلقت الأسيرات خبر عملية طوفان الأقصى؟

عرفنا بالخبر في اليوم نفسه، الساعة الثامنة صباحاً. بعد نصف ساعة تقريباً قطعت إدارة السجن الكهرباء عنا حتى لا نستطيع متابعة التلفاز. بدأنا بالإنشاد والتكبير، كان هناك جوّ من الفرح في القسم. استدعتني إدارة السجن وقالوا إنّ ما نقوم به "ممنوع"، وطلبوا مني إسكات الأسيرات. لكننا لم نعبأ لتهديدهم، فتابعنا الإنشاد في الغرف وفي الساحة حيث تنتشر كاميرات المراقبة، وبعض البنات سجدن شكراً لله. 

تقريبا عند الرابعة عصراً اقتحموا غرفتي، واعتدوا علي أنا والأسيرات في الغرفة، فيما الأسيرات في الغرف الأخرى كُنّ يكبرن ويخبطن على الأبواب. ضربونا بالعصي ورشّوا علينا الغاز، تلقيت ضربة على بطني، ورشوا الغاز على عيني اليسرى، ثم سحبوني وقيّدوني وأخرجوني من القسم، خرجت وجزء من جبهتي منتفخ بفعل الضرب والدم ينزف. ثمّ نقلوني إلى العزل في سجن "كيشون" - الجلمة.

نعلم أنه منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر صعدت مصلحة السجون من إجراءاتها القمعية بحقّ الأسرى، وسحبت منهم كل المنجزات. فكيف كان وضعك في زنزانة العزل طوال تلك المدة؟

قضيت في العزل 47 يوماً، كنتُ في غرفة مساحتها مترين في متر ونصف، وفيها 4 كاميرات تراقبني، وكان لا يمكن لي الاستحمام بشكل يضمن خصوصيتي، فباب الحمام لا يمتد حتى سقف الزنزانة، ومن يقف للاستحمام فيه يكون مكشوفاً، فكنت إذا أردت الاستحمام استخدم أحد الأغطية المخصصة للفرشة أربطها بمسمار حتى أغطي إحدى الكاميرات. نجحت في ذلك 4 مرات فقط، أي أنني استحممت 4 مرات فقط خلال هذه الفترة.

لم أكن أعرف الكثير عن العالم الخارجيّ، كنت أفكر كثيراً بالأسيرات خاصة أنني أعلم أن الأوضاع المعيشية لهن ستصبح شديدة السوء، كنت أتخيل أن أوضاعهم ستعود إلى نقطة الصفر، ولكن ما حصل أنها أصبحت حتى في مستوى السالب، لا مجرد الصفر.

كنت كذلك كثيرة التفكير بأهلي، لكنني وكلتهم ووكلت الأسيرات لرب العالمين. خلال فترة العزل زارتني المحامية مرتين، لكنها كانت سريعة جداً، أقل من 10 دقائق، استطعت من خلالها الاطمئنان ولو قليلاً على أهلي. ولكن لم أعرف الكثير عن الأسيرات، لأنّ المحامية لم تكن قد نجحت في زيارتهن في حينه.

وكان مسؤولو مصلحة السجون قد أخبروني أنني سأبقى في العزل إلى حين انتهاء محكوميتي، أي حتى شهر نيسان/ أبريل 2024، يمكن القول إن الصفقة جاءت و"انتشلتني انتشال" من العزل.

47 يوماً في العزل، كيف حافظتِ على توازنك خلالها؟ كيف قضيت كل ذلك الوقت؟ 

مرت أيام كنت أرى فيها أحلاماً مزعجة في المنام، كنت أصحو وأنا أشعر بضيق وأحياناً أبكي. ثمّ سألت نفسي: "ماذا سيفيدني البكاء؟". لذلك قضيت الوقت بالصلاة، كنت أصلي الكثير من النوافل، وأقبلت على الدعاء وتلاوة القرآن بصوتٍ عال، تعمدت ذلك حتى أسمع صوتاً في الغرفة ولا يقتلني الهدوء التام. كانت الأسيرات قد أرسلن لي بعض الملابس ومعها رواية "زمن الخيول البيضاء"، قرأتها 9 مرات تقريباً. 

ولم أستسلم للواقع، فقرّرت الإضراب عن الطعام مطالبةً بعودتي لسجن الدامون إلى أقسام الأسيرات. امتنعت عن الطعام والشراب لمدة 8 أيام، ولم أشرب حتى الماء والملح، حتى يكون إضرابي عامل ضغط حقيقي وفعّال. نزل وزني حوالي 14 كيلوغراماً. نزلت عندي مستويات السكر في الدمّ، وارتفع ضغط الدم، وحصل تشوش في عمل القلب، وعندما أخذوني للعيادة وعرضوا علي دواء لتنظيم نبضات القلب، رفضتُ ذلك حتى يكون إضرابي كاملاً وذي معنى. أيضاً عندما علمت أن أوضاع الأسرى والأسيرات أضحت سيئة للغاية، قلت في نفسي: "من يدري ربما وصلت الأمور إلى أن يكون هذا الدواء يضرني لا يفيدني.."، فامتنعت تماماً عن تلقي أي علاج. 

خلال إضرابي، زارتني محامية، ونقلت لي رسالة من والدتي تخبرني فيها أن الأوضاع صعبة للغاية في السجون، وأنهم لن يكترثوا أبداً لإضرابي، وطلبت مني فك الإضراب. لم أقتنع. صليت الاستخارة، واستمريت بالإضراب ليومين إضافيين، حتى رأيت رؤيا فهمت منها أنّ علي فك إضرابي. وفعلاً كانت نصيحة أمي في مكانها، لقد قضيتُ في السجن 8 سنوات ولم أشهد هذا المستوى غير المسبوق من القمع والاضطهاد من قبل إدارة مصلحة السجون. مرة أخرى الصفقة كانت طوق نجاة لي.

الآن، لنعد إلى السنوات السابقة، قضيتِ 8 سنوات في السجن، حدثينا عنها وخاصة سنتك الأولى ماذا فعلت؟

كانت حياتي في السجن مليئة بالإنجاز، وبرنامجي مزدحماً دوماً. واجهتُ نفسي بما حدث، وأصبحت عندي قناعة أنّني يجب أن أتجاوز أي مشاعر للضيق وأنّ الله سبحانه وتعالى إذا وضعني في هذا المكان فهذا يعني أنه يجب أن أكون فيه، والسؤال الآن: كيف ابني حياة جديدة لي داخل السجن؟

استشرتُ "خالتو لينا" 1تقصد الأسيرة السابقة لينا الجربوني، من عرابة البطوف في الأراضي المحتلة عام 1948، تحررت في نيسان/ أبريل 2017، بعد قضائها حكماً بالسجن لـ15 عاماً. وأرشدتني إلى طريقة ترتيب برنامجي، وبعدها اجتهدت وأضفت لمساتي. كانت عندي أوقات لقراءة الكتب، أوقات لقراءة القرآن، تعلمت اللغة العبرية والتجويد، وانشغلت أيضاً بعمل تمارين ليدي المصابة. قدمت امتحانات التوجيهي كذلك. كانت بعض الأسيرات ممن يحملن درجة الماجستير ينظّمن لنا محاضرات في التاريخ والدين، وفعاليات فنية، وكنا نلعب الرياضة ونطبخ.

على سيرة الطبخ، أنا تعلمت الطبخ في السجن، "خالتو لينا" علمتني. وفي إحدى السنوات نظمنا مسابقة طبيخ، حصل فيها فريقي على المرتبة الثانية.

اقرؤوا المزيد: حكايا من سجن الدامون: كيف تورّث الأسيرات تجاربهنّ؟

وبما أنني أذكر الأسيرة السابقة لينا كثيراً، فمن المهم أن أقول إنّ لها فضلاً كبيراً عليّ بعد الله وبعد أهلي. كانت تعاملني كابنة لها، اعتنت بي وساعدتني منذ دخولي السجن. كانت تشجعني على المداومة على جلسات العلاج الطبيعي ليدي المصابة، وكانت في أحيان كثيرة تقسو علي، رغم أنها حنونة بشكل عام. عندما ترى أنني أتهاون في مواقف معينة كانت تنبهني بطريقة قاسية. ذات مرة استنفرت وسألتها: "أنت حنونة فلماذا تتصرفين معي هكذا؟" قالت بهدوء: "عشان أطلع الزبدة منك.. أنا شايفة فيك خير كثير لازم يطلع". لذلك يمكنني القول إنه خلال العام الأول من سجني كانت "خالتو لينا" هي عامل أساس في ظهور شخصيتي، وفي تحويلي إلى شخصية اجتماعية تختلط بالناس.

سمعنا أنك أصبحتِ أكثر تديناً في السجن، حديثنا عن هذه التجربة بالذات، وكيف ساعدتك في تخطي العقبات؟ 

في السجن تقرّبتُ إلى الله تعالى أكثر. قبل السجن كنت أقصّرُ في صلاتي. بعد السجن التزمتُ بالفروض والنوافل، والآن أنا لا أقطع الصلاة بتاتاً تحت أي ظرف. قبل السجن كنت ألبس الحجاب، في السجن قررت أن ألبس الجلباب. زادت مراقبتي لله عزّ وجل، ثم عملت على تثقيف نفسي دينياً، بدأتُ أقرأ في كتب الفقه، قرأت كتاب فقه السنة لسيد سابق، خمس مرات. اكتشفت أن أحكاماً أساسية في الدين لا يعرفها المسلمون. كنت أداوم على أذكار الصباح والمساء. مع القراءة والتثقف والالتزام أصبح لدي سكون داخلي.

تقرّبي من ربنا وتمسكي بالدين، كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتني قادرة على تحمل هذه السنوات وتقبل ما يكتبه الله لي. كنتُ أُذكِّر نفسي: "إذا كان الله معك فمن عليك". منذ تديني في السجن رافقتني هذه الجملة، وساعدتني على تخطي المواقف الصعبة. 

تأثرت ببعض ما قرأت لسيد قطب، مثل تفسير في ظلال القرآن، وكتاب معالم في الطريق. تعلمت منه عدة جوانب في الإيمان وفي التوكل على الله والإيمان بكامل قدرته. هذه القناعات الأساسية التي آمنت بها أوصلتني إلى حيث أنا اليوم.

الآن، نريد أن نفهم كيف أصبحت الأسيرة التي دخلت طفلة إلى السجن ممثلة للأسيرات وهي بعمر 21 عاماً؟

في العام 2020، أفرج عن الأسيرة بيان فرعون، التي كانت ممثلة الأسيرات في سجن الدامون. من بعدها، وتحديداً في التاسع من تموز/ يوليو 2020، أصبحت أنا ممثلة للأسيرات. كان ذلك بإجماع من الأسيرات، طُرح اسمي بناء على عدة معايير، منها القدرة على مواجهة الإدارة ومخاطبتها وانتزاع الحقوق منها، وكذلك القدرة على حلّ المشاكل الداخلية. وسُئلت الأسيرات عن موقفهن من اختياري كممثلة للأسيرات، فكانت هناك موافقة من الغالبية، وقالوا إن العمر ليس مقياساً في هذا الموضوع. من بين حوالي 38 - 40 أسيرة، كانت هناك فقط 5 أسيرات معارضات لهذا الأمر. 

كان الاتفاق على اختياري معروفاً من نيسان/ أبريل في العام نفسه، لذلك بدأت بتحضير نفسي. كنت أرافق بيان فرعون عندما تلتقي بإدارة السجون، أحافظ على الصمت وأراقب وأتعلم كيف يكون التعامل مع الإدارة، وبدأت أفهم التفاصيل شيئاً فشيئاً.

لا يعرف كثيرون ما هي المهام المنوطة بممثل أو ممثلة الأسيرات، ما يُطلق عليه في قاموس الأسرى بالعبريّة "الدوبير"، فهلا شرحتِ لنا ما هي هذه المهمة؟ 

أهم مهمة لممثلة الأسيرات: حماية القسم من أي اختراق أمني، وهذا أمر معروف في السجون، إذ تحاول إدارة السجون إسقاطنا أملاً في إضعاف القسم وضرب الحركة الأسيرة. لذلك، فإن التعامل مع إدارة السجون مقتصر فقط على الممثلة، هي التي تواجههم، ولا يسمح لبقية الأسيرات بالتواصل المباشر معهم. وضمن هذه المهمة على الممثلة أن "تفتح عيونها" وتنتبه لكل صغيرة وكبيرة، يجب أن تعرف ماذا يحدث في القسم، أن ترافق كل أسيرة تخرج من القسم، خاصة إذا خرجت الأسيرة للعيادة، الكل يعرف أن وجود المخابرات يتمركز في العيادة، فإذا خرجت أسيرة لوحدها لفحص طبيّ يمكن أن يفتح حوار "عفوي" مع ممثل المخابرات، وجود ممثلة الأسيرات يعطينا نوعاً من الحماية والحصانة. وكذلك للممثلة وظائف أخرى تتعلق بحل المشاكل الداخلية وانتزاع حقوق الأسيرات من الإدارة.

اقرؤوا المزيد: قاموس الأسرى اليومي

ما هي رؤيتك الشخصية لمهمة التمثيل في السجون؟ كيف رسمتِ حدود هذه المهمة؟

كان سعيي دوماً أن أحافظ على علاقة سليمة مع كل الأسيرات أساسها الثقة. صحيح أنا مسؤولة القسم لكنني لم أكن أعطي هذا الشعور للأسيرات، أنا لا آمرهن، وإنما أتعامل معهن كصديقة، نحن نريد الحفاظ على القسم سوياً. هذه الثقة هي الكفيلة بالحفاظ علينا. مثلاً، أشرح لكل أسيرة جديدة ما هي القوانين والأسس التي تنظم حياتنا في السجن، فتصبح كل واحدة منا على معرفة بواجباتها، ولذلك فإنهن كنا يخبرنني بكل ما يحصل معهن مثلاً عند الخروج للمحاكم في البوسطة، إذ لا أستطيع طبعاً مرافقتهن في ذلك. الثقة التي بيننا تجعلهن يسردن لي كل ما يحصل معهن، وفي حال حدوث خلل ما، نتشاور، ونتفق سوياً على كيفية التصرف.

وضمن هذا الإطار، هناك لوائح داخلية توضح المسموح والممنوع. مثلاً هناك عقوبات لمن تتلفظ بأي ألفاظ كفرية، وهناك عقوبات لمن تسرق أو تعتدي على غيرها. غيّرتُ بعض الشيء في هذه اللوائح، فمثلاً ألغيت تماماً عقوبة الضرب، وأخبرت الحركة الأسيرة أنني مستعدة لكل أنواع العقوبات ما عدا تلك التي تتضمن أذى جسدياً وأخبرت جميع التنظيمات بذلك. أما العقوبات فهي في العادة مقاطعة من بقية الأسيرات أو حرمان من الخروج إلى الفورة. 

هذا بخصوص العلاقة مع بقية الأسيرات، ماذا عن ضوابط تعاملك كممثلة مع الإدارة؟

أولاً: الجدية. يجب أن تشعر الإدارة أن ممثلة الأسيرات جديّة وتحترم نفسها كمسلمة. ممنوع أن تشعر إدارة السجن أن ممثلة الأسيرات "سهلة". يجب أن تفرض عليهم أن يتعاملوا معك باحترام، فرضت عليهم ذلك، ممنوع يتعاملوا معي بقلة أدب، أو أن يرفعوا صوتهم عليّ. هم يعرفون أنهم إذا فعلوا ذلك سيدفعون ثمناً له. 

ثانياً: يجب أن تتحدث الممثلة بصيغة الجماعة، لا أقول "أنا أرى.."، وإنما أقول: "نحن في القسم نرى أنّ كذا وكذا..". أنا كممثلة خرجت للحديث معهم بغرض تمثيل القسم، لذلك يجب أن لا أتحدث باسمي. 

ثالثاً: يحب أن تَشعر الإدارة أنك قلقة على الأسيرات أكثر من نفسك، وهذا يعني أنه من الممنوع أن تساومي الإدارة على بعض الأمور مقابل تحسين شروط سجنك. أُعطي مثالاً، في العام 2021 منعوا أمي من زيارتي لمدة 6 شهور بحجة أنّها قامت بتوصيل رسالة سرية خلال إحدى الزيارات. كانت الإدارة تحاول مساومتي على حقوق الأسيرات من خلال ابتزازي بموضوع الزيارة. يعني يريدون أن أسكت عن فرض بعض الإجراءات ضد القسم مقابل السماح لأمي بزيارتي. كنت أرد عليهم: "أنا لم أتحدث عن أمي.. أنا أتحدث عن القسم وعن الأسيرات". جنّ جنونهم في تلك الفترة لأنني لم أبدِ أي اهتمام بزيارة أمي ولم أفتح الموضوع بتاتاً معهم ولم أقدم حتى اعتراضاً على قرار منعها.

رابعاً: هناك ضابط آخر فرضتُه في قسم الأسيرات. لدى بعض الأقسام في سجون الاحتلال، كان أفراد المخابرات الذين يأتون للحديث مع ممثل الأسرى يأكلون ويشربون مما يطبخه أو يحضره الأسرى، كأس من الشاي، فنجان من القهوة، وأحياناً صحون من الطعام. منعتُ هذا الأمر بتاتاً في قسم الأسيرات. وطبعاً انزعجت المخابرات من هذا الأمر وكانوا يحاولون الضغط عليّ لأعرض عليهم ولو فنجان قهوة.. ورفضت حتى النهاية… نحن لسنا أصدقاء، هم إدارة سجن وأنا ممثلة أسيرات، ومن غير المقبول أن أتحدث معهم بمرونة أو دبلوماسية أو أعرض عليهم الضيافة. 

خامساً: يجب أن تكون ممثلة الأسيرات ذكية وعندها سرعة بديهة. يجب أن تكون قادرة على الرد على ما تطرحه الإدارة مباشرة. يجب أن لا تعطي الإدارة الفرصة لتشعر أنها تريد أن تفكر أو أنها لا تعرف ماذا يجب أن تتصرف. على الممثلة أن تكون قوية، إذا قالت للإدارة: "أريد أن أفكر وأعود لكم بجواب"، فهذا يعكس صورة سلبية عن كل القسم، تفهم الإدارة أن الممثلة ضعيفة ومترددة وأن القسم كله متردد. 

كذلك كان عندي قانون: أنا لا أصدق إدارة السجن تحت أي ظرف، كنت أراهم كتلة من الكذب، لا أصدق إلا ما أرى بعيني. لا أقول إنني لا أصرح قولاً بتصديقهم، إنما حتى في داخلي، بيني وبين نفسي لا أسمح لها بتصديقهم. هذا جزء من عقيدتي وفهمي لعلاقتنا بهم.

احكي لنا قصة من قصص السجن شعرت فيها بالإنجاز مقابل إدارة السجون، بالذات كممثلة للأسيرات.

أذكر قصة أسيرة من جنين، عندها مرض بحيث تزداد بين الحين والآخر نسبة المياه في رأسها، وعندما يحدث ذلك يجب أن تذهب للمستشفى ليسحبوا الماء. خرجت معها إلى العيادة، ورفضت الإدارة أن ترسلها إلى المستشفى، وهذا يعني أنها قد تموت في أي لحظة. رجعت أنا والأسيرة إلى القسم وأغلقناه، قلت للأسيرات: ادخلن إلى الغرف وأغلقوا الأبواب. إغلاق الأبواب في وقت الفورة يعني التمرد على النظام اليومي في السجن. جاء الضباط سألوني ما المشكلة، فقلت لهم أن الأسيرة قد تموت في أي لحظة ويجب أن تذهب للمستشفى. قالوا لي: سنأخذها إلى المستشفى ولكن افتحي القسم. رفضت رفضاً قاطعاً، قلت لهم: أولاً تأخذونها إلى المستشفى ومن ثم نفتح القسم. وهكذا بقي القسم مغلقاً حتى صباح اليوم الثاني، إلى حين رجعت الأسيرة من المستشفى وتأكدت منها أنها حصلت على العلاج اللازم، ومن ثمّ فتحنا الأقسام وخرجنا إلى "الفورة".

اقرؤوا المزيد: يوميّات أسرى في "الفورة"

وهناك إنجاز الهواتف. هذا إنجاز مشترك للأسيرات والأسرى، وهو حصيلة جهد ربما استمر سنوات طويلة. بعد تفشي فيروس كورونا وتوقف الزيارات من الأهل لفترة طويلة، وفي ظل عدم وجود أي وسيلة تواصل، بدأنا بالتفكير بالاحتجاج للمطالبة بتركيب هواتف عمومية نستخدمها للاتصال بأهلنا. أرسلنا للأسرى أننا سنبدأ بأخذ خطوات جدية في الموضوع، وتحدثنا مع محامين لإرسال رسائل شكاوي لمصلحة السجون، الهاتف حق كل أسير، خاصة أنّ الاتصالات ستكون مراقبة وأننا سندفع تكاليفها. بدأنا نتحرك في تموز 2021، وهددنا بالإضراب، إلى أن نجحنا في تحقيق هذا المطلب في تموز 2022، رُكبت الهواتف في جلبوع ورامون والنقب والدامون ومجدو. الفضل لله تعالى ومن ثم للأسرى والأسيرات.

أذكر أول يوم أجرينا فيه مكالمات كان في 10 تموز 2022، كان لذلك أثر كبير على الأسيرات. تغيرت نفسية الأسيرات عندما أصبحوا يتواصلن مع أهاليهن، أصبحن يعرفن أكثر عن أخبار العائلة، وأصبحت تطرح مواضيع جديدة للنقاش بين الأسيرات بناء على الأخبار والمواضيع التي يطرحها الأهل. كان يسمح لنا بساعة أسبوعية نصرفها كيفما نشاء خلال الأيام الخمس من الأحد للخميس.