21 أبريل 2021

الانتخابات والقدس: عيوننا إليكِ ترحل "هاليومين"

الانتخابات والقدس: عيوننا إليكِ ترحل "هاليومين"

لا يعرف الفلسطينيّون على وجه الدقّة إن كانت الانتخاباتُ التشريعيّة ستجري في موعدها الذي حدّده المرسوم الرئاسيّ، 22 مايو/أيار، أم لا. تؤثّر في الأمر اعتباراتٌ عدّة، بعضها فتحاويّ داخليّ؛ كالقلق من تفتّت الأصواتِ بين قوائم "فتح" الثلاثة، وقلق بعض الفصائل الصغيرة في المنظمة من إخراجها من المشهد السياسيّ (والذي لم تكن فاعلةً فيه إلا بما يخدم مصالحها الضيّقة وأجندة "فتح")، وبعضها إقليميّ ودوليّ، يتعلق بالضغوطات الأوروبيّة المتكررة والباحثة عن "شرعيّةٍ" ما تضخّها في جسم السّلطة لتستمر بدعمها ماليّاً، وتقودها مرةً أخرى إلى طاولة المفاوضات.

وبالنظر إلى الاعتبارات الداخليّة أساساً، تبحث السّلطةُ الفلسطينيّة عن السّلم الذي تنزل بواسطته عن الشّجرة التي دُفعت إليها، إنّه سلم القدس، وهو سلّم جاهز استخدمته أكثر من مرّة لتغطية عوراتِها السياسيّة. يهمنا هنا، ومن الوقوف خارج أرضية من يعتبر الانتخابات "مساراً وطنيّاً" سيُفضى إلى أفقٍ ما، الالتفاتُ إلى هذا الاستخدام المُخزي لمدينة منكوبة طالما أهملتها سياسات السّلطة وتركتها فريسةً سهلة للسياسات الإسرائيلية.

قنبلة تصريحات عن القدس

على مدار سنوات، تراكمت على أكتاف هذه المدينة وأهلها آثارُ الإهمال والإقصاء والتغييب المتعمد، وتُركت وحدها تجابه حرباً إسرائيليّة دقت باب كلّ بيت فيها، وقصمت ظهر كل عائلة. فجأة، استُدعيت "عاصمة الدولة المستقبليّة" شعاراً "وطنيّاً" مُزيّفاً يُستخدم دفعاً لـ"ضررٍ" عن مصالحٍ سلطويّة آنية. 

اقرؤوا المزيد: "انتخابات 2021.. المزيد من الأكسجين لمسار التسوية".

منذ نهاية مارس/ آذار الماضي، بدأت السّلطة الفلسطينيّة، وبالأخصّ حركة "فتح" وما معها من فصائل صغيرة، بدفع مقولة "لا انتخابات بدون القدس" إلى قلب التصريحات والخطابات السياسيّة. بدأ ذلك باعتصامٍ مفاجىء أمام المجلس التشريعيّ، فيما يشبه "المسرحية" التي خرجت لتُمهّد لفكرة التأجيل أو الإلغاء، أو على الأقلّ لترمي فتيلاً يُحوّل التأجيل "لأجل عيون القدس" إلى حديث السّاعة، والإيهام أنّ ذلك منبعه موقفٌ سياسيّ صلب نابع من الموقف من المدينة وانحياز لها وتأكيد على حقّنا فيها.

في ذلك اليوم، صرح بعض المسؤولين في حركة "فتح" بأنّه لا يمكن إجراء الانتخابات بأي حال من الأحوال دون القدس، في تصريحٍ ألمح بشكلٍ أو بآخر إلى وجود عراقيل إسرائيليّة تمنع ذلك. 

اللافت للنظر، أنّه في اليوم ذاته، عقد الاتحاد الأوروبيّ مؤتمراً صحافيّاً وقال إنّه لم يتلقَ ردّاً بعد من "إسرائيل" حول ترتيبات إجراء الانتخابات في المدينة. وعلى مدار الأسبوعين الأخيرين، تكرر هذا الخبر؛ بأن "إسرائيل" لم ترد رسميّاً بعد. بالجمع بين الأمرين، بدا وكأنّ السّلطة لا تردّ على رفضٍ إسرائيليّ لإجراء الانتخابات في القدس (حتى لو كان متوقعاً)، وإنّما كأنّها تتمنى حدوث ذلك الرفض واقعاً فتسارع لالتقاطه وتوظيفه كحجة لتأجيل الانتخابات بعد أن لاح سيناريو تفتت أصوات حركة "فتح".

بالرجوع إلى الماضي القريب، فقد دعا الرئيس محمود عبّاس في ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى عقد انتخابات فلسطينيّة، ثم استخدم القدس لتعطيلها. في حينه، قدّمت السّلطة طلباً رسميّاً من خلال رئيس هيئة الشؤون المدنية، حسين الشيخ، لدولة الاحتلال لمطالبتها بالموافقة على إجراء الانتخابات في القدس. حصل ذلك قبل أن يُصدر عبّاس أيّ مرسومٍ رئاسيّ بعقد الانتخابات، فيما بدا كأنّه يضع العصا أمام الدولاب بنفسه، ويرمي لـ"إسرائيل" حجراً كي تردّ عليه بما يُنقِذه. وفي الإعلام الإسرائيلي نشر في حينه أنّ "إسرائيل" تُقدّر أن السّلطة تقدمت بهذا الطلب حتى يُرفَض، وبالتالي تكون الحجة جاهزة عند السّلطة لتعطيل الانتخابات.  امتنعت "إسرائيل" عن الردّ حينها، ولم تتقدم فكرة إجراء الانتخابات بأي حال.

بينما نكتفي بالشعار.. "إسرائيل" تُهندس

يُذكّرنا حديث الانتخابات والقدس بالتغييب الكامل الذي تعيشه السّلطة الفلسطينيّة عن واقع القدس، سواء بفعل "إسرائيل" أو بفعل تقصيرها هي. لم تسأل هذه الجهات نفسها: ما هي علاقة المقدسيّ بمؤسسات السّلطة أصلاً؟ وكيف ينظر إليها؟ لا يتعلق هذا السؤال بموضوع التمثيل السياسيّ ولا بحقّ الانتماء الحزبيّ فقط بقدر ما يتعلق أيضاً بما حُفر على جسد هذه المدينة من سياساتٍ للفصل والشرذمة والقطع عن الامتداد الفلسطينيّ الأكبر لم تعمل السّلطة على مدار العقدين على تخطيها، بل على العكس ساهمت، بإهمالها وتقصيرها وغيابها الفعلي عن المدينة، في تثبيتها. وهو أمرُ يُدركه ويعرف شواهده كلّ مقدسيّ.

إنّ اللجوء إلى القدس عند الحاجة للتوظيف فقط ودون موقفٍ حقيقيّ منها يعني تغيباً كاملاً عن التغير الحاصل في المنظور الإسرائيليّ نحو المدينة، والذي تكثّف في السنوات السبعة الأخيرة على الأقلّ. حسمت "إسرائيل" موقفَها من شرقي القدس بشكلٍ نهائيّ، فهذه مناطق تقع تحت سيادتها، وتصرف عليها اليوم الملايين من الشواكل سعياً لإدماج سكانها في سوق العمل والمؤسسات الإسرائيليّة، وتضخّ كلَّ جهودِها لتشويه وعيهم وضبطهم. لا تتسامح "إسرائيل" اليوم مع أيّ مظهرٍ سياسيٍّ يشاغل هذه السّيادة، حتى لو كان حفلاً لاستقبال أسير أو فعاليةً ترفيهيّةً تحدث دون تصريحٍ مسبق منها.

اقرؤوا المزيد: "الخطة الخمسيّة.. ماذا تفعل "إسرائيل" في القدس؟"

من المهم التذكير وسط كل ذلك، وبغض النظر عن الموقف من الانتخابات وما يمكن أن تحمله من تعقيدات على مستوى القضية الفلسطينيّة، أنّ "إسرائيل" تعمل جاهدةً على فصل المقدسيين عن بقية الفلسطينيين، تماماً كما فعلت في الفصل بين قطاع غزّة والضفة الغربيّة، وأن منعها للانتخابات في القدس يندرج ضمن هذا الجهد، إذ لا تُريد للمقدسيين أن يكونوا جزءاً من مجتمعهم في الضفة والقطاع. في المقابل، يُطرح السؤال: هل من يستخدم "لا انتخابات بدون القدس" كشعار فقط يوظفه لمصالحه يُدرك هذه الحقيقة؟ أو يعمل على مواجهتها؟ أم تُقدّم القدس قرباناً مرةً أخرى؟

وفي السياق ذاته، يُذكّرنا حديث الانتخابات بالشكل الذي ترتضيه السّلطة للتدخل في المدينة: إنّه شكل المطالبة وانتظار الموافقة، الحديث مع الأوروبيين وانتظار الموافقة، لا فعلاً ولا خططاً ولا استماعاً للناس وهمومهم والانحياز لهم. وعند بعض الفصائل المقربة من السّلطة، والتي تنافح عن آخر فرصة لها لعدم الخروج من لعبة الانتخابات، وصل حدّ الإبداع في مستوى هذا الارتهان إلى التحذير من "الاشتباك في المدينة حتى لا نحرم المقدسيّين من حقّهم في التصويت"!

لا يعني هذا أنّ "إسرائيل" سترفض بالضرورة عقد الانتخابات في القدس، فقد توافق عليها بالحد الأدنى الذي حدّدته هي وصاغته بشروطها عام 2006. ذلك العام، كان شكل الموافقة الإسرائيلية على إجراء الانتخابات في القدس هو: السماح بالدعاية السياسيّة إلى حدّ ما (مع ملاحقة مرشحي "حماس")، والسّماح فقط لحوالي 6 آلاف مقدسي بالتصويت في مراكز البريد الإسرائيلية. أما الغالبية العظمى فقد صوّتت في الضواحي كالعيزرية والرام، أي خارج المدينة التي تُضخ فيها أبرز سياسات الاحتلال. تلك التصريحات التي تبدو قلقةً على "السيادة" في القدس، تُخفي حقيقة أن المشاركة في الانتخابات ضمن حدود القدس - إن حصلت - فستكون شكليةً وضمن سقف الشروط الإسرائيليّة.

آثار قنابل الصّوت التي ألقتها قوات الاحتلال باتجاه النّاس في شارع نابلس، بالقرب من باب العامود شمال البلدة القديمة للقدس. (عدسة مصطفى الخاروف/ الأناضول).

وفي حال الموافقة الإسرائيلية يُطرح سؤال: هل ستربط "إسرائيل" السّماح بإجراء هذه الانتخابات بثمنٍ ما أو تبحث عن "جائزة" ما لقاء ذلك؟ تقول إحدى التحليلات الإسرائيلية إنّ "إسرائيل" قد تطلب ثمناً سياسيّاً لقاء الموافقة على إجراء الانتخابات في القدس، كأنّ تطلب من الولايات المتحدة تعهداً بعدم التراجع عن الاعتراف الأميركيّ الذي أعلنه ترمب بشأن المدينة. التحليل ذاته يقول إنّ هناك من يفكر باستخدام السّماح بإجراء الانتخابات في القدس كورقة تفاوض مع السّعودية لحثّها على القبول بإعلان التطبيع مع "إسرائيل". بغض النظر عن واقعية الطرح فيما يخصّ السعودية (في الوقت الحالي)، إلا أنّه يُذكرنا بما قيل إنّه تراجعٌ عن قرار الضمّ الإسرائيلي واستخدام ذلك لتبرير التطبيع الإماراتيّ في حينه.

جرت الانتخابات أم لم تجرِ، ستعود القدس مرةً أخرى إلى دُرج المؤجل والعالق - كما وصفُها الذي منحتها إياه مفاوضات أوسلو -، إلى انتظار حدثٍ جديد تُستدعى فيه مرةً أخرى للاستخدام والتوظيف. بينما يحدث ذلك، يواظب المقدسيون وحدهم، على حماية ما تبقى لهم من وجود في مدينتهم وفي بابها باب العامود.