13 يونيو 2023

"أُنظر حولك".. عيون Apple في الضفّة

<strong>"أُنظر حولك".. عيون Apple في الضفّة</strong>

قبل أكثر من ثلاثة أشهر بدأت سيّارات تابعة لشركة "أبل" Apple، تعتليها أبراج من الكاميرات عالية الدقّة وواسعة الزوايا، بالتجوّل في شوارع الضفّة الغربيّة. ترتبط تلك الكاميرات بالأقمار الصناعيّة، ووظيفتها تصوير المدن، ولاحقاً القرى والبلدات، بخاصيّة تُسمّى Look Around، وهي كما يُسوّق لها "توفّر ميزة التجوّل ثلاثي الأبعاد في دولة فلسطين" على خرائط أبل. 

صادقت على هذا المشروع وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وتُنفّذه شركة "الراعي الصالح" بإشراف البلديات. فيما تُشير تصريحات المسؤولين في مختلف الوزارات والبلديّات إلى مباركتهم وفرحتهم بهذا المشروع. بلديّة رام الله مثلاً، زفّت الخبر للناس كالتالي: "قريباً سيصبح بإمكان مستخدمي خرائط أبل في العالم من التجوّل في مدينة رام الله افتراضياً بمناظر بانورامية ستمنحهم الشعور كما لو كانوا يتجولون حقيقة في شوارعها وأحيائها". فيما تقول صفاء الدويك، مديرة دائرة نظم المعلومات الجغرافية في البلدية، عن الخاصيّة، إنّها: "ستسمح لأهلنا في المهجر بالتجوّل في المُدن الفلسطينية افتراضيّاً بمشاهد بانوراميّة، وتمنحهم شعوراً كأنهم في شوارعها ومعالمها حقيقةً".

لكن الوزارة شدّدت أنّها لم تعطِ موافقتها لشركة "أبل" بالتنفيذ إلا بعد أن انتزعت منها اعترافاً ووضعت عليها شرطاً: توثيق اسم فلسطين على تطبيقات الشركة حال إتاحة الخاصيّة. وهم فرحون كذلك، لأنّ فلسطين أول بلد عربيّ يُنفّذ فيه المشروع أسوةً بالدول الأخرى.1بدأت أبل في تحديث خرائطها ضمن هذا المشروع عام 2018 وتوسّعت به عام 2020 ليشمل عدّة دول مثل أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، ومؤخراً في "إسرائيل". يبيّن ذلك تصريح وزير الاتصالات إسحاق سدر الذي أكّد على أهميّة المشروع "لما ينطوي على معانٍ وطنية وسيادية وسياسية، ويسهم في تعزيز موقع فلسطين على الخارطة العالمية"، كما وأشار إلى أنه "يمنح فلسطين بعداً تنموياً وسياحياً واجتماعياً ويعبر عن استخدام التكنولوجيا في عصرها الحديث". 

واستمراراً لذلك، رأى مدير دائرة الشراكات الاستراتيجية في وزارة الاتصالات أنّ الناس بحاجة إلى "التوعية" في هذه المسألة حتى لا يفزعوا من عمليّة التصوير، إذ أكد بأنّ "أبل" تحترم خصوصيّةَ الناس ولذا ستُظلّل وجوههم وأرقام مركباتهم. كما طلبت البلديّات من "السادة المواطنين التعاون وتذليل كافة العقبات أمام سيارة الشركة أثناء عملية التصوير".

هل يكفي هذا السيل من التصريحات لإشعارك بالاطمئنان وأهميّة الإنجاز؟ هذا المقال يُفسد عليك ذلك.

سيارات تتجول في مدينة بيت لحم لالتقاط الصور لصالح خرائط "أبل". (المصدر: اندبندنت عربية).
سيارات تتجول في مدينة بيت لحم لالتقاط الصور لصالح خرائط "أبل". (المصدر: اندبندنت عربية). 

السؤال نصف الإجابة، أو أكثر!

ما المهم في أن يتجوّل سكّان العالم افتراضيّاً في مدننا وقرانا؟ أمّا اللاجئون فيحتاجون إلى عودة فعليّة لا إلى مشاهد بانورامية تمنحهم شعوراً زائفاً!2هذا وأنّنا لا "نتجوّل" أثناء تنقّلنا في الضفّة، فهذا مصطلح ناعم لا يشبه ما نفعله على أرض الواقع، فالأدق أن نقول: "نتمرمط" أثناء التنقّل من مكان إلى مكان، وهو مع ذلك ليس متاحاً إلا على أقل من 40% من مساحة الضفّة، وما تبقّى للاحتلال ودولة مستوطنيه. ثمّ ما هي الصورة التي ستنقل عن واقع الضفّة؟ هل ستظهر جيبات جيش الاحتلال الإسرائيلي وهي تطلق الرصاص على الطفل محمد التميمي؟ 

اقرؤوا المزيد: "لماذا تمول مايكروسوفت مراقبة الفلسطينيين في الضفة"؟

وهبْ أنَّ تصوير المدن في أيامنا هذه ضروريّ؛ ألا يكفي أن تُكلّف البلديّة أحدهم فيأخذ على عاتقه نقل صورة المدينة وصوتها أيضاً؟ والأخيرة ميّزة ليست موجودة في المشروع الجديد. قد يقول أحدهم: لأنّ "أبل" تصوّر بتقنيات حديثة ومتطورة وتعرض ذلك بشكل فنّي جميل؛ حسناً، ما حاجتنا لهذا النوع من التصوير؟ لنظهر نظافة شوارعنا المعبّدة ولمعان أشجارنا بدقّة أعلى؟! طبعاً كلّ ذلك على افتراض أنّ هذا نابعٌ أصلاً من حاجة عندنا، فيما الذي جرى أنّ "أبل" طرحت المشروع فتمت الموافقة عليه، ثمّ فجأة صرنا نُنظّر له!

السؤال الأهم الذي يجب طرحه: ما الذي تريده "أبل" من هذا المشروع؟ ثمّ من أين تأتي كلّ هذه الثقة عند مسؤولينا بالشركة الأميركية العملاقة؟

لا تتحمّس قبل خلفيّة مسبقة

بحسب تقرير نشرته "الجارديان"، تلقّت شركة "أبل" أكثر من 7 آلاف طلب من الجهات الحكومية في الولايات المتحدة بتسليم بيانات لحسابات أكثر من 22 ألف شخص، وهذا في النصف الأول من عام 2021 فقط، وقد استجابت الشركة لـ 90% من هذه الطلبات. تسلّم "أبل" معلومات مثل: محتوى iCloud، السجّلات المفصّلة للوقت والتاريخ، الصور والمستندات وجهات الاتصال والتقويمات، سجل تصفح Safari وسجل بحث الخرائط وتاريخ واستلام البريد الإلكتروني حتّى 25 يوماً، النسخ الاحتياطيّة لجهاز iOS المخزنة، رسائل iMessage، وغير ذلك؛ أي جميع المعلومات، وهذا أمر تصرّح به الشركة نفسها. 

انتبه! إنّها تسلّم ذلك لا إلى شركة ربحيّة بهدف الإعلانات (مع خطورة ذلك)، بل إلى حكومات واستخبارات بغية التجسس. 

ولا تقتصر إتاحة "أبل" للبيانات والمعلومات على الحكومة الأميركيّة، فأكثر من 170 جهة وسلطة محلية بين عامي 2013-2020 طلبت بيانات المستخدمين من شركات مثلَ "أبل" و"غوغل" و"فيسبوك" و"مايكروسوفت"، وذلك بحسب تقرير نشره "كالكالستك" الإسرائيلي. من بين هذه الشركات، كانت "أبل" الأكثر امتثالاً وتعاطياً مع الطلبات، بنسبة تفوق الـ 80%. وللمفارقة، فقد كانت "إسرائيل" أكثر الجهات طلباً لـ "البيانات الضخمة" (Big Data) في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا، إذ حلّت في المرتبة 12 من حيث كمية الطلبات التي تقدّمها للحصول على بيانات المستخدمين في العالم، وهي تقدّم طلباتٍ للحصول على تلك البيانات بنسبة تفوق المتوسط العالمي بـ 173%. 

هذه هي "إسرائيل"؛ طالبٌ نهم للمعلومات. وهذه هي "أبل"؛ صاحبة لواء "الخصوصيّة"؛ الشعار المضلّل الذي بات باباً خلفيّاً تتسلّل منه الحكومات للتجسّس. 

سبق مشروع "أبل" هذا مشروع مشابه لشركة "غوغل" أُطلق عليه: Google Street View، حيث صوّرت الشركة العملاقة قبل سنوات أربعة مدن هي بيت لحم ورام الله وأريحا ونابلس، ويُقال إنّ التصوير اقتصر على شوارع محدودة. 

اقرؤوا المزيد: "غوغل والاستخبارات.. معلوماتك التي لا تظهر في الإعلانات".

دغدغ المشروع وقتها مشاعر "التقدّم التكنولوجي" عند كثيرين، وهي مشاعر تقف -كما مع "أبل" الآن- على أرضيّة من إحسان النوايا لا تنسجم مع حجم ودور مثل هذه الشركات وعلاقاتها. فعلى سبيل المثال؛ حين طافت "غوغل" عام 2010 أرجاء العالم في مشروعها الذي ذكرنا أعلاه، كانت تمتلك ذات السيّارات والكاميرات التي لـ "أبل"، وأعلنت ذات الغاية بتصوير الشوارع والأزقة والمنازل والحدائق ومراكز التسوّق لرفعها على الخرائط، ولكنّ سيّاراتها كما كُشف كانت مجّهزة بتقنيّات تتيح لها اختراق الشبكات المحلّية، فاخترقت مثلاً عناوين MAC ومعرّف مجموعات الخدمات SSID والرسائل الإلكترونيّة وكلمات السرّ الخاصّة بالمواطنين.3للمزيد؛ أنظر: فريكه ونوفاك، (2017). "ملف غوغل". ترجمة: عدنان عبّاس علي. سلسلة "عالم المعرفة" العدد 450. الشركة ذاتها، تعاونت عام 2012 في إطلاق قمر صناعي مع الممثل الأميركي جورج كلوني "لرصد احتمال انتهاكات حقوق الإنسان في السودان" كما روّجوا، فيما تبيّن لاحقاً نشاطه التجسّسي والاستخباراتي، الذي تكثّف في اعتماد "إسرائيل" عليه لتحديد إحداثيات "مصنع اليرموك"، الذي قًصفته بتهمة تصنيع الأسلحة لحركة "حماس". 

"فتوجّس في نفسه خيفة"

حسناً إذن؛ ألا تبعث مثل هذه الأخبار على التوجّس؟ خصوصاً وأنّ الضفّة تشهد تصاعداً بالعمليات الفدائية، وتزايداً في أعداد المطاردين من أبناء التشكيلات المقاومة، والاحتلال يسعى بشتّى الوسائل، أبرزها جمع المعلومات، لإخماد الحالة. وللمفارقة، فلقد طلبت المؤسسة الأمنيّة الفلسطينية ألا تُصوّر بعض مواقعها. 

إنّ أمن الناس في فلسطين ليس في تغبيش وجوههم ولوحات مركباتهم. كما إنّ تصوير مدننا وقرانا بتقنيّات عالية ليس مدعاةً للفرح، ولا يجب أن يُقرأ كتقدّم تكنولوجي، فنحن في عصر تتنافس فيه القوى على جمع المعلومات حول نشاط الناس ونمط حياتهم وتفضيلاتهم وأماكن تواجدهم وسيرهم الذاتية وعلاقاتهم وغيرها، ثمّ تحويل هذا كلّه إلى معطيات استخباراتيّة. 

نحن في مرحلة أقل ما يقالّ إنّنا فيها على المحكّ، مدّ وجزرٌ وظروف صعبة ومركّبة، كلّ شيء فيها يمكن أن يتحوّل لخطر أمنيّ، والأسئلة وإن بدت مبالغاً فيها، فإنّها تبقى أفضل من الاستهتار. هكذا تعوّدنا نحن الفلسطينيون، أن نتوجّس من الطارئ الغريب؛ ألا تُكشف الوحدات الإسرائيليّة الخاصّة بهذه الحساسيّة؟ أما الارتياح التامّ وتوزيّع أختام الثقة بالمجّان، فهذا هو الغريب.